محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الأخبار

صفحة من تاريخ مصر

محمد السيد عيد

السبت، 21 أغسطس 2021 - 06:54 م

هذا العام يوافق مرور خمسة وثمانين عاماً على توقيع معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا العظمى، كما يوافق سبعين عاماً على إلغائها عام 1951. 

وهذه المعاهدة كانت تمثل عند عقدها خطوة مهمة على طريق الاستقلال، كما كان إلغاؤها يمثل ثورة على الاحتلال قادتها حكومة الوفد وأكملتها ثورة يوليو 52. لهذا سنخصص هذا المقال للحديث عن المعاهدة وإلغائها باعتبارها صفحة من تاريخ مصر.


القاهرة فى 3 مارس 1936


وقفت سيارة النحاس باشا زعيم الوفد أمام قصر الزعفران (مقر إدارة جامعة عين شمس حالياً) . نزل الرجل فى نشاط ملحوظ . كان قصير القامة. فى إحدى عينيه حول، لكن عينيه تعكسان قوة شخصيةً.  سار بهمة. دخل قاعة الاجتماعات. حيا الحاضرين، فردوا التحية، ثم اتخذ مكانه على المنصة إلى جوار  السير مايلز لامبسون السفير البريطانى فى مصر.


كان النحاس باشا على رأس جبهة للتفاوض مع الإنجليز حول الاستقلال، تضم رؤساء الأحزاب (عدا الحزب الوطنى، لأن مبدأه كان: لامفاوضة إلا بعد الجلاء)، وبعض الشخصيات المستقلة وبعض الشخصيات الوفدية. أما الإنجليز فكان يرأس وفدهم للمفاوضات السير مايلز لامبسون نفسه، ومعه بعض الشخصيات من السفارة،  ألقى النحاس باشا كلمة افتتاحية، قال فيها: «إن المعاهدة التى تدعم صداقتنا ليست فقط ضرورة سياسية  للبلدين، ولكنها أيضاً وفوق كل شيء ضرورة معنوية للإنسانية. فهى بشير بعهد سلام وإخاء بين شعوب الشرق وبين الدولة الغربية التى هى مهد للديمقراطية والحرية»، ورد سير لامبسون على كلمته بكلمة أخرى. وافقه فيها على ما قال.

وزاد عليه أن الحكومة البريطانية سعيدة بأن تجدد مسعاها للاتفاق مع الجبهة المؤلفة من جميع الأحزاب المصرية. ودار النقاش طويلاً حول اتفاقية 28 فبراير 1922. فقد كانت هذه الاتفاقية تتضمن تحفظات أربعة، تنتقص من استقلال مصر، واتفق الجميع على إلغائها. لكن أكثر ما شغل الجانب المصرى خلال المفاوضات بعد ذلك هو وضع الجيش البريطانى فى مصر، وطالب المصريون بأن تترك القوات الإنجليزية المدن المصرية، وأن تتركز فى منطقة القناة، وطرح الطرفان آراءهما. ثم أضاف محمد محمود باشا مسألة مهمة رأى ضرورة النص عليها فى المعاهدة، وهى حق مصر فى إلغاء الامتيازات الأجنبية، وضرورة مساعدة بريطانيا لمصر فى هذا الصدد . وجرت فى النهر مياه كثيرة، وفى النهاية تم الاتفاق على بنود المعاهدة.  


لندن فى 26 أغسطس 1936


توقفت عدة سيارات سوداء أمام وزارة الخارجية الإنجليزية. نزل من السيارة الأولى  النحاس باشا رئيس الوفد المصرى ورئيس وزرائها، ونزل من السيارات التالية أعضاء الوفد. ساروا فى وقار ومهابة نحو المبنى العريق. كان فى استقبالهم أنتونى إيدن وزير الخارجية، والسير مايلز لامبسون، والمستشار القضائى لوزارة الخارجية، الذى صاغ المعاهدة فى ثوبها القانوني.


تحرك الجميع نحو القاعة المعدة للتوقيع. وحين جاء وقت التوقيع تقدم النحاس باشا للتوقيع باسم مصر، وتقدم أنتونى إيدن للتوقيع باسم بريطانيا العظمى.
صفق الحاضرون، وصفق المصريون معهم رغم أن بعضهم كانوا غير راضين عن أشياء كثيرة فى المعاهدة، فحين طالب المصريون -مثلاً- بجلاء القوات الإنجليزية عن المدن والتمركز فى منطقة القناة طلب الإنجليز من المصريين أن يجهزوا لهم المعسكرات البديلة على نفقة مصر، وحين ناقشوا موضوع مساعدة مصر لبريطانيا وقت الحرب، بالسماح لقواتها باستخدام الموانى والمطارات والطرق المصرية، طلب الإنجليز أن يتحمل المصريون تكاليف إنشاء الطرق اللازمة لتحركات الجيش الإنجليزى فى طول البلاد وعرضها. كما طلب الإنجليز أن يكون نظام الجيش المصرى وتسليحه وفقا لنظام الجيش الإنجليزى وتسليحه ليضمنوا السيطرة عليه. رضى المصريون بهذه البنود على مضض، لأنهم كانوا يعلمون أن الاحتلال له ثمنه. ولأن هذه المعاهدة كانت أفضل من تصريح 28 فبراير.


بعد التوقيع سمى النحاس باشا المعاهدة «معاهدة الشرف والاستقلال»، ونظم الوفد الاحتفالات الشعبية لاستقبال المفاوضين عند عودتهم، وأقام أقواس النصر ليمروا من تحتها، وألقيت الكلمات الرنانة فى مدح المعاهدة. واعتبرها الكثيرون خطوة على طريق الاستقلال.


8 أكتوبر 1951


اتفق الطرفان على أن مدة المعاهدة عشرون عاماً، أى أن تنتهى فى 26 أغسطس 1956، لكن الممارسة أثبتت أن شروط المعاهدة كانت قاسية، وأن مصر لا يمكن أن تنتظر حتى تمر الأعوام العشرون، لذلك فحين تولى الوفد الحكم فى يناير 1950 طلب من الإنجليز التفاوض مرة أخرى حول الاتفاقية، ماطل الإنجليز، استمرت المفاوضات معهم تسعة أشهر دون أن تصل إلى نتيجة، حينئذ وقف النحاس باشا فى مجلس الشيوخ خطيباً وأعلن:


«حضرات الشيوخ والنواب المحترمين.. من أجل مصر وقعت معاهدة 36، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها» وتم إلغاء المعاهدة من جانب واحد، واعتبُر الجيش الإنجليزى جيش احتلال. وبدأ المصريون المقاومة. 


الأرزاق على الله


عقد موردو العمال الذين يوردون العمالة  للمعسكرات الإنجليزية، اجتماعاً فور إلغاء المعاهدة للتشاور حول موقفهم من التعامل مع المحتل:
قال أحد الموردين: إحنا دلوقت بنورد العمال لمعسكرات الإنجليز، وانا رأيى إننا لازم نوقف أى تعاون مع الانجليز بعد إلغاء المعاهدة. مش معقول حنخون بلدنا علشان لقمة العيش.


حاول آخر أن يحذر من حجم المشكلة. قال: لاحظوا يا حضرات إن عدد العمال دول ستين ألف عامل، حيروحوا فين لو سابوا الكامب؟
جاءه الرد حاسماً من الباقين:


الأرزاق على الله مش على الإنجليز


قال مورد: أنا شخصياً حاوقف توريد العمال للكامب، وحاسحب العمال بتوعى من بكره


وتعالت الأصوات مؤيدة: وانا كمان، وانا، وانا .


وواجه الإنجليز موقفاً لا يحسدون عليه، لكن الجنرال أرسكين قائد القوات الإنجليزية بمنطقة القناة لم يستسلم. قال فى عناد:هل يتحدانا المصريون؟ حسناً. سأحضر عمالاً من خارج مصر مهما كلفونا، لكننا لن ننحنى أمام المصريين.


الحكومة تؤازر العمال


قرر النحاس باشا عدم التخلى عن هؤلاء العمال. جمع الوزراء وقال لهم: ما يقوم به هؤلاء العمال شيء عظيم، سيسجله لهم التاريخ الوطني، لذلك لا بد من دعمهم. تطلعت العيون للنحاس لتعرف مقترحاته لتدعيم العمال. قال: لابد من تدبير سكن لهم، العمال الذين لا يمكننا تدبير سكن لهم تنصب لهم خيام لحين تدبير السكن المناسب. باختصار لا بد من تقديم كل المساعدات الممكنة لهم كل وزير فى اختصاصه.


وصمد العمال المصريون.


اللقمة خسارة فيهم


لم يكتف المصريون بانقطاع العمال عن العمل، لكن الموردين أيضاً الذين يوردون الطعام ولوازم الحياة اليومية للمعسكرت عقدوا اجتماعاً آخر، وقرروا وقف كل التوريدات للمعسكرات الإنجليزية، وللمرة الثانية قرر الجنرال أرسكين مواجهة التحدى. قال: لا يهم. سنشترى كل احتياجاتنا من خارج مصر.


التحدى الأكبر


انضم بعض ضباط الجيش المصرى للمقاومة، منهم: كمال رفعت، حسن التهامي، ولطفى واكد. التقى هؤلاء الضباط  الثلاثة ليفكروا فيم يفعلونه للإضرار بالمحتل الإنجليزى. سأل أحدهم: بم نبدأ الكفاح ضد الإنجليز؟ قال آخر: عندى فكرة مدهشة. سارع الثالث بالسؤال: ماهى؟


إذا كان الموردون انقطعوا عن توريد الطعام، فسنقطع نحن عن الإنجليز الماء. ولنرى كيف سيعيشون بلا ماء.


أكمل فكرتك


سنضرب الخزان الذى يمد المعسكرات الإنجليزية بالماء. 


فكرة رائعة


أنا أوافق عليها. لنبدأ التنفيذ


وضرب الرجال خزان المياه، وعرف الإنجليز أن معاندة المصريين لها ثمن فادح، وأن ثمن بقائهم فى مصر أكبر من أن يقدروا عليه.


الانتقام


قرر الجنرال أرسكين قائد القوات الإنجليزية فى منطقة القناة أن يرد على تصرفات المصريين تجاه قواته، وأن يكون الرد قاسياً لأقصى درجة. توجه إلى محافظة السويس. قال للمحافظ بعنجهية: سيادة المحافظ، لقد رصدت قواتنا اختباء عناصر المقاومة فى كفر عبده، لذلك قررت أن أزيل كفر عبده من على الخريطة.


هذا كلام خطير جنرال أرسكين


أنا أمهلكم أربعاً وعشرين ساعة لإخلاء الحي، فإذا لم يتم إخلاؤه فسوف أهدمه على من فيه.


عفواً سيادة الجنرال، أنا لا يمكننى اتخاذ قرار فى هذا الشأن. من فضلك اعطنى فرصة للاتصال بوزير الداخلية.


-تصرف كما يحلو لك. أمامك 24 ساعة


اتصل المحافظ بفؤاد سراج الدين وزير الداخلية فى هذا الوقت. قال سراج الدين بصوت غاضب: الإنجليز يهددوننا، يظنون أننا سنخاف؟ حسناً، لن نخاف. سيادة المحافظ، أرفض الإنذار، وقاوم أى اعتداء ضد كفر عبده، وانتظر منى تليفوناً آخر، فلا بد من عرض الأمر على النحاس باشا حالاً.


جمع النحاس مجلس الوزراء فوراً. عرض عليهم الموقف. خلال الاجتماع قال الدكتور محمد صلاح الدين وزير الخارجية: أنا أرى أنه يجب الاتصال بالسفير البريطانى  ليتدخل فى الأمر. المفروض أن السياسيين هم أصحاب القرارات وليس الجنرالات.


وتم الاتصال بالسفير البريطانى على عجل ليتدخل فى الأمر، لكن الجنرال أرسكين رفض أن يسمع له. وهنا قال النحاس لفؤاد سراج الدين: بلغ المحافظ أنى أفوضه بسلطات رئيس الوزراء ليتخذ القرار الذى يراه مناسباً فى مواجهة هذه الأزمة.


وحركت بريطانيا العظمى قواتها ضد كفر صغير، اسمه: كفر عبده فى 8 ديسمبر 1951، قوات عددها:


ستة آلاف جندى


خمسمائة مصفحة


مائتان وخمسون دبابة


خمسون سيارة عسكرية


عدد من الطائرات


ووجد المحافظ نفسه فى موقف لا يحسد عليه. دعا الله أن يلهمه الصواب، لأن العناد معناه التضحية بثلاثة آلاف أسرة، ولأنه لا يوجد أى تكافؤ بين سكان الحى العزل وقوات الجيش البريطانى الجرارة أصدر الرجل أوامره بإخلاء الكفر. وقصفت القوات المحتلة الكفر. سوته بالأرض.

لم تبق فيه حجراً فوق حجر. لكن المصريين لم يتوقفوا عن المقاومة. فضرب الإنجليز قسم الشرطة فى الإسماعيلية، وعاند المصريون ولم يتوقفوا، لولا أن القاهرة احترقت فى يناير 1952. 


ثم جاء الخلاص


فى عز الظلمة فج النور. بعد شهور قلائل من حريق القاهرة، بالتحديد فى شهر يوليو 1952، قامت الثورة المجيدة، ولم تلبث أن عقدت معاهدة الجلاء مع الإنجليز، وأغلقت صفحة سوداء فى تاريخ مصر استمرت أكثر من سبعين عاماً.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة