سلمى قاسم جودة
سلمى قاسم جودة


سلمى قاسم جودة تكتب «لحظة وعي» :

نجيب محفوظ عاشق النيل

آخر ساعة

الأحد، 29 أغسطس 2021 - 12:54 م

ألف حياة وحياة..ألف قاهرة وقاهرة.. دنيا خالدة شيدها نجيب محفوظ عبر عالمه الإبداعى فاحش الثراء.. أتقن بعبقرية استثنائية تخليد العدم.. كل ما هو عابر.. هش، يموت بموت الأشخاص، الأزمنة والأمكنة، فهشّم تلك الآفة الجهنمية المسماة الفناء ليهبنا من خلال أدبه العظيم حيوات سرمدية، نضرة لا تشيخ وإذا كانت الوظيفة، الحارة والمقهى هى الركائز الأساسية لأدبه، فأضيف النيل هو بمثابة القرين الأزلى لنجيب محفوظ  نهل من  سماته فهو الخصب، الخالد، السائل والثابت، العابر والحاضر، المقيم الملهم والمضيء، على ضفافه عاش الأستاذ.. تأمل، حلم، انتبه، هام وتماهى مع الكائن الفضى قال: «فى الأوقات التى كنت أجلس فيها بمفردى على شاطئ النيل، كنت أشعر وكأن هناك علاقة حب ومودة تربطنى بالنيل فأناجيه وأتحاور معه كأنه شخص آخر، وأحيانا كنت أظل محدقا فيه لا أشبع من النظر إليه».
تجليات النيل سرت فى إبداعات نجيب محفوظ، فكان للنهر عظيم الأثر فى حياته وأدبه، فهو أحب الأماكن إلى نفسه بعد الحسين يقول: «كنت أستمتع وأنا صغير بمنظر النيل  عندما أقف مع أمى فوق كوبرى أبوالعلا أو كوبرى قصر النيل، وعندما التحقت بالجامعة، كنت أحب الجلوس على النيل فى المكان الذى شُيدت فوقه حاليا الكازينوهات، ولكنه فى تلك  الأيام كان أرضا خضراء، كنت أحمل معى مخدة، من المطاط وأجلس عليها أمام النيل إلى منتصف الليل خاصة فى الليالى القمرية، وكان الشارع المجاور للنيل هادئا وتصطف فيه السرايات، وعندما تكونت «شلة الحرافيش» أرشدتهم إلى هذا المكان، وأول من أطلق اسم الحرافيش على الشلة هو الفنان أحمد مظهر، ويبدو أنه قرأ اللفظ فى كتاب للجبرتي، ووجدناه مناسبا لحالة الصعلكة التى كنا نعيشها، وبدأت الحرافيش تسهر فى هذا المكان الذى اكتشفته، وأطلقوا عليه اسم «الدائرة المشئومة» وكانت التسمية تدل على حالة الإحباط  والتشاؤم التى كنا نعيشها فى تلك الفترة».


 فى 30 أغسطس 2006 كان رحيله.. خمسة عشر عاما مرت على غيابه، لكن عندما يعتصرنى الشوق إلى وجوده أقول هو مسافر زاده الخلود لا يغيب فهو الساكن دوما فى الوجدان، الوعى  والذاكرة الحافلة بحضوره المهيب، النبيل، هو المحمل بخبيئة ٧ آلاف عام بقلمه الغائر وحكمته الثاقبة، على شاطئ النيل كانت أغلب  مقابلاتى معه، البداية  كازينو قصر النيل، أذهب  للقاء الأول مسكونة بالارتباك العامر بحماس وشغف طزاجة الخروج للتو من المراهقة.. الوقت عصرا وأشعة الشمس تلفظ ذهبها فى عذوبة لتتناغم مع الفضة السائلة للنهر، يتداعى الارتباك المنهك فى مواجهة تواضعه الجم، أسأله عن شخصية الانتهازى فى إبداعاته من محجوب عبدالدايم فى القاهرة الجديدة، إلى حميدة فى «زقاق المدق» وعيسى الدباغ فى «السمان والخريف»، فسرحان البحيرى فى «ميرامار»، ورؤوف علوان فى «اللص والكلاب»، ثم ألقاه أيضا والنيل ثالثنا فى فندق «شبرد»، ألتقى هناك على سالم، سعيد الكفراوى وتتوالى عشرات المقابلات مع الأستاذ ربما ٥٠ ، ٦٠ لقاء، ١٧٢ شارع النيل العجوزة أحيانا أسير إلى منزله فهو يبعد عنى بضعة أمتار، فبعد العيش لسنوات فى الدهبية قرر بعد حادثة غرق لطفلة الجيران أن يسكن فى شقة، وهو لا يقبل  فراق النيل قرينه الأزلى ونديمه المحبب الذى ألهمه أروع الكتابات «كفاح طيبة»، (ثرثرة فوق النيل)، (بداية ونهاية)، (بين القصرين) و(قصر الشوق)، أما السكن فى الدهبية منذ ١٩٥٤ وحتى ١٩٦١ فكان بتأثير من صديقة الكاتب محمد عفيفى الذى يسكن دهبية قبل الانتقال إلى الهرم، حيث سهرات الحرافيش أحمد مظهر، ثروت أباظة، توفيق صالح، عادل كامل.. يوسف نجم.. يقول نجيب: «أتذكر صباحات رائعة فى نافذة (الدهبية) واستمتعت بمنظر النيل والزهور فى شارع الجبلاية، وفى الليل كنت أسهر مع القمر».. من ينسى نيل نجيب محفوظ، هو البداية والنهاية ابتلع نفيسة وحسنين.. فرغم الجمال والعطاء فهو أيضا قادر على أن يأخذ بقسوة، من ينسى عوامة السقوط والضياع، تلك التى تتجاذبها تيارات الفساد والتيه فى (ثرثرة فوق النيل)، ثم اللذة الجامحة وشهوة الليالى فى دهبيات الثلاثية.. كلما مررت بكوبرى قصر النيل والشارع الطويل على ضفاف النهر أسترجع نجيب محفوظ السائر بخطواته المألوفة الرشيقة أشبه بالمسرنم العائش فى منطقة وسطى بين الحقيقة والخيال بين الحلم واليقظة والحنين الذى لا يسكن إلا بالكتابة.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة