عمرو الديب
عمرو الديب


صدى الصوت

يعيش نجيب محفوظ!

عمرو الديب

الأحد، 29 أغسطس 2021 - 08:22 م

يبدو الغياب بالنسبة إليهم معنى مجازيا،وليس حقيقيا،وأمرا عارضا لا يشمل وجودهم كله،فالجسد هو فقط من سكن التراب،وذاب فى نسيج الأرض الحاضن،أما الآثار فباقية لا تعرف الفناء،كامنة أو ظاهرة جلية أو خفية،وهى فى كل الأحوال رابضة،تنتظر أذكياء الأفئدة،ومرهفى الوجدان كى يتواصلوا معها،وينصتوا إلى نغماتها ورنين معزوفاتها،وسائر الناس يغيبون كلية إلا من ذكريات تبقى فى نفوس أقربائهم وأحبائهم ومعارفهم،ولكن المبدعين يبقون فى آثارهم،وما عملته أيديهم،يفنى الجسد،ويبقى الصوت والأثر حيا متأهبا دوما للوصال ومصافحة الراغبين،فقد يغيب الناى ولكن أصداء الألحان تبقى،وتتردد فى الجنبات،كلما أرهف السمع عاشق،عانقته تلك الأصداء،وسامرته هذه النغمات،وأمتعته المعزوفات الباقية بأصالتها وفرادتها وبصماتها الحية المذهلة،وأديب مصر العالمى حقا نجيب محفوظ أحد هؤلاء الخالدين بجدارة وعن استحقاق،فعالمه الخصب إلى حد الذهول،وتراثه الثرى إلى غاية الإبهار أصعداه إلى ذرى الخلود،وهو أحد الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة على مستوى عالمنا العربى كله،ممن تفردوا بالقدرة الفذة على الإفصاح عن أدق خلجات النفس المصرية فى ظل تحولاتها المصيرية،ومنعطفات تاريخها المفصلية،وقد عبر-ببراعة- غير مسبوقة فى أدبنا العربى على امتداد تاريخه،عن ذلك التشابك المعقد المنعقد بين شجون النفس الباطنية،والتحولات الاجتماعية اللاهثة،والظروف البيئية المحيطة بكل تنوعاتها وتبايناتها وتناقضاتها،وقد أبحر قلمه المذهل عبر المساحات الشاسعة الهائلة،وسافرمجتازا شتى تضاريسها والتواءات تكوينها الاجتماعية والثقافية،خائضا الغمار المعقد الغامض و المحيط الزخار المضطرب،ليجسد لنا اللحظات الفريدة،والمشاهد الفاصلة والمفترقات الحاسمة،لوطن يرنو إلى الغد ويجتاز عتبات عصور مميزة فى مسارات الدهور موثقا رحلة أمة بأسرها،وقد أدرك محفوظ - الذى نحتفل هذه الأيام بذكرى رحيله عن عالمنا- بفداحة المهمة،وهى تجسيد تحولات أمة بأكملها فى عصور مثقلة بالتغيرات الهائلة التى شملت الإنسانية بأجمعها،وهالته وطأة التبعة التى يتصدى لاحتمالها عبر مشروعه الإبداعى الفذ فى شقيه : الروائى والقصصي،ولكنه لم يجفل ويول هاربا،وتصدى إلى المسئولية فى جرأة وشجاعة نادرة،وعاش مخلصا لمشروعه،وفيا لمهمته،لذلك أقول سيعيش نجيب محفوظ طويلا،وسيموت كثيرون من الأدعياء الذين ملأوا الدنيا ضجيجا بلا رصيد حقيقى !

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة