كتاب قطار الليل إلى تل أبيب
كتاب قطار الليل إلى تل أبيب


قطار الليل إلى تل أبيب: متعة التنقيب عن الأسرار والألغاز

أخبار الأدب

الأحد، 05 سبتمبر 2021 - 02:40 م

 

محمد سليم شوشة
 

تمثل رواية «قطار الليل إلى تل أبيب» للروائية المصرية رشا عدلى  واحدة من أهم الروايات المصرية الصادرة مؤخرا هذا العام وذلك لعدد من الاعتبارات، أولها أنها تمثل السمت العام لروايات رشا عدلى التاريخية التى تعتمد على التنقيب فى مساحة خاصة من التاريخ وتحاول أن يكون لها فى رواياتها كشوفها الخاصة أو نواتجها التى ترتبط بجهدها وبحثها. رواية قطار الليل إلى تل أبيب يتصور المتلقى بسهولة قدر ما وراءها من جهد وكم وافر من التنقيب فى صفحات التاريخ ومراحله وشخصياته وعلمائه وحكامه، ويمكن أن يتصور بسهولة أن رواية مثل هذه تم الرجوع فيها إلى كم وافر من المراجع وكتب التراث. 


من ناحية المضمون او المحتوى السردى والنواتج الدلالية نجد أنها رواية تاريخية لجأت إلى مساحة خاصة قد تكون معتمة ومغلقة بدرجة ما على الروائيين العرب أو المسلمين بشكل خاص، ففيها بحث فى العقيدة اليهودية والفكر اليهودى ومقاربة شاملة ووفية لواحد من أبرز علماء اليهود وهو موسى بن ميمون الطبيب والفيلسوف وعالم الدين اليهود الذى أثارت مؤلفاته الجدل والخلاف والنقاش فى العقيدة اليهودية والفكر الدينى لديهم كما لدى الإنسانية بشكل عام. ولا تقوم الرواية فقط على حياة موسى بن ميمون، بل تقارب البدايات الأولى لقيام دولة إسرائيل وهذا الحلم القديم وتتبعه الرواية منذ جذوره التاريخية البعيدة حين كان حلما يتخطى عمرة 15 قرنا، وبحثت بشكل وافر فى الجهود والأدوار الصهيونية التى قامت على تأسيس الدولة وبحثت فى تاريخ الجمعيات الخيرية والأهلية التى كانت لها توجه صهيونى سواء فى الشرق أو فى العالم بشكل عام، وبخاصة تلك التى كانت فى مصر ومراحل التحول فى العمل من العلن إلى السرية إلى الحرب، وركزت على واحدة من أهم التنظيمات السرية وهو تنظيم إخوان صهيون فى مصر. والحقيقة أن منجز الرواية يتخطى مسألة الاستعراض التاريخى أو البحث والتنقيب فى هذه الصفحات التى ربما لا تكون معلومة لدينا أو مطروحة بهذه الوفرة فى رواية قطار الليل إلى تل أبيب؛ ذلك لأن خطاب الرواية بالأساس ركز على القيم الإنسانية وعلى أبعاد الحكاية وعلى الصنعة الروائية والتشويق ولم ينزلق إلى الكتابة التاريخية المملة أو الرتيبة، وهذا ما يتضح من الأنماط الإنسانية والنماذج من الشخصيات التى شكلها خطاب هذه الرواية أو اعتمدها لتكوين عالمه السردي، فنحن لدى أنماط إنسانية فى غاية الثراء فى تكوينها وأبعادها، ويصبح من السهل أن يندمج معها المتلقي، وبخاصة شخصية عزرا كوهين رئيس هذه الرابطة أو المنظمة الصهيونية فى مصر «إخوان صهيون»، فهو نمط إنسانى يتسم بحيوية كبيرة ونبض وحيوية نادرين، ويصبح قريبا من المتلقى بجوهره أو حقيقته وتشكيله، متكاملا بتشوهاته وأحقاده وأزماته النفسية وشعوره بعدم الانتماء إلى مصر، وربما من الجميل فى الرواية قدر تنقيبها فى تحولات القانون المصرى والتشريعات التى كانت فى فترة العشرينيات فترة الملك فؤاد الأول ومن بعده حكم فاروق ومقاربتها لهذا السياق الحضارى والتشريعى والسياسى بشكل كامل وكافة ما تم فيه من تغيرات أسهمت فى تعميق أزمة يهود مصر وجعلته لدى كثيرين منهم أزمة حقيقية دفعت فى اتجاه تغذية الفكر الصهيونى وهذا بخلاف الشائع من أن كافة أزمات اليهود فى مصر كانت عقب هزيمة العرب فى 48 وبعدها بقليل فى حكم ثورة يوليو، لتكشف الرواية عن جذور هذا الفكر فى مصر وتحولاته وينعكس ذلك كله على الشخصيات والنماذج الإنسانية التى يطرحها السرد.
>>>
الحقيقة إن الرواية من حيث المضمون أو الحكاية التى يقوم عليها الخطاب نجد أنها مركبة وثرية وتبحر فى التاريخ بطبقاته المختلفة ومراحله المتفاوتة ما بين القديم والوسيط والتاريخ القديم، تاريخ اليهودية ما قبل الميلاد مع المصريين والبابليين ومع الرومان ومع أنفسهم، وتاريخهم الوسيط مع المسلمين والمسيحيين، ثم تاريخهم الحديث مع بدايات الجهود الحقيقية لقيام دولتهم فى فلسطين، وعلاقاتهم الدولية وبخاصة مع إنجلترا وعلاقة الفكر الصهيونى وربما بعض الاتجاهات العنصرية والدينية الأخرى بالاستعمار وما بعده وترتيب أوراق المنطقة أو الشرق الأوسط، وغيرها الكثير من العلاقات التاريخية المعقدة والمتشابكة والأسرار سواء المرتبطة بالاختراقات أو التمويل أو جمع التبرعات وحركة الأموال وشراء الأراضى فى فلسطين وما كان من بعض المقاومة أو محاولات التصدي، ومنها الطريف مثلا من استخدام الصليب الأحمر أو توظيفه والاستعانة به عبر حيل معينة تكشف عنها الرواية. ثم الجانب التاريخى المهم الذى سبق وأشرت له وهو المرتبط بموسى بن ميمون وحركته فى العالم الإسلامى وجهوده وعلمه وأفكاره وكتبه وتحريفاتها وما تم عليها من التزوير أو التحريف والإفساد وما مثل تراثه بشكل عام، وهى رواية داخل الرواية وحكاية جديرة بكل تقدير لثرائها وتقاطعاتها مع كثير من الجوانب المهمة فى تاريخ العرب والمسلمين شرقا وغربا وتاريخ جهودهم فى الفلسفة وعلوم الدين أو المسائل الدينية والكونية والطب والترجمة وعلاقته بابن رشد أو غيره الكثيرين من العلماء، فكل هذا حاضر فى الرواية وفق استقصاء ووفق عرض سردى لها بنيته الفنية القائمة على حيلة من الفنتازيا جعلته وحدة مركبة بإحكام فى جسد الرواية بوصفها كلا متكاملا، وعبر موتيفات أو محفزات جعلت شخصيات الحاضر مرتبطة بإحكام بشخصيات الماضى إلى حد التقائها أو تداخلها وتقاطعها فى الزمن والأفكار والمفاجآت.


الجانب المهم فى هذه الرواية وهو البناء أو ما يخص الشكل السردى وتقنياته وكيف يمكن أن يسيطر على كل هذه المادة المتشعبة والحكايات الكثيرة المتفرعة أو الإطارية التى ترتسم بها ملامح العالم الحكائي، فنجد أن كل حكاية أو خط درامى يرتبط بالخطوط الأخرى ولا يبدو نابيا أو فيه إقحام أو تعسف، بل كلها ترتبط بالأساس بالفكر اليهودى ووثائق الجينزا هذه الطائفة التى كانت تقوم على دفن الكتابات والوثائق والأوراق، وهكذا فإن كل الحكايات تبدو ظلالا لبعضها، وذات ارتباط معنوى واضح أو لا يحتاج إلى تأويل. وبرغم التباعد فى الزمن فإنها قد تتمحول وتلتف ببعضها عبر أكثر من محور موضوعي، أبرزها جذور المسألة الصهيونية أو فكرة الوثائق بحد ذاتها هى كافية لأن عمر هذه الوثائق المكتشف فى مصر ويعمل عليها فريق بحثى معاصر يمتد لأكثر من 1500 سنة ولكن يبدو أن التركيز كان على وثائق بعينها منها ما يرتبط باللغة العربية أو بالتحديد مؤلفات موسى بن ميمون وبخاصة المخطوط الأصلى لكتابه دلالة الحائرين وكذلك وثائق مرحلة تكوين الدولة الصهيونية والمراسلات بين اليهود فى عكا ومصر أو فى فلسطين بشكل عام وفى مصر أو الشرق ومصر، بمعنى أنها المراسلات القادمة إلى مصر أو تلك التى فشلت فى الإرسال أو الخروج من مصر، بما يعنى أنها كلها من نوع واحد أو ذات منطق معين وارتباط مكانى يبررها برغم امتدادها فى الزمن واختلافها فى الموضوع، وكذلك منطقية كونها نابعة من سلوك وعقيدة دينية معروفة لدى هذه الطائفة التى كانت تمارس طقوس دفن الأوراق والوثائق الدينية حسب فهمها الخاص لتكليف دينى بحثت عنه الرواية، فبدا كل شيء فيها مبررا منطقيا وحقيقيا وبعيدا عن الافتعال أو الاختلاق التخييلي.


الأمر الثانى من الناحية الفنية فى هذه الرواية هو ما ارتبط بالتشويق فيها وقدر تماسكها وأنها تحتم على القارئ الانتظار حتى النهاية لأن المصائر والأسرار تظل معلقة وقابلة للتحول فى أى مرحلة وهذا ما يحدث فنجد أن الرواية حافلة بالمفاجآت والمصائر الغامضة والمأساوية والغريبة. وثيقة تعثر عليها مانوليا بحكم كونها فى الفريق البحثى المكلف بدراسة وثائق الجينيزا والبحث عنها تقودها إلى أسرار وألغاز ترتبط بموسى بن ميمون ورحلة شيقة فى حياته ويظل مصير هذه الرسالة أو الوثيقة لغزا يرتبط بتهديد بالقتل لا يتم كشفه إلا فى آخر حكاية موسى بن ميمون، فضلا عن كونها تقود إلى مغامرة من الفنتازيا أو السحرية التى تنبع من الأساطير الدينية أو من حالة نفسية مرضية ويظل مصير هذه المغامرة كذلك معلقا حتى نهاية الرواية، مغامرات ترتبط بالتجسس والرغبة فى اختراق أو سرقة أو سطو على الوثائق أو معرفة ما فيها، وأسرار ومغامرات خاصة بمعرفة الحقيقة أو كشف غموض ما أو ترتبط بسؤال معين عن شخصية مثل مسألة حقيقة إسلام موسى بن ميمون، ومصائر وألغاز ترتبط بعلاقات عاطفية أو قصة حب أو غدر أو غيرها الكثير يظل كله معلقا وغير محسوم وقابل للمفاجآت حتى آخر كلمة فى الرواية، وهو أمر يرتبط بالإحكام والتماسك والتشويق.
ثم يدعم هذا البناء السردى المتشابك والمعتمد على المحفزات والعلامات أو الموتيفات التى تفتح أبوابا أو تقود فى مسارات معينة عناصر سردية أخرى، مثل اللغة وتقسيم الفصول وبنية التقاطع أو التأجيل أو توزيع المادة السردية فى فضاء الخطاب بما يصنع حالا من الترقب والانتظار فيمضى خط سردى معين  فى التقدم فى حين يقف خط آخر منتظرا ليعود إلى المتلقى أو يعود المتلقى إليه ليستكمله وينتظر خط آخر أو حكاية أخرى، وهذا فى نسق من التبادل الذى يسهم فى خلق نوع من الراحة أو الحركة بين هذه الخطوط ويسهم فى كسر الرتابة ويحفز على مزيد من التطلع لدى المتلقى لاستكمال كل خط ومعرفة مصير كل حكاية، وهى بنية بذاتها جديرة بالتأمل والبحث والتحليل وبرغم كونها معروفة أو مسلوكة والكاتبة نفسها اتبعتها فى روايتها السابقة لكنها تأخذ تشكيلات مغايرة من رواية إلى أخرى أو من تجربة إلى أخرى.  ومن أبرز ما يسهم فى إنماء جماليات هذا الشكل هو عناوين الفصول التى كانت أقرب إلى الجمل اللغز أو الأحجية أو العبارة القادرة على تفكيك بنية هذا الفصل وتكون بؤرة لكل معطياته. 
>>>
فى الرواية توظيف واسع وعميق للفن وبخاصة فن الموسيقى من بيتهوفن إلى عمر خيرت إلى أم كلثوم وحفلاتها فى النصف الأول من القرن العشرين وكيف يمكن أن يكون حضور المكون الموسيقى أو الغنائى نابعا من سياق سردى متكامل، فلا يكون الأمر مرتبطا بنوع من التطريز أو الإقحام أو صناعة حلية وتفاصيل حياتية، بل يأتى هذا المكون متشابكا مع مشاعر الشخصيات وحالتها النفسية وسياقها الدرامى ومثال ذلك توظيف الأغنية فى حفلة أم كلثوم فى تصاعد قصة الحب بين عزرا ومديحة أو توظيف الرباعية الأخيرة لبيتهوفن والبطلة تعزفها فى نهاية الرواية لتشكل نوعا من المراجعة أو تمثيلا موسيقيا لكافة ما مر بها عبر كل ما سبق من الحكاية وكيف عبر العزف فى طريقة أدائه عن هذه المراحل والتعبير عن الذروة الحدثية ثم حال الانسحاب والهدوء التام والعودة إلى نقطة الصفر من الشعور بالبر، ذلك لأنها تم خديعتها أو لكونها مازالت تحتاج إلى المزيد من البحث والمعرفة، وأن حياتها تمضى بشكل قدرى غامض فى حين كانت تتصور أنها تستوعب وتعى بدقة كل شيء يمر بها. والمسألة قد يكون لها تأويلات أخرى فيما يخص هذا التشابك بين الفنون السمعية أو المحتوى الغنائى والموسيقى وما تم دمجه فيه من سياقات درامية وأحداث. لكن الخلاصة أن هذه واحدة من أهم جوانب التوفيق والإحكام الجمالى فى بنية الرواية وخطابها المتدفق والمتناغم.


ملامح الشخصيات فى هذه الرواية فيها قدر كبير من الشعرية، سواء كانت شخصيات مركزية أو رئيسة ولها مساحة حضور كبير أو شخصيات ذات مساحات محدودة، ومثال ذلك شخصية الخادمة الإثيوبية رحمة أو شخصية الأم التى قبلت بخيانات الأب وفاجأت ابنتها أنها كانت تعرفها لكنها لم ترض أن تخسر كل شيء وحاولت المحافظة على تماسك الأسرة، وكذلك شخصية والد عزرا اليهودى المعتز بمصريته وربما الفاهم للأمور بشكل عميق وإنسانى وتصوره الرواية على نحو جميل وطريف وبخاصة فى مشهد ذهابه إلى السجل المدنى ليثبت بياناته ويحصل على الجنسية المصرية فيعمد إلى كل أساليب التأنق فى المظهر وقبل الدخول يلمع حذاءه فى ذيل البنطلون وكأنه يريد إثبات أنه جدير بالجنسية المصرية، وغيرها الكثير من التفاصيل واللمحات المهمة، وبخاصة تفاصيل عادات الأكل والشرب والطقوس والاحتفالات، كما رأينا مثالها فى وصفها لاحتفالات المولد النبوى فى عهد الأيوبيين فى احتفال شعبى ورسمى ترصده وترسمه من كافة جوانبه بنبضه وحيويته، والتفاصيل الحياتية بشكل عام حاضرة ومنثورة بعناية فى كل فضاء الخطاب الروائى لدرجة يسهل معها وصفها بأنها رواية التفاصيل الحياتية النابضة.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة