كتاب بالأمس كنت ميتأ
كتاب بالأمس كنت ميتأ


بالأمس كنت ميتا: من التاريخى إلى الجمالى

أخبار الأدب

الأحد، 05 سبتمبر 2021 - 02:51 م

د. محمد عبد الحميد خليفة
 

الاشتباك بين السرد والتاريخ مثير دائما للأسئلة، خاصة عن مظاهر هذا الاشتباك وصوره المختلفة ما بين تناص الأول مع الآخر أو استلهام أو إعادة تقديمه وسرده قصصياً، وهذا الأخير يعد أبسط صور ذلك التداخل أو قل الاشتباك بينهما غير أنني قلتها كثيراً ولازلت أقول:
إن التاريخ يعد معيناً ثرّا، وكنزاً متخماً بالكثير لما يقدمه من مادة للأديب فيصنع منها مادة سردية فيها من الحضور الغائم أو الواضح لتاريخ يبعث فيه السارد من القبور نماذج بشرية، ويستحضر وقائع باتت ساكنة ميتة ليعود إليها صخبها وطازجيتها.


ونظرة سريعة إلى المشهد السردي فى العقود الأخيرة ليقف القارىء عند حضور التاريخ داخل السرد، الأمر الذي يؤكد أن العود إلى التاريخ والنبش فى أحداثه قد تجاوز حد ألفة الإنسان بالماضي وحنينه الفطري إلى ذكرى الزمن الجميل والماضي الأليف إلى شيء آخر يتصل بحرفية التوظيف لأجل تحقيق أهداف بعينها كتقديم واقع إنساني بإزاء ماضي مواز ليعيد الإنسان طرح تساؤلاته من جديد عن إشكالية الوجود وتتسع الرؤى والأسئلة لتشمل التفكير فى دائرية حركة التاريخ أو خطيتها، وجبرية الإنسان أو اختياره، ومدى مايشكله الإنسان ومدى ما يتفرد به عن غيره من دور منوط به فى رحلة هذه الحياة وقطارها الماضي بقوة دونما توقف حتى محطته الأخيرة المرتقبة.


وقد ظلت قضية العرقية والطائفية والهوية من أهم القضايا التي طرحت نفسها على الرواية المعاصرة، ليساهم السرد فى تقديم رؤيته الإنسانية بما يمتلكه من قدرة حجاجية إقناعية عبر التقنيات الجمالية ليتحقق التأثير بواسطة الوثائقي والجمالي معاً.


ولكم شغلت قضية الأرمن بأزمتهم التي لم يعد يخطئها مؤرخ أو سياسي صفحات حققت حضوراً لافتاً فى الرواية الحديثة والمعاصرة ليعكس هذا الحضور إصرار كاتبها على تحقيق الهوية من ناحية، وتحقيق ذاته المستلبة وحريته المقيدة بمجموعة تابوهات من ناحية أخرى، وكل ذلك يؤشر على أن الحرية هي الحياة فلن نستطيع أن نمارس حيواتنا إلا فى جو يسمح لنا بأن نكتب ونتحدث ونطرح الأسئلة وإلا فما معنى وجودنا.


ورواية بالأمس كنت ميتاَ للكاتبة رضوى الأسود تدلف بقوة فى عمق هذه الأسئلة، وتعلن منذ صفحاتها الأولى عن أزمتها ومركز دائرتها الذي هو أزمة الأرمن التي لم تغفلها ذاكرة الإنسان، ولن يغفلها الضمير الإنساني كذلك لم يغفلها التاريخ وإن حاول، فما تعرض له الأرمنيون على يد العثمانين أوائل القرن العشرين وإبان الحرب العالمية الأولى كان محرقة لطمس هويتهم وعرقهم ونموذجاَ صارخاَ للوحشية والدموية التي لاقتها الأقلية الأرمنية المسيحية وكذا الكردية المسلمة على يد أبناء دينهم من العثمانين لتنتصر العرقية على الإنسانية ولم تشفع سماحة الدين لدى العثمانين فى استيعاب العصبيات  بدلاً من الإنحياز للطورانية.


وتطرح الرواية سؤالاً تبحث عن أجوبة له عبر مصائر شخوصها ملخصه: مدى ما يحمله الأبناء والأحفاد من أوزار الأجداد، وإلى أي حد يمكن للحب أن يحيى إنساناً كان ميتاً بالأمس وهل يطهر الحب قلوباً ورثت ضمن ما ورثت القهر والحزن، إلى آخر تلك الأسئلة التي تنتشرفى الرواية.


جيلان مأزومان أحدهما جيل الأجداد الذي تحكي الرواية أزمته فتكشف الساردة عن تاريخ لم يمت  بعد فينساه اللاحقون ، ودماء بللت صحراء ممتدة من تركيا عبر الشام إلى مصر واختلط بعضه بماء البحر المتوسط لايزال ذلك الدم طازجاً ساخناً يصرخ معلناً عن سافكيه. وجيل الأحفاد الذي أضحى مصرياً لم يبرأ تماماً من كوابيس الأجداد وصراخهم المستغيث لقضيتهم التاريخية، وهو جيل جمعه الحب ويطارده الماضي فى آن، كل هذا الحكي يعيد السارد تقديمه تقديما جماليا متوسلا فيه بتقنيات مختلفة أكسبت الخطاب السردي مذاقه الجمالي.


1-  وأولى هذه التقنيات تتصل بالزمن السردي تتمثل فى كسر النظام الزمني والمراوحة بين الحاضر والماضي ، لتبدو الرواية دائرية الزمن، أضف إلى هذا أن السارد قد استعان بنوعين من العتبات الداخلية أسهمت جميعها فى تنوير القارئ بمركز الدائرة الزمنية للسرد الذي هو مركز الرواية بحيث يشد إليه شتى الأطر والقصص السردية التي تدور فى مسارات تمثل فلك السرد فى مقابل مركزه، وبشئ من التفصيل والتوضيح حول هذه العتبات فإننا نؤكد أن:
النوع الأول منها: دالة على الأزمنة أو الأمكنة، والنوع الثاني: باسم شخوص الرواية لتتحدث بأصواتها بالتَّبادل، كما أنَّ الرواية فى عتباتها تكشف عن بناء زمني فيه مٌراوَحَه وكسر للنظام الزمني فقد تبدأ بالأحداث الحديثة زمنيًا ثم تسترجع ما قبلها بسنوات قليلة أو ربما ما يقرب من القرن أو أكثر من الزمن، فهى لا تسير على وتيرة واحدة فى العموم غير أن اللافت أن الثلث الأول من الرواية وهو ثلث مَسْتَرْجِع يحكي حكاية الأجداد منذ أواسط القرن التاسع عشر ، حكاية الأكراد المسلمين مثل سالار بن فِرهد، والأكراد الأرمن المسحيين مثل آرمان بن أرشاج وما كان بين العشيرتين من محبة وتعاون حتى بدأت الأحداث السياسية مع بداية الحرب العالمية الأولى فى التفريق بينهما والعصف بمصير الأرمن واستقطاب بعض الأكراد المسلمين ليعاونوا فى ذبح أبناء عشيرتهم من الأرمن، وهنا تبدأ مأساة أبناء آرمان وسالار متمثلتاً فى (كروان بن سالار) الكردي المسلم الذي أحبَّ وعشق (بيروز) الكردية الآرمنية المسيحية وهرب بها إلى مصر 1915م، لتقفز الرواية زمنيَا إلى نهايات القرن العشرين حيث جيل الأحفاد منهما متمثلاَ فى (لوسي) النِتاج الأخير لـ(كروان وبيروز) وصداقتها المتفردة بـ(ليلى) المصرية حيث تجاورا فى سكنهما بالزيتون لتتعرفا بمالك سليل جيل (طلعت باشا) التركي الذي تلطَّخَتْ يده بدماء الأرمن فى الجيل الماضي، ثم يختص الثلثان الآخيران من الرواية بقصة الحب المثلثة بين كل من مالك ولوسي وليلى وحضور ذكرى ذبح الأجداد فى ذهن لوسي والتطَّهر منها فى ذهن مالك ليختلط الحب بالتاريخ ويأخذ مساحة سردية تتسع وتطرح الحب بديلا عن الاختلاف ومُذيبا له، وإنَّ العشق أعلى درجاته فى جَمْعِهِ بين ثلاثة محبين كان الحب خِيارهم وخَلاصِهم ومبدأهم ومنتهاهم، فبالأمس كان ثلاثتهم موتى غير أن الحب أحياهم من جديد على نحو ماقاله جلال الدين الرومي عندما قابل شمس الدين التبريزي الذي أحيا فى الرومي حياة جديدة ملؤها العشق والحب، فتكون عتبة العنوان لتختزل قصة الموت والحب.


لقد كانت التقنية الزمنية المدورة بين زمن حاضر ثم مسترجع مستعاد ثم حاضر مرة أخرى أهم تلك التقنيات اللافتة فى الرواية.
2- ثم تأتي تقنية الصوت الروائي لتسهم فى جمالية النص إضافة إلى جمالية الزمن بشئ من المراوحة بين الأصوات ، ويمكننا بسطها على النحو الأتي: 

أ- صوت التاريخ/ صوت السارد
إذا كان مركز السرد فى الرواية يتمحور حول أزمة الأرمن والتنكيل بهم والإبادة الممنهجة لعرقهم من قبل العرق الطوراني العثماني ، فإن السارد يقوم بدور المؤرخ الذي يحكي تاريخ هذه المأساة بوقائعها موثقة بشخوصها وتواريخها وهنا تتسع مساحات من التاريخ والجغرافيا لتضع القارئ فى قلب الحدث وتشحذ ذاكرته بمكان وزمان هذه الأقليات، ثم  تبدأ مأساة الأرمن – وكما يحكي أحدهم – بتعاظم النعرة العرقية الطورانية تلك النزعة التي أجج شرارتها اليهود انتقاماً من الأرمن الذين تسيدوا المشهد الإقتصادي بمهارتهم فى الدولة العثمانية، ليقدم هذا الصوت تحليلا تاريخيا بلغته الإخبارية المحايدة والتي لم تخل من تصحيح جرى طمسه كإبراز الدور اليهودي فى إشعال فتيل الأزمة بين العرقين ولم يكن لهذا التحليل التاريخي من بد كي يضع قاريء الرواية فى قلب الحدث الذي سوف يبني السارد عمارته السردية فوق هذه الأسس الخرسانية التي تمتد جذورها إلى عمق التاريخ الحديث.

ب- صوت الشخصيات:
وهذه الأصوات تظهر عن طريق تقنية البوليفونية لثلاثة هم أبطال الرواية من الجيل الثاني المعاصر ( لوسي حفيدة كروان وبيروز، ومالك حفيد العنصر التركي طلعت بك، وليلى المصرية عاشقة لوسي ومالك وجارتهما)، احتل هذا الجيل ثلثي الرواية عبر تناوب أصواتهم الثلاثة، كل يحكي بصوته ومن وجهة نظره أزمته مع الآخر المعاصر، ومع جيل الأجداد الذي ورث عنه إرثا مثقلاً بالأحزان ، وقد أتاحت تقنية الأصوات هذه أن تظهر الشخصية بصوتها مباشرة على خشبة المسرح الروائي لتحكي من وجهة نظرها ما تريد، فبينما أنشأ الثلاثة مثلثاً متفرداً من الحب قنعوا جميعاً به نرى الماضي يطل برأسه لينكأ الجرح القديم عند لوسي ومالك معاَ، تستعيد لوسي ما حدث لأجدادها من إبادة دموية على يد العنصر العثماني الذي يمثله جد مالك الخبيث (طلعت باشا) وتقع بين أزمة الماضي الذي يبدو أنه يطاردها فى ألمانيا وفى مصر على يد أبي مالك (طلعت بك)، لكن ما يشغلها هو ذلك الحب الذي ينهش قلبها بمالك.


وقد أتاحت تقنية الأصوات المتناوبة كشف قضايا ملحة عصفت بأذهان هذا الجيل ، كقضية الجبر والاختيار، وتناقض بعض المسلمين ما بين الإيمان والعمل (أصبحت منظومتنا الأخلاقية مفرغة من الداخل بفعل مرض الفصام المستشري فى مجتمع كامل يصلي ويصوم ويقرأ القرآن، ثم يرتشي ويكذب ويسرق ويخوض فى الأعراض. مجتمع لا يرى رجاله أي غضاضة فى ممارسة العلاقات الجنسية المفتوحة، لكن يحرمها على نسائه، يدمن رجاله الأفلام الإباحية ويحرم مشاهدتها على غيره، يجرم ترك الصلاة ولا يجرم الكذب، يفرض الصوم عن الطعام ، ولا يبالي بالصوم عن الإساءة للغير، مجتمع نجد فيه صاحب متجر لا يكف عن تشغيل أشرطة القرآن ليلًا نهارًا وهو يسرق التيار الكهربي ويسطو بوضع اليد والبلطجة على جزء من الطريق العام، مجتمع يحترف فيه علماء الدين- المنوط بهم نشر التسامح والحب – زرع الكراهية والتحريض على قتل المخالف والجنون البين أننا تعايشنا بصدق مع ذلك كله، ونحتقر ونلفظ تمامًا كل ما هو مغاير لما أصبحنا عليه، ص 129).


لقد برهنت رضوى الأسود فى هذه الرواية على امتلاكها ما تقول من موضوعات اقتحمت من خلالها مناطق شبه محظورة إلى جانب تمرسها بتقنيات السرد الروائي وحسن تعاملها مع الحدث التاريخي بمزجه مع سرد متخيل لتضحي رواية «بالأمس كنت ميتا» واحدة من أهم الروايات التي ظهرت مؤخرا بما تنطوي عليه من حكايات يمكن إعادة نسجها سرديا مرات ومرات.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة