اللوحات للفنان: جميل شفيق
اللوحات للفنان: جميل شفيق


أبداع

إعراب الصخب

أخبار الأدب

الأحد، 05 سبتمبر 2021 - 03:03 م

هناء بدر
 

«مش بنى آدم انت على فكرة!». يقطع صياح سائق التاكسى أفكارى فأتنبه لاحتمال وقوع شجار. أعتدل فى جلستى فى الكرسى الخلفى وأركز نظرى باتجاه السيارة الملاكى الزرقاء محل ثورته. أسأله عما حدث فلا يرد ويتحرك بنا بسرعة ليصير شباكه مواجها لسائق السيارة الأخرى. أفاجأ بهما يضحكان ثم يصيح سائق التاكسى: «نهارك قشطة!» وينطلق بنا بسرعة مبالغ بها. يستفزنى ألا أفهم الموضوع، وألا يحسب حسابا لوجودى فيمزح ويرفع صوته. سأتأخر على الموعد بلا شك فى هذا الزحام. من يختار بإرادته موعدا فى الثالثة عصرا؟ كان تسرعا منى. الحقيقة أننى حين لا أفهم ما يقال أرتبك وأوافق محدثى بدون تفكير. حين قالت الممرضة فى الهاتف شيئا مثل أن الدور «يترحّل» إذا ما الطبيب «طلعت له» عملية، شعرت بتهديد ما، ووافقت على الموعد المقترح. صرت أشعر فى كثير من الأحيان أن الناس يتحدثون لغة لا أفهمها. تعلمت «البلوتوث» و«الفيسبوك» و«الفرمتة» لكن أعجز عن فهم ما يقال فى محادثات عادية. أخرج منديلا من حقيبة يدى وأجفف وجهى من العرق. أتمنى أن يتأخر الطبيب فيؤجل ميعاد الكشف. أوشك أن أسأل السائق إن كان يظن أن الشوارع الجانبية ستكون أقل ازدحاما لكنه يبدأ بالتحدث فى الموبايل: «إيه يا حسام… عامل إيه..». يتلافى المطب فى آخر لحظة بالانحراف يسارا بشدة فأميل فى مقعدى وأستند إلى الزجاج نصف المفتوح. يقول بابتسامة بينما ينظر لى فى المرآة: «معلش. أصلنا كنا هنلبس!» أنظر إليه غير مصدقة. يقول أشياء لا معنى لها، ولا يعتذر!«نلبس»؟! أود النزول من السيارة لكن المشى فى هذا الجو الحار سيجهدنى. أشرب جرعة ماء. يجب أن أكون متماسكة لأساعد سلوى بعد خروجها من عند الطبيب. أصل أخيرا بعد الموعد بعشر دقائق فأجدها تنتظرنى أمام المبنى. تقبلنى بوجل: «قلقتينى عليكى!» فيدهشنى أن تبدو أختى فى وقفتها المتوترة تلك نسخة من أمنا، شكلا وكلاما وسلوكا. أوشك أن أقول لها ذلك لكن أتراجع. «معلش. أنا آسفة. الطريق كان زحمة أوى» وأسندها على السلم القصير. تقول الممرضة إن الطبيب تأخر فى الوصول فنجلس على كرسيين جلديين فى غرفة الانتظار المكيفة. أقول: «هيعجبك أوى الدكتور ده. هايل. أنا بتعامل معاه من زمان». تنظر إلى كأنما لا تفهم: «من زمان إزاى؟» أجيبها بأننى استشرته لأول مرة منذ خمسة وعشرين عاما. ترد: «مش قلتى إنه لسه راجع من إنجلترا...» أشرح لها أنه يقضى نصف السنة فى مصر والنصف الآخر فى إنجلترا. تبدو غير مقتنعة. تتململ فى كرسيها بعض الوقت. تقول أخيرا: «أنا قلت لمنى إنه لسه راجع من إنجلترا...» أطمئنها: «ما هو لسه راجع فعلا!» تسكت لوهلة وألاحظ أنها تبدو غير راضية. تنظر فى ساعتها ثم تلتفت إلىَّ فجأة وتعلق بانفعال على العرق الذى بلل ياقة بلوزتى. أقول إن الطريق كان طويلا فى الزحام والحرارة فى التاكسى كانت شديدة. تقول إننى سأصاب بلفحة برد وتقوم لتطلب من الممرضة تخفيف التكييف. أقول لها إن معى شالا وأخرجه فعلا من الحقيبة لتعود إلى مقعدها. أخرج معه أيضا عبوة من البسكويت المحشو بالشيكولاتة الذى نحبه. تجلس بينما أضع الشال على كتفى وأعطيها قطعة. نجلس صامتتين نقضم البسكويت ونتأمل الملصقات على حوائط الغرفة. بعد وهلة تقول إنها ركبت مع جارتها منى فى الأسبوع الماضى سيارة أجرة حمراء ومكيفة. أصحح لها: «آه، أوبر.» فتؤكد بحسم: “تاكسى، منى دفعت فلوس واحنا نازلين، بس أحمر وبتكييف”. أشرح لها أن تلك شركة جديدة اسمها أوبر، تشغل سائقين بسيارات ملاكى. تنفعل لأننى أتهمها بركوب سيارة ملاكى من الشارع مثل طفلة متهورة. أؤكد لها أن أوبر شركة كبيرة، يطلب الناس سياراتها من الهاتف. تقول بتحد: «طيب وريني!» مشيرة لهاتفى. أستسلم وأقول أننى لا أعرف كيف أستخدم تلك الخدمة بعد، لكن أسمع عنها. تنظر لى متشككة ثم تؤكد: “منى بتركب كده على طول. وعمرها ما عملت موضوع الأوفر ده”. أغير الموضوع. أسألها عن صحتها اليوم. تقول إن الدواء الجديد أفضل من القديم بكثير، وتصمت. أقدح ذهنى لأجد موضوعا لا يستدعى أى خلافات وآخذ فى استرجاع بعض ذكريات الطفولة لكن الممرضة تنادى اسمها وندخل للطبيب. بعد حوالى نصف ساعة نتمشى معا لبيتها من الشارع الخلفى الظليل وبعد الشاى ومزيد من البسكويت أتركها أخيرا فى فراشها لترتاح. أتأكد من وجود طعام كاف بالثلاجة وأقول لها إننى سأعود فى اليوم التالى. أقبلها وألاحظ أن وجهها يزداد براءة بمرور الوقت وتدمع عيناى فأقوم بسرعة لأرحل. فى طريقى لمدخل البناية، أمر على منى لأطمئنها على أن الإجراء الجراحى البسيط تم على خير. ألاحظ جذور شعرها البيضاء وأتعجب من أن الجارة الشابة شابت مثلنا. أتذكر فجأة ما حكته لى سلوى وأقول بحماس: «برافو عليكى أنك اتعلمتى الأوبر!» يبدو عليها العجب: «أوبر؟» أؤكد:» خدمة السيارات الملاكى المكيفة”، لكن لا يبدو عليها أنها فهمت. أذكرها: «السيارة الحمراء المكيفة...» فتقاطعنى وقد فهمت أخيرا: “أيوه، أيوه” وتحكى أن سائق أخيها يأتيها أحيانا لتقضى معه بعض المشاوير. أقف مرتبكة للحظة ثم أسألها عن صحتها وعن ابنها الذى يدرس بالخارج. أودعها وأتمشى للبيت فى نسمة الغروب وأتوقف من حين لآخر عند واجهة أحد المحال. غريبة، المشكلة ليست فى كلمات بعينها، إذاً. يبدو أن شيئا آخر فى نسيج هذه الأيام يجعلها عصية على الفهم.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة