عزيزتى سافو
عزيزتى سافو


أبداع

عزيزتى سافو

أخبار الأدب

الأحد، 05 سبتمبر 2021 - 03:11 م

هانى عبد المريد

ظهرت أمامه مبتسِمَةً لتقول: نعم أنا، أخيرًا انتبهت لى!
أتدرى يا خالد، كنت أحوم بروحى من حولك منذ زمن بعيد، أنت قُمتَ بعمل مجهود حتى تتعرَّف إلى، قرأتَ ما بقى من أشعارى، قرأتَ ما تيسَّر من سيرتى، لكنك لم تكن ستعرفنى لو لم أحب ذلك، أنتم دائمًا هكذا تحبون الشعور بأنكم مصدر الفعل، ومركز الكون. تضحك سافو كثيرًا وهى تقول: أتدرى أن هناك أمورًا لم تتغيَّر لديكم حتى الآن، أنا أعرف أن ما يفصلنى عنك عشرات القرون، تبتسم حين تقول إن آلاف السنين تمرُّ ولم يتغير بالرجال سوى قشور، أنت تجاوَزتَ وجود اسمى وقصيدتى بكشكول مختاراتك، لم تشغل بالك كثيرًا بما جاء خارج إرادتك، لماذا لم تتساءل لو لم آتك فى أحلامك هل كنت ستعرفنى، لو لم تجد ديوانى أمامكَ فى هذا التوقيت بالمكتبة، لو.. لو.. لو...


يظهر الارتباك على خالد، فتزيد سافو من ضحكاتها، أتدرى؟ أنت الآن تبدو كبيرَ الشبه بجدك «فاوون»، هكذا كان يبدو حين أحرِّك تفكيره تجاه شىء يرفضه، اسمع يا خالد، على مَرِّ العصور لم يصل رجُلٌ لامرأة من دون رغبتها، لم يَختَر رجلٌ امرأة، لم يتَّخذ رجلٌ قرارًا منفردًا بإرادته الحرة، كل ما له علاقة بقلوبكم مصدره الأساسى وشرارته الأولى تنطلق دومًا من اتجاهنا، فقط نترك لكم الفخر بشعور الصيد. تضحك سافو بينما شعور الغيظ يتمكَّن من خالد، تكمل حديثها أن ليس هذا هو الموضوع، ما كنتُ أودُّ قوله هو أننى تعاطَفتُ معك جدًّا فيما أسمَيتَه أنت «زنقة الكتابة»، كنتُ أودُّ لو أقول لك إن هذا وهمٌ يا صديقى، وإن عليك أن تخرج ممَّا أنتَ فيه، أن تترك كل هذه الأوهام خلف ظهركَ؛ فالكتابة كأقدار الآلهة، حين تُحدَّد لا شىء يقف فى طريقها.. كان خالد يعرف جيدًا مقدار سافو كشاعرة، يعرف مقدارها أيضًا كامرأة حصيفة خبرت الحياة؛ لذا كان يسمعها بكل جوارحه حين تهمُّ بالحديث، يسأل ويحاول الوصول لروحها، كان كثيرًا ما اتَّخذ جانب المُعارِض حتى يحصل على كل ما لديها.


تكمل سافو متسائلَةً، هل يحرز نصرًا فى المعركة جندى وقف فى المكان الخطأ؟ 
هل يحرز فوزًا فى أى لعبة مَن يقف فى المكان الخطأ؟ هكذا الكتابة كالحرب وكاللعب وكالحياة أيضًا؛ لا بُدَّ أن تقف فى المكان الصحيح، أنت تقول «زنقة كتابة»، وأنا أقول لعلَّك لم تجد الموضوع الذى يشبهك، أنت بالتأكيد تعلم أننا نكتب ما يشبه أرواحنا، هناك أفكار عظيمة تصلح لكتابة عظيمة، لكنها فى الحقيقة قد تحتاج لروح غير روحك، ولا أدَّعى أننا نعلم ما يشبه أرواحنا، أنتَ فى الكثير من الأحيان تفاجَأ بالأمر مثل الآخرين تمامًا، هناك مفاجآت طوال الوقت، سأقول لك حكاية حدَثَت معى، كنتُ طوال الوقت أستمع لطاليس وأفكاره عن أصل الكون، أن الماء هو المادة الأم لهذا العالم، كان يعجبنى جدًّا ما يقوله، تستطيع القول إنه كان يملأ عقلى بأفكاره حول نشأة الكون، يملأ عقلى حين أَطلَقَ صيحته «اعرَفْ نفسك»، لكن ليس كل ما يقبله العقل يصلح للكتابة، لمرَّةٍ واحدة تقابَلتُ مع أفكار «أنكسيمانس»، كنتُ أنشد أشعارى ومن أمامى يجلس المستمعون، أتذكَّر كان من ضمنهم صديقى الشاعر «آلكايوس»، الذى ما انتهيتُ حتى قدَّم لى أنكسيمانس، كان يبدو أنه فى ضيافته بليسبوس، رحبت به، تكلَّمنا لدقائق، عَرَضَ خلالها سريعًا لفكرته حول أن أصل الكون هو الهواء، أتذكَّر حديثه حول الهواء، ذلك الكيان اللامرئى وكيف أنه عن طريق التكثيف يصبح مرئيًّا فيكون سحابًا ويكون ماء، وكيف أنه يصبح عن طريق تقليل الكثافة نارًا، تحدَّث عن عملية الشهيق والزفير كأصل للحياة، ربما لم أَكُن مُقتَنِعَةً بأفكاره عقليًّا كما أقنعنى طاليس، لكنه لمس روحى كأننى لأول مرة أكتشف أهمية الشهيق والزفير، ربما كان متحمِّسًا بشكل كبير وهو يتحدث، ربما كانت لديه طاقةٌ ما انتقَلَت إلى، حتى أننى فى نفس الليلة كتبت قصيدتى الأشهر، والتى أعرف حُبَّكَ لها:
«على الرغم من أنها ليست سوى أنفاس، فإن الكلمات التى تصدر عنِّى أبديَّة»...
نحن -معشر الكُتَّاب- نصطاد من الفضاء المحيط ما يتوافق مع أرواحنا، أتدرى يا خالد، فى كثير من الأحيان يُخيَّل لى أن الكتابة موجودة، كل الكتابة موجودة من حولنا تسبح فى الهواء، نتنفَّسها جميعًا دون أن ندرى، لكن عند لحظة ما، أو لِنَقُل فى ظروف ما يلتقط كلُّ كاتب منها ما يليق بتجربته وروحه ووعيه...
كان خالد يستمع لها، كلماتها قدر ما بها من تشجيع، وربما تحفيز على الكتابة، لكنه استشعرها فى بعض الأحيان كلمات مرفَّهة، لا تعرف شيئًا عن نار التجربة، هى تقول ذلك بكل أريحية لأنها تعرف أنها وضعت قدميها فى قلب الشِّعر، تركت بصمتها ولم تَعُد منزعجة، امرأة ظَلَّ العالَمُ لقرون طويلة حين ينطق أحدهم كلمة شاعرة؛ فإن ذلك يعنى سافو، أن يكون اسمها هو المرادف للشِّعر، يَحِقُّ لها أن تُنَظِّر كما تريد، لكنها بالفعل لا تعرف شيئًا عن إنسان يَودُّ أن يتحقق، يَوَدُّ أن يصرخ قائلًا أنا هنا، لا تعرف شيئًا حقيقيًّا عن أزمة كاتب يفقد صِلَتَه بالحياة، يعرف أنه مُهدَّدٌ بالفَناء لو لم ينجح، لكنه لا يعرف بالضبط ماذا عليه أن يفعل!


فى كثير من الأحيان يبدو له أن علاقته بالكتابة كمقاتل شرس ألقى بنفسه وسط مجموعة من الوحوش، وليس أمامه سوى أن ينتصر عليهم، خالد لم يهتم بدراسته، فبينما كان زملاؤه يقيمون معسكرات مغلقة ويرفعون درجة الاستعداد لخوض امتحانات الثانوية العامة، كان غارقًا فى قراءة الروايات، قضى فترة الجامعة بهذه الطريقة، لا إخلاص كامِلاً إلَّا للقراءة والكتابة، حاول بعد التَّخرُّج العمل فى بعض الوظائف، كان يشعر بغربة شديدة بين زملاء العمل، ينظر لسلوكياتهم وصراعاتهم ويبدو له الأمر كأنه فى حلم، لم يأخذ أيًّا من أفعالهم ومشاكلهم على محمل الجدِّ، كان يعترف بينه وبين نفسه أنه يعيش فى هذا العالم، ينام ويصحو، يأكل ويذهب للعمل ويقوم بالمطلوب منه قدر المستطاع، كل هذا بطاقة 10 % فقط، بينما جُلُّ طاقته وتفكيره الحقيقى وروحه تذهب للكتابة، يستحوذ على طاقته الحقيقية أفكارُه وشخصيَّاتُ أعماله، يعرف ذلك، يعيش مع شخصيات رواياته بشكل حقيقى أكثر، يشعر بهم ويتعاطف مع مشاكلهم أكثر، كل هذا جعله يخسر الكثير، كأنه يقول لنفسه لم يعد أمامك سوى هذا العالم الخيالى الذى بات واقعك، لا مَفرَّ سوى أن تنجح، لا مَفرَّ أمامك غير الكتابة، لا شىء حقيقياً سواها، لا شىء تحبه ولا شىء سيبقى سواها، لا كلمة تودُّ أن تلتصق باسمك مدى الحياة غير كلمة كاتب.
هنا بدت سافو كأنها وضعت يدها على مشكلته الحقيقية، ابتسمت، قالت إنك هكذا حوَّلتَ الكتابة من حبيبةٍ ترتاح برأسك على صدرها، تتنفَّس بارتياح، تشعر معها كأنك مُطارَدٌ منذ زمن طويل، تفرُّ إليها، وها أنت الآن تهدأ، حوَّلتها لتكون بكل بساطة هى مَن يطاردك، هى مَن تَفرُّ منها، هكذا أصبحت ذلك البائس الذى لا ملجأ له.


الكتابة لا تُحوِّلنا لعبيد، هى تفعل العكس، عليك أن تتحرَّر من عبوديتك بالكتابة، كما فعل إيسوب، أتدرى، كنتُ ذات يوم من سُعَداء الحظ حين حضرت مع صديقى آلكايوس أمسية لإيسوب العظيم، حكى فيها عن ثعلبٍ أفلت من فَخِّ أَسَدٍ عجوز، أتذكَّر طريقته الساحرة فى الحكى، وهو يُبدِّل بين طبقات صوته لتتناسب مرَّةً مع الأسد العجوز المريض، الذى ينتظر دخول الثعلب لزيارته ليلتهمه كطعامٍ جاهز، ومرَّةً يتحوَّل لصوت الثعلب الصغير الماكر الذى اكتفى بالسؤال عن صِحَّة الأسد دون الدخول لعرينه قائلًا:
«أرى آثار أقدام كثيرة دخلت بيتك، ولم أَرَ أثرًا لقَدَمٍ واحدة خرَجَت منه».
كان إيسوب يخطف الألباب بحَكيِه، بالرغم من أنه كان مُجرَّد عبدٍ فقير، تَحرَّر بحكاياته، دخل بلاط ملك ليديا بحكاياته، بقى فى ذاكرة كل من استمع إليه بحكاياته.


أريدك كإيسوب الموهوب، لا تَكُن سجين موهبتك، بل تَحرَّرْ بما تملك من موهبة، أريدك أيضًا كالثعلب الذى أفلت من الفخ بقوَّة الملاحظة، أَعمِلْ الملاحظة؛ حينها ستنجو...
الكتابة هى وسيلتك لتتَّصِل بالعالم، لا لتنفصل عنه، لتقترب من الناس لا لتبتعد عنهم، لتحب نفسك أكثر لا لتَمقُتَها، الكتابة فعل إيجابى، ويجب أن يُعزِّز لديك الأفكار والمشاعر الإيجابية.


أحِبَّ العالم يا صديقى، اشعُرْ بفخرِكَ لانتسابك له، أحِبَّ نفسَكَ لأنك جزء من هذا العالم العظيم، لكنك يجب أن تكون جزءًا مُحبَّبًا عظيمًا لا غير ذلك، الكتابة وسيلتك لذلك، وسيلتك للحب، فرصتك الحقيقية للتعبير عن حبك لنفسك وحبك للعالم.
قرأت لأحدهم يَصِفُ المبدع بأنه أكبر مُدلِّس فى التاريخ، لأنه يُسهِم فى تزيين وجه العالم، الموسيقيون، الرَّسَّامون، الشعراء، الكُتَّاب، كل هؤلاء يراهم مُدلِّسين، لأنهم يعلمون بشاعَةَ العالم ويُزيِّنونه لنا لنستطيع العيش، هذا وعى مُشوَّش، العالم جميل يا صديقى، وكل هؤلاء المبدعين جاؤوا برسالة واحدة، هدفها أن نرى ونحس ونعيش هذا الجمال.
>>>
أقول لكِ يا سافو إن الألم لا يكمن فقط فى التفاصيل الصغيرة التى تزعجك وتحتل ذاكرتك، ألمى الأعظم فى العجز الذى أعيشه، أنا لا أريد كلامك النظرى الذى يُشعرنى بأنك لا تشعرين بمصيبتى، تفهَّمتُ كل كلامك السابق الذى أنكرتِ فيه «حصْرة الكتابة»، لكنَّنى أدرك تمامًا أن ما أمرُّ به الآن لا مَخرَجَ منه إلَّا أنتِ، أقول ذلك وتندهشين، ستبدو عيناك برَّاقَتَيْن، وسألمح نظرة من الفرحة مع عدم التصديق حين أقول إن هناك مِمَّن أتى بعدك بمئات السنين أكَّد أنك الموزية العاشرة، نعم، قالها «أفلاطون»، أنا أصدِّق كلامه، أنتِ يا سافو إحدى ربَّات الإلهام، وعليك أن تنقذينى ممَّا أنا فيه.


سأقول لك دون مواربة، إنكِ بالتأكيد سمعتِ عن «احتباس البول»، أن تكون المثانة ممتلئة والبول يضغط محاولًا الاندفاع، لكنَّ شيئًا ما يمنع خروجه، آلام شديدة تَحدُث، كأنَّ ما بداخلك سينفجر، شكل من أشكال العذاب العظيم يا سافو، أتدرين؟ نفس الأمر يحدث معى الآن، لكن فى عقلى، هناك كتابة تمتلئ بها روحى، أفكار يمتلئ بها عقلى حول ما أودُّ كتابته بالفعل، لكن هناك تشويش ما، عائِقٌ ما، أتخيَّل كأن حصواتٍ صغيرة تنتشر داخل شرايين مُخِّى، تخنق مسارات التفكير، كأن هناك ما يمسك روحى من رقبتها، يعتصر مادة الكتابة داخلها، أنا أتألَّم يا سافو، الأمر ليس ترفًا ولا يحوى أيَّةَ مُبالَغَة، إن ما يحدث يمنعنى النوم، الأفكار المتزاحمة والهواجس تجعلنى لا أنام أكثر من ساعتين فى اليوم رغم وجودى على السرير، هالات سوداء أسفل جفنى تجعلنى أبدو كمُدمِن، أنا أترنح كعاشق بائس، فعلت كل ما يجب على فِعلُه، ابتعدتُ عن أجواء الكتابة، تناسَيتُها وعدت إليها مرَّةً ثانية بروح جديدة، خرجت فى رحلات خلوية، ركَّزتُ فقط فى القراءة، مارست تمارين لشحذ الخيال، تنظرين لى الآن مبتَسِمَة، تضعين يدَكِ على رأسى، تمسحين شعرى وأنت تُتَمتِمين بكلمات لا أتبيَّنها، كأنَّكِ تُقدِّمين لى رُقيَة، أعرف أنك تفعلين ذلك لإرضائى، وربما لإكسابى الثقة، لكنك فى الأصل غير مقتنعة، لو أردتِ يا سافو فعل شىء لى بشكل حقيقى، فلن تحتاجى حينها لِلَمسى ولا للتَّمتَمَة، لو أردتِ مساعدتى ستنقلين من قلبك لقلبى مباشرة، ستبُثِّين من روحك لروحى، حينها سيمسُّنى بعضٌ من نورك، لكنك فى الأصل تنكرين حالتى كما أوضحتِ منذ قليل، تتخيَّلين أننى أقف فى المكان الخطأ، دُلِّينى أين أقِف؟
ظلَّ خالد يقفز من مكان لمكان كالمجنون، وهو يتساءل، هنا، أم هنا؟ قولى لى يا سافو، أَأَقِفُ هنا ويأتينى الإلهام، شعرت سافو بورطته الحقيقية، بدا التعاطف على ملامحها، كانت تقف فى مواجهته، تتحرَّك، تروح وتجىء بينما كان يتحدَّث، الآن جلست بجواره، قالت بنبرة هادئة: اسمع يا صغيرى أريدك أن تُهوِّن على نفسك، لا تجعل الأمور تضغط على أعصابك لهذا الحد، الكتابة ماكرة، لا تجعلها تقضى على حياتك، يؤسفنى أن أقولها لك بهذا الوضوح، الكتابة لَعوب، لا تنظر لى هكذا، نعم، الكتابة لعوبٌ، تريد أن توهِمَكَ أنك عشيقها الأوحد، فتنتزعك، تستخلصك لنفسها فقط، تحصل على عصارة حياتك، لكنك لا بُدَّ أن تدرك لعنتها، الكتابة ملعونة يا عزيزى، تمتصُّ حياتك، تجعلك تعيشها فقط على الورق.


أتدرى، لقد شاهدت ذات يوم شاعرًا موهوبًا يفقد حياته أمامى دون أن أعى ذلك فى وقتها، نام حزينًا ولم يستيقظ، كثيرون هم الشعراء الحزانى الذين يفقدون حياتهم إثر حديثٍ غاضب أو انفعال مكبوت، هو فى الحقيقية لم يكن غاضبًا، كان يجلس معى نتناقش فى أمور الشِّعر المتردِّية، نتحدث عن سيمونيديس وقصائده التى تسخر من النساء، يستقبلها الناس وتنتشر بينهم وتتردَّد على ألسنة الصبية طوال النهار، حتى إنه فى قصيدته الأخيرة صنَّف النساء، شَبَّهَهنَّ بأنواع مختلفة من الحيوانات، ومع ذلك باتت فى غضون أيامٍ القصيدةَ الأكثر انتشارًا فى كل البلاد...
أنهينا كلامنا بعدما حاول كُلٌّ مِنَّا تقديم تفسيره للظاهرة، أسمعته قصيدتى الأخيرة، وعندما هَمَّ بإلقاء آخر قصائده حضر سولون، ألقى السلام، جلس للاستماع، كانت قصيدةً عظيمة، بدت كترنيمته الأخيرة، فبينما ملكت القصيدة كل جوارحى، تساءل سولون بكل صَلَف:
«أين الشِّعر؟ أتُسمِّى هذا شعرًا؟ أَتَنعِتُ كلَّ هذا الهراء وكل هذه الأكاذيب بالشِّعر؟ ألا تخجل وأنت تُردِّد كل هذه الأكاذيب على مسامعنا؟».
حينها احمرَّ وجه الشاب، لم يستطع أن يَرُدَّ على سولون الشهير، لكنِّى قُلتُ:
«ليس من المطلوب أن يكتب الجميع كما تكتب، أنت تقدِّم قصيدتك التى تُعبِّر عن آرائك السياسية والفلسفية، أنت تقدِّم ما تتخيله حقائق، هو يحتفى بالحياة التى يتمنَّاها فى خياله، هو يتحدَّث عن مشاعره تجاه الأشياء، هذا ما تنعته أنت بالكذب».


رد سولون مُردِّدًا نفس النغمة وكأن ما قلته لم يُسمع:
«لو ارتضينا الكذب بهذه الطريقة السَّافِرَة، سيأتى يوم نجد الكذب وقد حَلَّ فى عقود العمل التى نُبرِمُها».
طال النقاش بيننا، ومع كل رَدٍّ كان يتأكَّد لى أن هناك رجالًا لا يسمعون لك حين تتحدث، هم يُكرِّرون نفس أقوالهم، لا تتزعزع معتقداتهم قيد أنملة. ظلَّ الشاعر الشاب صامتًا طوال الوقت يتصبَّب عَرَقًا، وفى صباح اليوم التالى، وجدوه ميتًا وقد تجرَّع كأس سُمٍّ، وبجواره رسالة أخيرة:
«إن الموت أكرَمُ لرَجُلٍ يُعجِزُه الدفاع عن كلماته».


مأساة يا سافو ما تقولينه الآن، تقولين وأتذكَّر ما قاله سولون عندما سُئل فى آخر أيامه عن أمنية واحدة يَوَدُّ تحقيقها قبل الموت، فقال بلا تردُّد:
«قصيدة من سـافو أُردِّدها ثم أموت»!
أقول لك إن هناك رجالًا لا يَقِلُّون سوءًا عمَّن ذكرتِ يا عزيزتى، وهم الذين يفهمون بعد فوات الأوان، الذين يقضون آخر أوقاتهم على الأرض فى حسرة وندم عظيم.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة