أول مرة أركب الهواء في حياتي وأستقل طائرة كانت علي متن طائرة خاصة من طائرات مصر للطيران. الركاب جميعهم من مصر ودول عربية شقيقة. ما إن لمست عجلات الطائرة أرض مطار الدولة الشقيقة حتي علت أكف الركاب بالتصفيق. كان الهبوط حقاً ناعماً سلساً وقد عزف قائد الطائرة سيمفونية رائعة بددت هواجس التجربة الأولي لراكبة مثلي.
حين تكرر الأمر نفسه في رحلة العودة، ذابت مخاوفي وتبخر جهلي إذ تصورت أن هذا هو الشكل الطبيعي للهبوط. وظننت أن التصفيق لقائد الطائرة هو أحد طقوس الهبوط الآمن ومن أدبيات العلاقة بين الركاب والطيار مثلما يحدث مع مشهد النهاية لفيلم جديد في السينما. في رحلتي الثانية وكانت علي واحدة من أكبر الناقلات الأمريكية تبدلت الصورة تماماً. بداية لم أعر بالاً لإعلان المضيفة بالهبوط فقد جربته من قبل ولم يكن ذلك الوحش المخيف الذي تخيلته. إلتزمت بالتعليمات وربطت الحزام وأغمضت عينيّ استعداداً للحظة الرائعة التي تسبح فيها الطائرة علي أرض مطار جي إف كيه فإذا بارتطام شديد وارتجاج عنيف وكأن الطيار قد أفلت المكابح فجأة وترك الطائرة تسقط من علٍ. نظرت حولي لأستبين مشاعر من حولي فلم أجد سوي ملامح الانزعاج. والاستياء! جهزت كفيّ لأبدأ في التصفيق وأبدو كراكبة مهذبة فاهمة لأصول وآداب الهبوط فلم أسمع سوي ضوضاء الركاب استعداداً لمغادرة الطائرة وكأنهم ينزلون من أوتوبيس نقل عام في القاهرة. هذا المشهد العنيف تكرر في منتصف رحلة العودة عند الهبوط في فرانكفورت، وكنت قد غيرت الشركة الناقلة في النصف الثاني من الرحلة للقاهرة واخترت مصر للطيران.
لدهشتي كانت غالبية الركاب من الألمان، أما المصريون والعرب فكانوا قلة قليلة لا يزيد عددهم عن أصابع اليدين. هنا عادت معزوفة الهبوط من جديد تلك الهدهدة الحانية التي تبعث رسالة للقادمين «إدخلوها بسلام آمنين» وللمرة الثالثة في حياتي أري أكف الركاب وهي تلتهب بالتصفيق للمايسترو مصحوبة بابتسامات وتهانٍ بسلامة الهبوط مع موجات من السعادة تسري في جنبات الطائرة.
تعددت سفراتي وتنوعت شركات الطيران التي أستخدمها ما بين آسيوية وأوروبية وعربية وأمريكية، وفي كل مرة يتأكد لي أن الطيار المصري وحده، وحده فعلاً هو الذي يحظي بهذا التصفيق علي اختلاف جنسيات الركاب. حتي عندما تعرضت طائرتي مرتين للمطبات الجوية كانت إحداهما علي مصر للطيران والأخري مع شركة إير فرانس. كان الفارق الشاسع بين طريقة الخروج من المطبين هو بطل المشهد ذاته ليصبح التصفيق لطياري مصر للطيران أمراً مألوفاً ودليلاً علي كفاءتهم ومهارتهم التي ينطبق عليها المثل الأمريكي القائل too good to be true.
لا شك أن شهادتي أنا وكل المصريين في حق طياري شركتنا الوطنية شهادة مجروحة. ولا يكفي للدفاع عنها أن نحدث أنفسنا بمناقب طيارينا الذين يتعرضون لحملة دعائية مناوئة تريد أن تنزع عنهم سمعتهم الفريدة في الكفاءة والمهارة ضمن حملة أوسع تستهدف الشركة الوطنية والوطن بأسره. لذلك علينا أن ندير حملة دعاية بكل لغات العالم وبشهادات حقيقية مرئية ومسموعة في أفلام دعائية جذابة من الركاب الأجانب إلي مواطنيهم بلغاتهم وفي بلادهم ليصبح الدفاع عنها علي لسان ضيوفها لا مواطنيها المصريين فقط. لا مانع أيضاً من إجراء استقصاء لآراء الركاب في نهاية كل رحلة ومنح مزايا تشجيعية وتخفيضات متدرجة حسب طول الأميال التي يقطعها الركاب علي متنها مثلما تفعل الشركات الأجنبية، ومن الضروري أن تكون التخفيضات حقيقية تنافسية بحيث تبتعد عن أسر وقيود الضرائب الباهظة التي تجعل مصر للطيران من أغلي شركات الطيران. ومن الممكن تقديم هدايا عينية تذكارية للركاب يحتفظون بها لتذكرهم برحلتهم الممتعة علي متن مصر للطيران.
من الخطأ أن نتذرع دائما بضآلة الإمكانيات، فلنحسبها بالطريقة الشعبية «خسارة قريبة أفضل من المكسب البعيد» ويمكننا أن نعدل المثل ليصبح «الخسارة القريبة تأتي بالمكسب البعيد». وبجملة النفقات والخسائر الإجبارية التي تعرضنا لها يجب أن نعترف بأن ثمة نفقات وتضحيات طوعية قد تكون حقاً مكلفة مادياً يجب أن نقدمها ولو كرهاً كي نواجه آثار الحملة الشرسة ضد واحدة من أهم موارد الدولة سواء في مجال صناعة السياحة أو النقل الجوي حتي تستعيد شركتنا الوطنية سمعتها السابقة.