يبدو أننا خبراء في صناعة الأزمات.. ليس فينا من يعمل عقله ويسيطر علي مشاعره قبل أن يخطو خطوة واحدة.. نري كل الطرق أمامنا ممهدة ومضيئة.. لكننا نصر علي السير في الطريق الوعر المظلم.. ثم نسأل أنفسنا عندما نقع.. ايه اللي جابنا هنا.
المشكلة في كل أزماتنا.. هي أننا نقع فيها بأيدينا.. كلنا مخطئون.. ثم بعد ذلك نحلل وننظر ونستعد للدفاع.. الكل يلقي اللوم علي الآخرين وينسي نفسه.. مع أن الكل مشارك في الأزمة وبنفس القدر.. لا يملك أي طرف شجاعة الاعتراف بالخطأ.. لذلك تبقي الأزمات والمشاكل بلا حلول.. والأفظع هو أننا نرتكب مرة أخري نفس الخطيئة.. لا نتعلم ولا نملك الرغبة في أن نتعلم.
خلافاتنا حتي لو كانت بسيطة.. وحلولها قريبة.. تتحول في لحظات إلي حروب نارية.. وفي لحظات يصبح الأصدقاء والزملاء أعداء تنقطع بينهم كل سبل الإصلاح.. كل هذا بفضل غياب العقل الرشيد.. والمنطق وأدب الحوار.. نصم آذاننا عن سماع وجهة النظر الأخري.. وتطول الألسنة إلي أبعد مدي.. ويتصور كل منا أنه وحده صاحب الحق والحقيقة.. لا نترك أي مساحة للتراجع.. نتشاجر ونتخانق.. ونترك العيال تزيد الطين بلة.. حتي لا تكون هناك رجعة.
أرفض أن يهان الصحفيون أو تمس نقابتهم بسوء.. وأرفض أن تنكسر وزارة الداخلية أو يهان رجالها.. لكن قدرنا وضعنا في يد من يسئ إلي الاثنين ويقسم بينهما ويفرق كل منهما من داخلهما إلي قسمين.. قدرنا أن نقع في يد من لا يقدر المسئولية.. ويتصرف بحكم موقعه تصرفا غير مسئول.
إدارة الأزمات فن لا نجيده.. ربما لا نعرفه ولا نحاول أن نعرفه.. حتي في الأزمات التي نصنعها بأيدينا.. وبالطبع في الأزمات التي نواجهها من صنع أعدائنا.. وهذا عجز شديد.. رغم أن لدينا الكثير من الحكماء.. لكن الغوغائية في الحوار والتعصب الأعمي لوجهة النظر الضيقة.. تجعل هؤلاء الحكماء بعيدين عن المشهد برغبتهم أو رغما عنهم.
أزمة الصحافة والداخلية كان يمكن حلها بصورة أفضل.. ووأدها في مهدها.. في إطار القانون الذي نقدره ونحترمه ونطالب بتطبيقه علي الجميع دون سواء.. واحترام كل الأطراف والهيئات والمؤسسات والأجهزة والنقابات ضرورة.. ولكن تصور كل طرف علي أنه فوق الآخرين هو من يخلق تلك المواقف الصعبة والسخيفة.
أخطأ بعض مسئولي النقابة باحتضانها لمطلوبين من العدالة لما ارتكباه في حق الوطن والمجتمع.. وحق مؤسسات الدولة وقائدها وجيشها وشرطتها وقضاتها وأعطوا انطباعا بأن النقابة فوق القانون، وأن الصحفيين فوق الحساب.. وأن علي رأسهم ريشة.. واستغل الموقف كل هواة النفخ في النار من الصحفيين وغير الصحفيين غير عابئين بالوطن والدولة والشعب كله. وأنا أثق في أن الغالبية العظمي من الصحفيين المؤمنين برسالتهم والمقدرين لعظمة وجلال مهنتهم يؤمنون بأنهم ليسوا فوق القانون وأنه يجب أن يطبق علي الجميع دون تمييز.. وأنهم ليسوا علي رأسهم ريشة.. وأن الوطن وأمنه واستقراره هو خط أحمر لا يمكن تجاوزه.
علي الجانب الآخر.. كان علي قوة الضبط وهي تمارس عملها وتنفذ القانون.. ونحن لا نختلف حول ضرورة تنفيذه، أن تدرك حساسية الزمان والمكان.. حتي لا نقع فيما وقعنا فيه. لا حصانة لأي مكان يأوي مطلوبين للعدالة حتي لو كان دار عبادة.. وإلا كان المسئول عن المكان شريكا في الجريمة.. ولكن قليلا من السياسة والكياسة مطلوب في بعض الأحيان.
الذي حدث بعد تلك الأزمة كالعادة هو انقسام في المجتمع وانقسام داخل الأسرة الصحفية.. وأصبح هناك من يطالب بإقالة وزير الداخلية «لاقتحامه مكانا مقدسا لا يمس».. وهناك من يطالب بإقالة مجلس النقابة الذي «رفض تنفيذ القانون وتستر علي مطلوبين للعدالة».. وتطرف الجانبان إلي ما هو أبعد من ذلك.. وهو ما نرفضه.. فلا نقابة الصحفيين يمكن أن تنكسر ولن نسمح بذلك.. ولا الأمن يمكن أن ينهار ولن نسمح بذلك أيضا.
لابد لتلك الأزمة أن تنتهي.. في إطار القانون والمنطق.. وفي إطار الحفاظ علي الوطن ومؤسساته.. وفي إطار حماية النقابات وأعضائها.. وفي إطار الحفاظ علي كرامة الصحفيين ورجال الأمن.. وأخيرا في إطار المسئولية تجاه المجتمع.
وحتي تنتهي الأزمة.. لابد أن يجمع «كبير» طرفي الأزمة.. وينبهما إلي خطورة ما انتهت إليه تصرفات غير مسئولة.. وألا نطبق المثل القائل.. «يعملوها الصغار ويقع فيها الكبار».
الصغار هم من تصرفوا تلك التصرفات الحمقاء من الطرفين.. والكبار هم من يؤمنون بأن الوطن وسلامته واستقراره هو الغاية والهدف.. وأن القانون فوق الجميع.