د. أمينة رشيد
د. أمينة رشيد


مقال لم ينشر من قبل للناقدة والمترجمة الراحلة «د.أمينة رشيد»: أن تكون فى العالم

أخبار الأدب

الثلاثاء، 14 سبتمبر 2021 - 09:37 ص

وليد الخشاب

ودع الوسط الثقافى فى الأسبوع الماضى الناقدة والمترجمة د.أمينة رشيد، هنا ملف خاص فى وداعها.
ننشر فيه مقالاً لها لم ينشر من قبل وشهادات من تلاميذها ومحبيها.

لم تكن أمينة أستاذة متميزة فقط بحجم قراءاتها وعلمها ومهارتها فى التحليل الأدبى والمقارنات الثقافية، ولا متفوقة فقط كمعلمة تستطيع شرح أعقد المفاهيم وأكثر الظروف الاجتماعية التاريخية تشابكاً ببساطة وسلاسة، بل كانت من هؤلاء المعلمين الموهوبين، الذين يعيشون عِلمَهم وعملية التعليم فى حياتهم عيشاً، وحياتهم جزء من ممارستهم البحث والتعليم. ليست تلك العبارة مجرد حلية بلاغية، بل هى وصف لطريقة أمينة فى «أن تكون فى العالم» كُلَاً متكاملاً، كإنسانة ومعلمة وباحثة فى آن، فى كل دقيقة. 


وأبسط الأمثلة وأكثرها عادية هى التى توضح من هى أمينة المعلمة والإنسانة. كنا نزور أمينة من حين لآخر - مى وأنا- وبصحبتنا شهاب ابننا الأكبر، وهو بعدُ صبي. فكانت تتعامل مع شهاب ببساطة وندية وتخاطبه مثلما تخاطبنا، وكانت تسلمه فور وصوله رشاشاً للماء وتكلفه بمهمة أن يسقى الزرع فى شرفتها. بهذه المرونة والديمقراطية تمارس فكرة المساواة بين الأجيال، وتلغى التراتبية المعتادة -لا سيما فى أوساط المثقفين- بين العمل الذهنى والعمل اليدوي، فهى لم تعطه كتابا يقرأه أو ورقا يرسم عليه، ولم تفعل كما يفعل معظم أبناء الطبقة الوسطى: أن تفتح التيلفزيون ليتلهى بمشاهدة فيلم ما. وهى كذلك تعلمه إعلاء شأن العمل والمشاركة فى المهام «العامة»، كل ذلك بينما تجاذبنا أطراف الحديث بين ما هو شخصى وما هو من الشأن العام. هكذا كانت داعية للمساواة والتقدم بإعلاء قيمة كل عمل، فى دروسها وكتاباتها وأصغر لفتاتها فى حياتها اليومية.


كانت أمينة نموذجاً لاتساق المثقف مع أفكاره وتناغم المعلم مع مضمون دروسه. بالتعبير التراثي، كانت إذا قالت، فعلت. حصلت أمينة على وظيفة فى واحد من أكبر مراكز البحث فى مجال العلوم الإنسانية فى العالم، وهو المركز القومى للبحوث العلمية بفرنسا (والذى أُنْشِئ على غراره المركز القومى للبحوث فى مصر). ومع ذلك قررت أن تعود إلى مصر فى نهاية السبعينيات لتساهم فى بناء المجتمع على أسس العدل التى تتبناها، ولتشارك فى إنتاج معرفة عربية حديثة من خلال جامعة القاهرة، كجزء من التزام مثقفى جيلها من أبناء اليسار ببناء مجتمعات ما بعد التحرر الوطني، لاسيما المجتمعات التى وُلِدوا فيها. 


لم أسمعها يوماً تبدى أسفاً على قرارها هذا، ولا على سبيل الدعابة. ليس فقط لأن مآل ظروف البحث العلمى تطور إلى الأفضل فى أوروبا، بينما لم يصادفه التوفيق نفسه فى كافة العقود بمصر، ولكن لأنها لم تكد تعود إلى الوطن حتى اعْتُقِلَتْ ضمن المئات الذين شملتهم اعتقالات سبتمبر 1981 فى الأسابيع الأخيرة من حكم الرئيس السادات. ولم يحدث يوماً أن أشارت إلى المفارقة الساخرة فى دخولها المعتقل بعد قليل من تخليها عن وظيفة مهمة بفرنسا. كانت دائماً مثال الرضا والتعايش مع متغيرات الظروف وتقلبات الزمن، متسقة بذلك مع إيمانها الفكرى بأن التاريخ فى حركة دائمة وفى حال صيرورة مستمرة من نقيض إلى نقيض، ومتسامحة بصفاء وشفافية مع احتمال أن تتعرض للسجن أو التهميش من قِبَل المؤسسات، بسبب مواقفها من أجل الدفاع عن البسطاء وعن الاستقلال الوطني، باعتبار ذلك جزءًا من جدلية العمل على تحسين ظروف المجتمع ومقاومة القوى المحافظة لأى تغيير.


كانت أمينة تتكلم دائما بثقة ومن موقف اقتناع حاسم بأطروحاتها، بعد أن توليها عناية كبيرة فى الفحص والتدبر، دون أن تقفل باب النقاش والمراجعة، وهى علامة العالم الواثق، والمنفتح فى آن على البحث دون جمود عقائدي. لكنها كانت تبدو دائماً تجسيداً لفكرة تواضع العلماء، لأنها أبداً لم تكن تفاخر بعلم أو بحث منشور، ولا تكاد تذكر إلا بين أقرب الأقربين -وعلى استحياء- إنها سليلة طبقة الحكام والباشوات. وعلى عكس كثير من أبناء اليسار الذين قاسوا مرارة الاعتقال مثلها، لم تشر يوماً إلى أنها قد تعرضت للاعتقال زمن الرئيس السادات، إلا بتعفف وإيجاز حين يلح السائل فى السؤال. فلم تقع يوماً فى فخ استعراض البطولات ولا إعلان قائمة تضحياتها من أجل العمل بقناعاتها وانحيازها للبسطاء.


لكن سعة صدرها وأفقها كانت الإطار الحاكم لتعاملها مع الكل، لا سيما تلاميذها. شجعتنى مرةً بعبارة رقيقة على العودة إلى مصر بعد إتمامى رسالة الدكتوراه بكندا. ويوم أخبرتها بقرارى البقاء فى مونتريال والعمل هناك، لم تَلُمْنى لثانية واحدة، رغم أن قرارى كان على النقيض من موقفها هى حين عادت إلى مصر غير عابئة بالوظيفة فى فرنسا، ورغم أن قناعاتها الأخلاقية والسياسية كانت منحازة لعودة كل العقول إلى أرض الوطن للمشاركة فى إنتاج المعرفة فى هذا الإطار. 


كانت مرونتها وقدرتها على بناء جسور مع الكل، وهدوءها الآسرعوامل حاسمة فى اهتمامها بمجالات بحثية متعددة ومناهج مختلفة عبر العقود، من الأدب الواقعى مدروسا بمنظور تاريخي/اجتماعي، إلى علم العلامات، إلى دراسة أدب النساء وأدب السيرة الذاتية بأدوات علم السرد أو بنظريات تعدد الأصوات. ولهذا جمعت بين تلاميذها ملامح التزام عام بقضايا المجتمع والعدالة والتحرر، مع تباين شديد فى اهتماماتهم الفكرية والمنهجية ومواقفهم الأيديولوجية.


أَشْرَفَت أمينة على رسالتى للماجستير عن المقارنة بين آليات الإنشائية وفنية البناء الأدبى فى السرد والمسرح عند أوجين يونسكو، رغم أن هذه الهموم التقنية كانت أبعد ما تكون عن اهتماماتها التى دائما ما تربط الأدب بالتاريخ والحراك الاجتماعي. لكنها وافقت أن تدعمنى بسخاء كما كانت تفعل مع الباحثين الذين تتوسم فيهم استعداداً للتفانى فى الدراسة والبحث. وكان أقصى ما ألمحت به من تفضيل لمجالات دون أخرى طرقْتُها فى أبحاثي، كلمة صاغتها برقتها وبساطتها المعهودتين، بعد أكثر من عشرين عاماً من حصولى على الماجستير. ولعل تلك اللحظة كانت آخر مناقشة علمية رصينة دارت بينى وبين أمينة، عقب إلقائى محاضرة عن الميلودراما فى السينما المصرية عام 2016. حاورتنى أمينة حول فرضيتى أن الميلودراما قد لعبت دور مساحة التفاوض مع الحداثة فى المجتمعات العربية، وأنها كانت وسيلة لتعزية الطبقات الشعبية ثم الوسطى حيال قلقها، بل وجزعها بسبب التغيرات القيمية المتسارعة بفعل التحديث المستورد من الغرب. ثم أضافت: «عاجبنى قوى شغلك ده، أكثر من شغلك قبل كده».


دعمتنى أمينة لعقود بموضوعية علمية وتفاعلت معى لتسهم فى إثراء النقاش وتقدم التحليل والمقارنة بأخلاقيات «حرفية» البحث، ولم تصرح لى بما كنت أعرفه من تفضيلها للمقاربات التاريخية الاجتماعية المادية للقضايا، إلا عندما طرقت موضوعاً وقاربته تلك المقاربة. وهى فى ذلك لا تجامل على حساب رأيها الموضوعى وصرامة التقييم الأكاديمى والفني. لا أنسى أنى قرأت عليها وعلى سيد البحراوى بعض قصائدى المكتوبة بالعامية فى نهاية الثمانيات ومطلع التسعينيات، وكانت قصائد حماسية داعمة لنضال العمال، لاسيما خلال بعض الإضرابات. وتصورت أن تعجبها القصائد على الأقل لأن موضوعها كان الانتصار للطبقات الكادحة وكان متفقاً مع قناعاتها السياسية والاجتماعية. لم تقل لى إنها لم تستسغ القصائد فنياً، وإنما بكياستها الفائقة، الممزوجة بالصراحة الآخذة، سألتني: «وأنت ليه عاوز تكتب شعر؟». فأنقذتنى من الاستمرار فى كتابة لا تقدم جديداً على المستوى الفني، وأنقذت شعر العامية منى إلى الأبد.


لهذا، كنتُ دائماً ما أشعر بالامتنان لأمينة بسبب الحماية والرعاية الأكاديمية والإدارية والإنسانية التى تَمَتَعْتُ بها طيلة مشوارى البحثى حتى تقاعدت هي. لا أظن وصفها بالأم يكون دقيقاً، رغم أنها دوماً حنون عطوف، لأنها لم تكن تتسلط على كما تتسلط الأمهات القويات، ولا تجعل حنانها ودعمها يغشيان حكمها الأكاديمى أو الفنى الصارم على إنتاجى المعرفى أو الشعري. ولعل أدق وصف لإنسانيتها الخالصة وقوتها المتجردة من البأس هو أنها أمومية حنون. سيدة حانية فى قوتها، قوية رغم حنانها.
هكذا كانت أمينة: تجسيداً للجدلية المادية التاريخية، تُنتِجُ الجديد من تفاعل ضدين.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 

مشاركة