جمال فهمي
جمال فهمي


من دفتر الأحوال

الفردوس المفقود

جمال فهمي

الثلاثاء، 14 سبتمبر 2021 - 06:52 م

الكثير من دارسى الأدب الإنجليزى يجهرون باعتقاد راسخ لديهم، أنه لا يوجد فى منتجات هذا الأدب العظيم ملحمة شعرية بحجم أو من وزن تلك الملحمة الرائعة الخالدة التى كتبها الشاعر جون ميلتون (1608 1674) فى عشرة كتب تحت عنوان «الفردوس المفقود».

هذه الملحمة الشعرية (ترجمها إلى العربية الدكتور محمد عناني) وكما يشير عنوانها، تحكى عن هبوط الإنسان من الجنة ونعيمها إلى الأرض بكل منغصاتها بسبب خطيئته التى زينها له الشيطان عندما حرضه على عصيان الأمر الإلهى وأكل ثمرة الشجرة المحرمة.

إذن هذا النص الشعرى الفريد والطويل جداً، موضوعه رحلة التمرد والعصيان، بدءاً من تمرد إبليس قبل أن تنزل عليه اللعنة الإلهية ثم تالياً تحريضه آدم وحواء على السير معه فى طريق تمرد، وقد استمد ميلتون تفاصيل هذه الرحلة الطويلة من الكتب المقدسة، لكنه عالجها على نحو يجعلنا نؤمن أن كلا من الخير والشر، الشيطان والإنسان، كليهما وجهان لعملة واحدة، لهذا فإنك لا تستطيع اعتبار هده الملحمة مجرد تتبع لمسيرة الشيطان وشروره وحده، ولا هى أيضاً قصة رحلة الإنسان فقط وتتبع سقطاته وعذاباته وصراعه الدائم مع نفسه والآخرين من أجل الخير وهزيمة الشر .

تتوزع «الفردوس المفقود» فى نصها الأصلى، كما أسلفنا، على عشرة كتب، ورغم أن ميلتون أفصح فى سطورها الأولى أنها ستحتفى بـ «أول عصيان قام به الإنسان»، وبدا أن غايته تتبع رحلة البشر إلى الكون وفى الكون، ومع ذلك تأخر ظهور الإنسان فى الملحمة حتى منتصف كتابها الرابع، أى أن الثلث الأول كله شغله الشيطان ومغامراته وألاعيبه ومعاركه.

يروى لنا جون ميلتون منذ الكتاب الأول مغامرة الشيطان فى الكون مفصحاً عن الهدف الأسمى لهذا الأخير، ألا وهو دفع وتحريض البشر على العصيان، هذا ما أظهره جدال إبليس ومساجلاته مع الملائكة الذين كان هو شخصياً ضمن زمرتهم قبل واقعة تمرده.

 بدأ إبليس يمارس نشاطه المحموم لتنفيذ هدفه، فتمكن من الوصول إلى جنة عدن، حيث يعيش آدم وحواء فى بلهنية حلوة حياة ناعمة فى حمى طاعة الله، حيث يتنكر ويعتلى شجرة الحياة وهو يعرف أن الخالق منعهما من أكل أى من ثمارها، وعلى الفور راح يوسوس فى صدر حواء ويغويها لكى تتولى هى بدورها إغواء آدم على عصيان الأمر الإلهى، وتنجح خطته ويتحقق مخططه الشيطانى رغم جهاد وكفاح الملاك جبريل ضده.

غير أن الشيطان لا يتوقف عند هذا الحد، كما نعرف جميعاً، لكنه يواصل تنفيذ قراره الأصلى أى ملاحقة الإنسان بشروره على مدى الأزمان، وهنا يواكب جون ميلتون رحلة الإنسان وهو يواجه ألاعيب الشيطان، تارة ينهزم أمامه ويسقط فى الخطايا الشرو، وتارة ينتصر ويتسامى عالياً فوق الشر فينحاز للخير ويصنعه.

هكذا تعرض ملحمة «الفردوس المفقود» رحلة البشر فى الدنيا، ويبدو ميلتون، مستلهماً سيرة حياته هو الشخصية وكيف واجه بقوة إرادة لم يكن يتخيلها مآسى وأحزانا جبارة (موت زوجته وابنه وفقدانه نعمة البصر) وكأنه يقول فى هذه الملحمة: إن الإنسان، أقوى من كل الشياطين والشرور، وأن خطيئته الأولى صنعت تاريخ البشرية عندما فتحت الباب للصراع حامى الوطيس بين الخير والشر والنور والظلام .. باختصار، نور الخير سيبدد ظلام الشر فى النهاية.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة