صدقوني تطبيق القانون علي الجميع ودون محاباة لأحد هو البداية لأن يتحول احترامنا للقانون لسلوك بشري معتاد

نظرة واحدة من شباك الطائرة لحظة هبوطها بمطار مدينة دوسلدورف الألمانية كانت كافية لمعرفة الفارق بين العالم المتقدم والعالم النامي أو بالأدق بيننا وبينهم والذي يتلخص في عبارتين لا ثالث لهما احترام قواعد البيئة واحترام القانون وتحولهما إلي سلوك بشري اعتيادي قبل الخوف من العقوبة.
الأشجار تملأ الشوارع في تنسيق وترتيب كأنها وضعت بيد فنان.. الخضرة الصافية تملأ جنبات مدرجات المطار.. وتوربينات الرياح تعلو أسطح المنازل بما ينافس أطباق الدش عندنا كمصدر طاقة احتياطي حال حدوث عطل كهربائي والذي هو نادرا ما يحدث.
لم يحالفني الحظ طوال يومين قضيتهما في دوسلدورف من رؤية ضابط أو حتي جندي مرور بالشوارع الأمر كله إلكترونيا وعبر الإشارات الضوئية ولا أحد يخالف أو حتي يفكر في المخالفة وباءت كل محاولاتنا مع قائد السيارة التي تقلنا في تنقلاتنا في اقتناعه بكسر الإشارة طالما لا يوجد بشر يراقبه.. الجميع يراعي مشاعر الجميع ولم نر سائقا يسب أو يتشاجر مع آخر ليفسح له الطريق أو حتي يشكره علي سلوك محمود بكلمة شكرا يا لورد.. فالكل يؤدي المطلوب منه دون انتظار لكلمة شكر أو إطراء وقد لا تصدق أنني لم أسمع كلاكس واحدا من كلاكساتنا التي تكاد تصم الآذان.
الأمطار الجميلة - أكرر الجميلة - لم تنقطع علي دوسلدورف لكن الحياة ماضية بشكل طبيعي تماما مثل عقارب الساعة.. لا بحيرات في الشوارع ولا زحاليق طين فلا تكاد تري علي الأرض قطرات مياه.. الناس في أحوالهم ماضون إلي عملهم أو في طريق العودة بكل همة ونشاط وكل ما يحتاجه الشخص مجرد معطف أو جاكت ثقيل نسبيا لمقاومة الطقس البارد ومظلة تقيك قطرات المطر. ووسط هذه الأجواء تدهشك حركة البشر نساء ورجالا، القدمان ممشوقتان ومشية سريعة إلي حد ما قد تكون أيضا بهدف مقاومة البرودة.
الشوارع نظيفة تماما ولا حتي ورقة والتدخين ممنوع تماما بحكم القانون الألماني في كل الأماكن المغلقة منازل أو منشآت عامة أو خاصة وكذلك الفنادق والمطاعم.. والكل ملتزم وعلي المدخن تحمل البرودة للخروج للشارع لتدخين سيجارته في الأماكن التي بها طفايات للسجائر.. طقوس تجعل المدخن محاصرا لكنه في الوقت نفسه سعيد باحترام القانون وقواعد البيئة.
وفي العاصمة برلين وهي المحطة الثانية في الرحلة تكرر السيناريو نفسه «هو هو بذكاوته» حيث الخضرة المنتشرة في الشوارع واحترام المرور وقواعد البيئة والأمطار.. المحلات تغلق تماما في التاسعة مساء دون استثناء لأحد عدا المطاعم فيمتد العمل بها حتي الثانية عشرة مساء فهم يبدأون عملهم مبكرا وبالتالي لابد وأن يخلدوا مبكرا للراحة فهم يطبقون دون أن يدركوا مأثورنا الشعبي «الأرزاق توزع باكرا».. الرصيف رصيد حق مكفول بالقانون للمشاة وعلي رصيفهم لا تخاف من أن يصدمك توك توك شارد أو بفرشة بائع لذا لا تستغرب من أن تري مواطنا ألمانيا يمشي في الشارع منشغلا بتصفح الإنترنت علي هاتفه المحمول فلا أحد يجرؤ علي شغل الرصيف.
في العاصمة تجولنا في مصنع شركة سيمنز لتوربينات الغاز التي تجري داخله عمليات تصنيع 80 توربينة غازية لثلاث محطات كهرباء عملاقة تقام في مصر في مناطق البرلس بكفر الشيخ وبني سويف والعاصمة الإدارية الجديدة.. وهذه المحطات تضيف 14400 ميجاوات كهرباء بحلول مايو 2018 أي ما يعادل نصف قدرة شبكة الكهرباء المصرية حاليا.
المصنع تماما مثل المستشفيات في اعتبارات النظافة والبيئة لم نر دخانا كثيفا فهو مدار بأعلي التقنيات ولم نر عمالا بالعفريتة الزرقاء المزيتة المعتادة عندنا.. الكل يرتدي زيا به كل اعتبارات الأمان.. إنه مصنع بلا ضجيج فالماكينات صممت لتصدر أقل قدر من الضجيج.
دائما لا أحبذ المقارنة التي هي بالقطع ستكون ظالمة بالنسبة لنا في ضوء الفروقات الاقتصادية والاجتماعية والحياتية بيننا وبينهم لكن التساؤل الذي نعرف جميعا إجابته ونرددها مثل الأغاني لكن لا نتبعها: لماذا لا نلتزم بالقانون وندمن اختراع طرق اختراقه؟ أعرف تماما أن أمامنا الكثير والكثير لنصل لهذا المستوي لكن المهم أن نبدأ فسؤالنا الحتمي والدائم.. من يدق الجرس؟
صدقوني تطبيق القانون علي الجميع ودون محاباة لأحد هو البداية لأن يتحول احترامنا للقانون لسلوك بشري معتاد دون خوف من العقاب.. مجرد درس من بلاد ميركل.