تامر فتحى
تامر فتحى


تامر فتحى: الرائحة علامة الحياة

أخبار الأدب

السبت، 18 سبتمبر 2021 - 04:19 م

 

حوار‭: ‬‭ ‬أحمد‭ ‬وائل

كان‭ ‬صدور‭ ‬كتاب‭ ‬تامر‭ ‬فتحى‭ (‬‮٠٨٩١‬‭) ‬الأول‭ ‬‮«‬بالأمس‭ ‬فقدت‭ ‬زرًا‭.. ‬قصة‭ ‬الملابس‮»‬‭ (‬شرقيات،‭ ‬‮٥٠٠٢‬‭) ‬مفاجأة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لى،‭ ‬بدا‭ ‬إعادة‭ ‬توظيف‭للشِعر‭ ‬فى‭ ‬شكل‭ ‬مختلف‭ ‬وجديد،‭ ‬الأمر‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬صوت‭ ‬جديد‭ ‬يُعلن‭ ‬عن‭ ‬نفسه،‭ ‬بل‭ ‬مزجًا‭ ‬وتوليفاً‭ ‬للشعر‭ ‬فى‭ ‬إهاب‭ ‬جديد،‭ ‬شكل‭ ‬يقبَل‭ ‬الحكاية،‭ ‬ويقدمها‭ ‬بحيوية،‭ ‬و‭ ‬يتفاعل‭ ‬مع‭ ‬الخيال‭ ‬ويصنع‭ ‬لعبة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يلعب‭ ‬معها‭ ‬القارئ‭.‬

عمل‭ ‬فتحى،‭ ‬وقتها،‭ ‬فى‭ ‬محل‭ ‬ملابس‭ ‬فى‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬ومن‭ ‬هناك‭ ‬بدأت‭ ‬لعبته‭ ‬الشعرية،‭ ‬ديوان‭ ‬عن‭ ‬الملابس،‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬ألعاب‭ ‬وبناء،‭ ‬كأننا‭ ‬نقرأ‭ ‬نصًا‭ ‬تفاعليًا،‭ ‬وهذا‭ ‬النص‭ ‬جاء‭ ‬شعرًا‭ ‬جميلًا،‭ ‬دون‭ ‬إغفال‭ ‬الدراما‭ ‬وصناعة‭ ‬عالم‭ ‬خيالى‭ ‬عبر‭ ‬التماهى‭ ‬مع‭ ‬الملابس‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬فى‭ ‬بيعها‭. ‬سرد‭ ‬فتحى‭ ‬المراحل‭ ‬التى‭ ‬تمرّ‭ ‬بها‭ ‬تلك‭ ‬الملابس،‭ ‬بل‭ ‬صارت‭ ‬أجسادًا‭ ‬لها‭ ‬مشاعر،‭ ‬تحزن‭ ‬وتفرح‭.‬

حين‭ ‬قابلت‭ ‬الشاعر‭ ‬وقتها‭ ‬لنتحدث‭ ‬عن‭ ‬الديوان،‭ ‬عرفت‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬فيلمًا‭ ‬أُعد‭ ‬من‭ ‬وحى‭ ‬الديوان،‭ ‬اعتذرت‭ ‬عن‭ ‬جهلى‭ ‬بذلك،‭ ‬فرد‭ ‬أنه‭ ‬فيلم‭ ‬لصديقه‭ ‬محمود‭ ‬فرج،‭ ‬وهو‭ ‬فيلم‭ ‬مستقل‭ ‬أخرجه‭ ‬فرج‭ ‬على‭ ‬نفقته،‭ ‬ويضم‭ ‬فريقه‭ ‬أصدقاءه،‭ ‬ويستوحى‭ ‬أجواء‭ ‬الديوان،‭ ‬ويقرأ‭ ‬فتحى‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬مشاهده‭ ‬شعرًا‭ ‬من‭ ‬الديوان‭. ‬وقتها‭ ‬كان‭ ‬فتحى‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬مشروع‭ ‬شعرى‭ ‬جديد،‭ ‬والذى‭ ‬بدا‭ ‬أنه‭ ‬فتح‭ ‬مساره‭ ‬بقصيدة‭ ‬‮«‬حياة‭ ‬جندى‭ ‬فى‭ ‬لعبة‭ ‬فيديو‭ ‬جيم‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬المشروع‭ ‬لم‭ ‬يصدر‭ ‬بعد‭.‬

فيما‭ ‬بعد‭ ‬سيكتب‭ ‬فتحى‭ ‬أفلامًا‭ ‬وثائقية‭ ‬وأغانى‭ ‬ومقالات،‭ ‬ويترجم‭ ‬أعمالًا‭ ‬منها‭ ‬‮«‬شفرة‭ ‬الموهبة‮»‬‭ ‬الذى‭ ‬شُغل‭ ‬مؤلفه‭ ‬دانيال‭ ‬كويل‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬مصدر‭ ‬الموهبة،‭ ‬هل‭ ‬هى‭ ‬مُعطاة،‭ ‬موجودة‭ ‬فى‭ ‬الموهوب‭ ‬منذ‭ ‬ميلاده،‭ ‬أم‭ ‬مكتسبة‭.‬

ووسط‭ ‬الترجمات،‭ ‬نشر‭ ‬فى‭ ‬‮«‬أخبار‭ ‬الأدب‮»‬‭ ‬نصًا‭ ‬شعريًا‭ ‬طويلًا‭ ‬عن‭ ‬القاهرة،‭ ‬عالم‭ ‬آخر‭ ‬صاغه‭ ‬شعريًا،‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬وكأننا‭ ‬أمام‭ ‬ديوان‭ ‬جديد،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يفعل‭.. ‬هكذا‭ ‬تستمر‭ ‬ألعاب‭ ‬تامر‭ ‬فتحى،‭ ‬يجرب‭ ‬ثيمة‭ ‬ما،‭ ‬حين‭ ‬ينشرها‭ ‬فى‭ ‬قصيدة،‭ ‬ثم‭ ‬يتركها،‭ ‬كأنها‭ ‬لا‭ ‬تصلح‭ ‬لصناعة‭ ‬ديوان‭. ‬يبدو‭ ‬الشِعر‭ ‬عنده،‭ ‬تجربة‭ ‬أو‭ ‬لعبة،‭ ‬بل‭ ‬يقول‭ ‬موضحًا‭ ‬أن‭ ‬الديوان‭ ‬لا‭ ‬بُد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عالمًا‭ ‬يبتلع‭ ‬مَن‭ ‬يقرأه‭.‬

لكن‭ ‬ذلك‭ ‬التردد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬ثيمة‭ ‬وأخرى،‭ ‬حُسم‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬خلال‭ ‬عزلة‭ ‬الكورونا،‭ ‬مع‭ ‬صدور‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬سقوط‭: ‬سيرة‭ ‬رائحة‮»‬‭ (‬المرايا‭) ‬والذى‭ ‬يأتى‭ ‬كديوان‭ ‬ثيمة،‭ ‬وعماده‭ ‬الخيال‭ ‬مثل‭ ‬أوله،‭ ‬والتجارب‭ ‬التى‭ ‬نُشر‭ ‬بعضها،‭ ‬لكن‭ ‬الثيمة‭ ‬فى‭ ‬الديوان‭ ‬الأحدث‭ ‬ليست‭ ‬عن‭ ‬الموت‭ ‬الروتينى‭ ‬فى‭ ‬ألعاب‭ ‬الفيديو،‭ ‬ولا‭ ‬هى‭ ‬عن‭ ‬المدينة،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬الرائحة‭ ‬كما‭ ‬يكشف‭ ‬العنوان‭.. ‬هكذا‭ ‬يتماهى‭ ‬فتحى‭ ‬ويلعب‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬مع‭ ‬ثيمة‭ ‬تمثل‭ ‬تحديًا،‭ ‬فنحن‭ ‬نتخيّل‭ ‬لعب‭ ‬الشاعر‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يُلمس،‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬يُشم‭.‬

وبمناسبة‭ ‬الديوان‭ ‬الجديد،‭ ‬وعن‭ ‬الشعر‭ ‬وألعابه‭ ‬مع‭ ‬الثيمات،‭ ‬كان‭ ‬الحوار‭ ‬مع‭ ‬فتحى‭.‬

فى‭ ‬ديوانك‭ ‬الأول‭ ‬كنا‭ ‬مع‭ ‬الملابس‭ ‬والآن‭ ‬نحن‭ ‬مع‭ ‬الرائحة‭ .. ‬هل‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬الديوان‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬وحدة‭ ‬تضم‭ ‬قصائد،‭ ‬بل‭ ‬ثيمة‭ ‬أو‭ ‬موضوع‭ ‬واحد؟‭  ‬

الديوان‭ ‬بالنسبة‭ ‬لى‭ ‬هو‭ ‬عالم،‭ ‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬عالم‭ ‬السير‭ ‬والملاحم‭ ‬والروايات‭ ‬التى‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬نبدأ‭ ‬فيها‭ ‬حتى‭ ‬تبتلعنا‭. ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬البالع‭ ‬لقرائه‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أطمح‭ ‬فى‭ ‬خلقه‭ ‬داخل‭ ‬الديوان‭. ‬وحتى‭ ‬يتسنى‭ ‬لى‭ ‬ذلك‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أُبلع‭ ‬أنا‭ ‬أولًا،‭ ‬أن‭ ‬أستغرق‭ ‬فيه‭ ‬حتى‭ ‬شفير‭ ‬المتاهة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬للواحد‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬يميز‭ ‬بين‭ ‬عالمه‭ ‬الفعلى‭ ‬وعالم‭ ‬الديوان‭.‬

عند‭ ‬بداية‭ ‬اكتشافى‭ ‬للشعر،‭ ‬كنت‭ ‬أحزن‭ ‬عندما‭ ‬تنتهى‭ ‬قصيدة‭ ‬جميلة،‭ ‬كنت‭ ‬أود‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬السحر‭ ‬لا‭ ‬يتوقف،‭ ‬لذا‭ ‬كانت‭ ‬قصائدى‭ ‬الأولى‭ ‬طويلة‭ ‬نسبيًا‭. ‬أذكر‭ ‬أنى‭ ‬كتبت‭ ‬فى‭ ‬الخامسة‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬عمرى‭ ‬قصيدة‭ ‬فى‭ ‬ثلاثين‭ ‬صفحة‭. ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬بدأت‭ ‬أعى‭ ‬الحس‭ ‬المشترك‭ ‬الجامع‭ ‬بين‭ ‬قصائد‭ ‬الديوان‭ ‬الذى‭ ‬أقرؤه‭.‬‭ ‬مع‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬بدأت‭ ‬أفهم‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬هندسة‭ ‬عالم‭ ‬الديوان‭. ‬ثم‭ ‬بعد‭ ‬ندوة‭ ‬لإبراهيم‭ ‬عبد‭ ‬المجيد‭ ‬حضرتها‭ ‬فى‭ ‬الجزويت‭ ‬فى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬وسمعته‭ ‬وهو‭ ‬يحكى‭ ‬كيف‭ ‬كتب‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬لا‭ ‬أحد‭ ‬ينام‭ ‬فى‭ ‬الإسكندرية‮»‬،‭ ‬وكيف‭ ‬أنه‭ ‬فى‭ ‬أثناء‭ ‬كتابتها‭ ‬كان‭ ‬يسافر‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬فى‭ ‬الصباح‭ ‬الباكر‭ ‬ليمشى‭ ‬فى‭ ‬الشوارع‭ ‬ويدخل‭ ‬مداخل‭ ‬العمارات‭ ‬ليشم‭ ‬رائحتها‭ ‬وكيف‭ ‬مشى‭ ‬فى‭ ‬صحراء‭ ‬العلمين‭ ‬نفس‭ ‬المسافة‭ ‬التى‭ ‬مشاها‭ ‬الجنود‭ ‬فى‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬وقال‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬ساعتها‭ ‬كيف‭ ‬سيخرج‭ ‬هذا‭ ‬فى‭ ‬الكتابة،‭ ‬لكنه‭ ‬خرج‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭. ‬عندها‭ ‬رغبت‭ ‬أن‭ ‬أفعل‭ ‬مثله‭ ‬وأكتب‭ ‬ديوانًا‭ ‬عالمًا‭ ‬يُقرأ‭ ‬من‭ ‬الجلدة‭ ‬للجلدة‭. ‬وبالمناسبة‭ ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬شيئًا‭ ‬مبتدعًا‭. ‬فهميروس‭ ‬فى‭ ‬الإلياذة‭ ‬والأوديسة‭ ‬صنع‭ ‬عالمًا،‭ ‬والسير‭ ‬الشعرية‭: ‬الهلالية،‭ ‬وليلى‭ ‬والمجنون،‭ ‬والشاهنامة‭ ‬كلها‭ ‬عوالم،‭ ‬وكذلك‭ ‬إليوت‭ ‬فى‭ ‬الأرض‭ ‬الخراب،‭ ‬وبودلير‭ ‬فى‭ ‬سأم‭ ‬باريس‭. ‬كنت‭ ‬وقتها‭ ‬قد‭ ‬انتهيت‭ ‬بالفعل‭ ‬من‭ ‬كتابة‭ ‬ديوان‭ ‬تجمع‭ ‬قصائده‭ ‬فكرة‭ ‬الجرى‭ ‬والفرار،‭ ‬غير‭ ‬أنى‭ ‬عدلت‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬نشره‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬أثناء‭ ‬عملى‭ ‬فى‭ ‬محل‭ ‬الملابس،‭ ‬حينها‭ ‬جاءتنى‭ ‬فكرة‭ ‬كتابة‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬بالأمس‭ ‬فقدت‭ ‬زرًا‮»‬،‭ ‬وصنع‭ ‬عالم‭ ‬عن‭ ‬الملابس‭. ‬كنت‭ ‬أكتب‭ ‬وأنا‭ ‬فى‭ ‬المحل‭ ‬وأقرأ‭ ‬على‭ ‬الباعة‭ ‬المحيطين‭ ‬بى‭ ‬فى‭ ‬المحال‭ ‬الأخرى‭. ‬ثم‭ ‬بدأت‭ ‬أفعل‭ ‬مثل‭ ‬إبراهيم‭ ‬عبد‭ ‬المجيد،‭ ‬ذهبتُ‭ ‬لمصانع‭ ‬الملابس‭ ‬التى‭ ‬نشترى‭ ‬منها‭ ‬البضاعة،‭ ‬شاهدت‭ ‬‮«‬المقصدار‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬يقص‭ ‬أتواب‭ ‬القماش‭ ‬بحسب‭ ‬الباترون‭ ‬المحدد،‭ ‬وماكينات‭ ‬الخياطة،‭ ‬بل‭ ‬كنت‭ ‬أشم‭ ‬رائحة‭ ‬الملابس‭ ‬الجديدة،‭ ‬وأتأمل‭ ‬الملابس‭ ‬عندما‭ ‬يرتديها‭ ‬الزبائن‭. ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الملىء‭ ‬بالملابس‭ ‬تحقق‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أطمح‭ ‬إليه‭ ‬وتشكّل‭ ‬عالم‭ ‬الديوان‭.‬

وكذلك‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬فى‭ ‬‮«‬سقوط…سيرة‭ ‬رائحة‮»‬،‭ ‬لم‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬بعينها‭ ‬للكتابة،‭ ‬ولكن‭ ‬العالم‭ ‬تشكّل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العلاقات‭ ‬الناشئة‭ ‬بين‭ ‬المقاطع‭ ‬التى‭ ‬كتبت‭ ‬على‭ ‬فترات‭ ‬متباعدة،‭ ‬وبدأت‭ ‬تتّضح‭ ‬ملامحها‭ ‬مع‭ ‬تجاور‭ ‬النصوص‭ ‬مع‭ ‬بعضها،‭ ‬بالتأكيد‭ ‬كنت‭ ‬هناك‭ ‬مسودات‭ ‬سابقة‭ ‬حذفتها‭ ‬وأعدتُ‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ودائمًا‭ ‬ما‭ ‬أضيف‭ ‬لعالم‭ ‬الديوان‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬لحظة‭ ‬قبل‭ ‬دخول‭ ‬المطبعة‭. ‬

الديوان‭ ‬الذى‭ ‬تراجعت‭ ‬عن‭ ‬نشره،‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬التفعيلة؟‭ ‬

تفعيلة‭ ‬نعم‭. ‬وأغلب‭ ‬القصائد‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬بحر‭ ‬المتدارك،‭ ‬فَاْعِلُنْ‭ ‬فَاْعِلُنْ‭ ‬فَاْعِلُنْ‭. ‬وهو‭ ‬بحر‭ ‬يعطى‭ ‬شعورًا‭ ‬بالاسترسال‭ ‬والانسياب‭ ‬والجريان‭. ‬وكان‭ ‬مناسبًا‭ ‬لحالة‭ ‬الفرار‭ ‬والجرى‭ ‬التى‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬القصائد‭. ‬وكانت‭ ‬آخر‭ ‬قصيدة‭ ‬موزونة‭ ‬كتبتها‭ ‬هى‭ ‬‮«‬فى‭ ‬الحبس‭ ‬الانفرادى‭ ‬مع‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬أبى‭ ‬ربيعة‮»‬،‭ ‬وفيها‭ ‬كنتُ‭ ‬أودّع‭ ‬فكرة‭ ‬الوزن‭ ‬تمًامًا،‭ ‬حيث‭ ‬انتهت‭ ‬القصيدة‭ ‬بجزء‭ ‬نثرى‭ ‬من‭ ‬خيال‭ ‬جامح‭ ‬أتخيلنى‭ ‬وعمر‭ ‬بن‭ ‬أبى‭ ‬ربيعة‭ ‬ونحن‭ ‬نهرب‭ ‬من‭ ‬السجن‭ ‬بمساعدة‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬الذى‭ ‬يأتينا‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬دراجته‭ ‬البخارية‭ ‬وصولًا‭ ‬للصعلكة‭ ‬مع‭ ‬حنا‭ ‬السكران،‭ ‬وكأن‭ ‬الوزن‭ ‬التفعيلى‭ ‬داخل‭ ‬القصيدة‭ ‬يصل‭ ‬لمنتهاه‭ ‬وينفتح‭ ‬على‭ ‬النثر،‭ ‬الذى‭ ‬هو‭ ‬نقطة‭ ‬البداية‭ ‬بالمناسبة،‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬ولد‭ ‬حرًا‭ ‬أولًا‭ ‬ثم‭ ‬اُكتُشفت‭ ‬الأوزان‭ ‬والهياكل‭ ‬والقوالب‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭.‬

بين‭ ‬‮«‬بالأمس‭ ‬فقد‭ ‬زرًا‮»‬‭ ‬و«سقوط‭.. ‬سيرة‭ ‬رائحة‮»‬،‭ ‬كتبت‭ ‬عن‭ ‬موت‭ ‬لاعب‭ ‬فيديو‭ ‬جيم‭.. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬مبشرًا‭ ‬لأن‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬تجربة‭ ‬عن‭ ‬الألعاب‭ ‬والتوحد‭ ‬معها،‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬مشروعًا‭ ‬تراجعت‭ ‬عنه‭ ‬أم‭ ‬أجلته؟‭ ‬

‮«‬حياة‭ ‬جندى‭ ‬فى‭ ‬لعبة‭ ‬فيديو‭ ‬جيم‮»‬‭ ‬قصيدة‭ ‬تنبنى‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬الموت‭ ‬المكرر،‭ ‬هذا‭ ‬الجندى‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬مستوى‭ ‬اللعبة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ألا‭ ‬يموت،‭ ‬لكنه‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يُقتل‭ ‬ليعود‭ ‬للحياة‭ ‬يكرر‭ ‬نفس‭ ‬الأشياء‭ ‬ثم‭ ‬قد‭ ‬يموت‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬الموضع‭ ‬الذى‭ ‬مات‭ ‬فيه‭ ‬لتوه،‭ ‬وقد‭ ‬يتجاوز‭ ‬المستوى‭ ‬ويدخل‭ ‬مستوىً‭ ‬آخر‭ ‬ليكرر‭ ‬نفس‭ ‬الميكانيزم‭ ‬حتى‭ ‬يقابله‭ ‬موت‭ ‬جديد،‭ ‬هذا‭ ‬التكرار‭ ‬المذهل،‭ ‬العود‭ ‬الأبدى‭ ‬داخل‭ ‬لعبة‭ ‬الفيديو‭ ‬جيم‭ ‬جعلنى‭ ‬أكتب‭ ‬قصيدة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬العالم،‭ ‬لكنها‭ ‬للأسف‭ ‬ضاعت،‭ ‬ثم‭ ‬فكرت‭ ‬فى‭ ‬التأنى‭ ‬قليلًا‭ ‬حتى‭ ‬تتعدد‭ ‬مستويات‭ ‬اللعبة‭ ‬التى‭ ‬ألعبها‭ ‬أنا‭ ‬شخصيًا‭ ‬على‭ ‬الأقل‭.‬

تكتبها‭ ‬حاليًا‭ ‬أم‭ ‬ستكتبها؟

لم‭ ‬أبدأ‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬بعد‭ ‬لكننى‭ ‬أفكر‭ ‬فيها‭ ‬باستمرار‭ ‬

كم‭ ‬استغرقت‭ ‬تجربة‭ ‬الروائح،‭ ‬ولماذا‭ ‬اخترت‭ ‬السقوط‭ ‬كمرادف‭ ‬للرائحة‭ ‬وسيرتها؟‭  ‬

الروائح‭ ‬فكرة‭ ‬قديمة‭ ‬عندى،‭ ‬فأنا‭ ‬بالأساس‭ ‬شخص‭ ‬يعتبر‭ ‬الرائحة‭ ‬موصلًا‭ ‬جيدًا‭ ‬للشعور،‭ ‬ويهتز‭ ‬لها‭ ‬قلبى‭ ‬بالفعل‭. ‬هنا‭ ‬روائح‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الإلقاء‭ ‬بى‭ ‬خارج‭ ‬اللحظة‭ ‬الحالية‭ ‬وخارج‭ ‬المكان‭. ‬فكرت‭ ‬مرة‭ ‬وأنا‭ ‬فى‭ ‬الثامنة‭ ‬عشر‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬رائحة‭ ‬الجوافة‭.  ‬لكن‭ ‬المنطلق‭ ‬الأساسى‭ ‬بالنسبة‭ ‬لى‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬بدأ‭ ‬من‭ ‬السقوط‭ ‬وتحديدًا‭ ‬عندما‭ ‬حكى‭ ‬لى‭ ‬أحد‭ ‬الأشخاص‭ ‬عن‭ ‬أبيه‭ ‬الذى‭ ‬عمل‭ ‬فى‭ ‬زراعة‭ ‬النخل‭ ‬فى‭ ‬السعودية‭ ‬وسقط‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬النخلات‭ ‬هناك‭ ‬وأصيب‭ ‬بالشلل‭. ‬عندها‭ ‬وبينما‭ ‬كان‭ ‬يحكى‭ ‬تخيلتُ‭ ‬أن‭ ‬الذى‭ ‬يسقط‭ ‬هو‭ ‬أنا،‭ ‬وشعرتُ‭ ‬بكثافة‭ ‬اللحظة‭ ‬وثقلها‭ ‬لدرجة‭ ‬دفعتنى‭ ‬للكتابة‭. ‬بعدها‭ ‬أخذ‭ ‬العالم‭ ‬داخل‭ ‬النص‭ ‬فى‭ ‬التمدد‭ ‬ثم‭ ‬تعددت‭ ‬الأفكار‭ ‬والمسودات‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاءت‭ ‬فكرة‭ ‬الروائح‭ ‬لتكون‭ ‬ثيمة‭ ‬لاستعراض‭ ‬الذوات‭ ‬المتعددة‭ ‬داخل‭ ‬النص،‭ ‬وكذلك‭ ‬فعلًا‭ ‬مقاومًا‭ ‬لحتمية‭ ‬السقوط‭ ‬داخل‭ ‬الديوان‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬الرائحة‭ ‬لا‭ ‬تسقط‭ ‬بل‭ ‬تتصاعد‭. ‬استغرق‭ ‬ذلك‭ ‬وقتًا‭ ‬طويلًا‭ ‬منذ‭ ‬‮٢٠٠٦‬‭ ‬حين‭ ‬كتبتُ‭ ‬المقطع‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬عند‭ ‬سقوطه‭ ‬من‭ ‬النافذة‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬سيرتطم‭ ‬بظهره‭ ‬هو‭ ‬الموت‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬لانشغالات‭ ‬الحياة‭ ‬ولإحساسى‭ ‬بعدم‭ ‬اكتمال‭ ‬العالم‭ ‬حتى‭ ‬جاءت‭ ‬عزلة‭ ‬كورونا‭ ‬لتدفعنى‭ ‬لمزيد‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬وإتمام‭ ‬التجربة‭.‬

فى‭ ‬مدخل‭ ‬الديوان‭ ‬تتصدى‭ ‬للهواء،‭ ‬تكتب‭ ‬عنه‭. ‬هو‭ ‬تحد،‭ ‬وقد‭ ‬وُفقت‭ ‬فيه،‭ ‬لنتحدث‭ ‬فى‭ ‬البداية‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المفارقة‭..‬

الهواء‭ ‬هو‭ ‬أقصى‭ ‬درجات‭ ‬الوجود‭. ‬ذروة‭ ‬المطلق‭ ‬فى‭ ‬تجليه‭ ‬الحر‭. ‬وبكل‭ ‬التنوع‭. ‬هو‭ ‬الذى‭ ‬يحمل‭ ‬الروائح‭. ‬وفيه‭ ‬تفنى‭ ‬الروائح‭. ‬لا‭ ‬مرئى‭ ‬وهذا‭ ‬يُتيح‭ ‬له‭ ‬الرؤية‭ ‬الكاملة‭. ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬يحوى‭ ‬الجميع‭. ‬وهو‭ ‬الجسر‭ ‬الواصل‭ ‬بين‭ ‬السقوط‭ ‬والرائحة‭. ‬فنحن‭ ‬فى‭ ‬الهواء‭ ‬ونحن‭ ‬نسقط،‭ ‬ونحن‭ ‬فى‭ ‬الهواء‭ ‬ونحن‭ ‬نتصاعد‭ ‬مثل‭ ‬الروائح،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬نص‭ ‬الهواء‭ ‬مدخلًا‭ ‬للديوان‭. ‬كأنه‭ ‬أنشودة‭ ‬البداية‭. ‬عندما‭ ‬كتبت‭ ‬النص‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬واضحًا‭ ‬لى‭ ‬تمامًا‭ ‬حينها‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬تطور‭ ‬كتابة‭ ‬عالم‭ ‬السقوط‭ ‬والرائحة‭ ‬بدت‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات‭ ‬المتشابكة‭ ‬تتضح‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬والقصائد‭ ‬الأخرى‭.‬

لنعد‭ ‬إلى‭ ‬الرائحة‭.. ‬هى‭ ‬ليست‭ ‬الثيمة‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬بناء‭ ‬درامى‭ ‬وتضفير‭ ‬بين‭ ‬قصائد‭ ‬الديوان‭ ‬الروائح‭ ‬الست‭ ‬مولدة‭ ‬من‭ ‬القصيدة‭ ‬الأولى،‭ ‬تلك‭ ‬الخاصة‭ ‬برائحة‭ ‬الأم،‭ ‬التى‭ ‬ظلت‭ ‬لأربعين‭ ‬عامًا‭ ‬تقابل‭ ‬رائحة‭ ‬الأب‭ ‬فخُلقت‭ ‬‮٦‬‭ ‬روائح‭. ‬سرد‭ ‬لأسرة‭ ‬أم‭ ‬سرد‭ ‬لتجربة‭ ‬خلق‭.. ‬كلمنا‭ ‬أكثر‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التوليف‭ ‬المعقد‭.‬

هذا‭ ‬الجزء‭ ‬من‭ ‬الديوان،‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬سقوط‭ ‬الابن‭ ‬إلى‭ ‬الأم‭ ‬فالأب‭ ‬ومن‭ ‬ثَمَّ‭ ‬روائح‭ ‬الابناء،‭ ‬كُتب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬وبأكثر‭ ‬من‭ ‬شكل،‭ ‬قبل‭ ‬الاستقرار‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬الروائح،‭ ‬وما‭ ‬أعطاه‭ ‬هذا‭ ‬التوليف‭ ‬والتضفير‭ ‬والخروج‭ ‬من‭ ‬السقوط‭ ‬والعودة‭ ‬إليه‭ ‬هى‭ ‬طبيعة‭ ‬الروائح‭ ‬ذاتها‭ ‬بانسيابيتها‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬موضع‭ ‬لموضع‭. ‬هناك‭ ‬بالفعل‭ ‬سرد‭ ‬لتاريخ‭ ‬أسرى‭ ‬للشخص‭ ‬الذى‭ ‬يسقط‭ ‬من‭ ‬النافذة‭. ‬لكنه‭ ‬سرد‭ ‬لا‭ ‬يخص‭ ‬أحداً‭ ‬بعينه‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬سرد‭ ‬عن‭ ‬الجميع‭. ‬الأم‭ ‬التى‭ ‬تصنع‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬فى‭ ‬البيت‭. ‬الأب‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬يحب‭ ‬الأسئلة‭. ‬إنهما‭ ‬كل‭ ‬أب‭ ‬وأم‭ ‬فى‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬معينة‭ ‬ولدى‭ ‬جيل‭ ‬بأكمله‭. ‬إننا‭ ‬جميعًا‭ ‬هنا‭ ‬متجسدون‭ ‬بشكل‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ ‬بأفكارنا‭ ‬بدوافعنا‭ ‬ورغباتنا‭. ‬‮«‬والكُلُّ‭ ‬مُثْـقَلٌ‭ ‬وَمَآلُهُ‭ ‬إِلَى‭ ‬سُقُوط‮»‬‭. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬المشترك‭ ‬بيننا‭ ‬جميعًا‭.‬‭ ‬الشخص‭ ‬الذى‭ ‬يسقط‭ ‬فى‭ ‬الديوان‭ ‬يدرك‭ ‬فى‭ ‬أثناء‭ ‬سقوطه‭ ‬أنه‭ ‬كل‭ ‬شخص‭. ‬كأنه‭ ‬سرد‭ ‬عن‭ ‬الخلق‭ ‬منذ‭ ‬بدء‭ ‬السقوط‭ ‬حتى‭ ‬لحظة‭ ‬الارتطام‭ ‬بالأرض‭. ‬

‮«‬ولأن‭ ‬َلا‭ ‬أَحد‭ ‬يـَعرفُ‭ ‬رائحتَهُ‭/ ‬ومن‭ ‬يدعُون‭ ‬أنهم‭ ‬يـَعرفون‭ ‬رائحتَك‭/ ‬لا‭ ‬يـَعِرفُون‭ ‬رائحتـَهم‭/ ‬إِذن‭ ‬فالكلُّ‭ ‬سَواء‭/ ‬من‭ ‬لَهُ‭ ‬رائحةٌ‭/ ‬وَمَن‭ ‬هُو‭ ‬مِن‭ ‬ُدون‮»‬‭.. ‬ما‭ ‬شرط‭ ‬الرائحة‭.. ‬ما‭ ‬الذى‭ ‬يجعل‭ ‬إنسان‭ ‬له‭ ‬رائحة،‭ ‬وآخر‭ ‬بلا‭ ‬رائحة؟

الرائحة‭ ‬هى‭ ‬علامة‭ ‬الحياة،‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬وجود‭ ‬قد‭ ‬مُورِس‭ ‬هنا‭ ‬وفاح،‭ ‬والرائحة‭ ‬هنا‭ ‬ليست‭ ‬شيئًا‭ ‬إيجابيًا،‭ ‬وغيابها‭ ‬ليس‭ ‬شيئًا‭ ‬سلبيًا،‭ ‬لكنها‭ ‬أكثر‭ ‬تتعلق‭ ‬بالآخرومدى‭ ‬قربه‭ ‬منك‭. ‬فبما‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬تميز‭ ‬رائحته،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬عطره‭ ‬لو‭ ‬اعتاد‭ ‬على‭ ‬وضعه،‭ ‬إذن‭ ‬فوجود‭ ‬الرائحة‭ ‬مرهون‭ ‬بالآخر‭ ‬الذى‭ ‬يشمها‭ ‬فيعرفها‭ ‬ويعرّف‭ ‬بها‭. ‬الآخر‭ ‬هو‭ ‬الأنف‭. ‬هو‭ ‬الذى‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬ثمة‭ ‬رائحة‭ ‬هنا‭.‬

شخصيًا‭ ‬أتصور‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬حال‭ ‬رائحة،‭ ‬فى‭ ‬اللحظات‭ ‬الحميمية‭ ‬لنا‭ ‬رائحة،‭ ‬فى‭ ‬النوم‭ ‬لنا‭ ‬رائحة،‭ ‬فى‭ ‬الغضب‭ ‬والسعادة‭. ‬إنها‭ ‬مستويات‭ ‬متعددة‭. ‬لا‭ ‬يعرفها‭ ‬إلا‭ ‬القريبون‭ ‬منا‭. ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬تُعرف،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعنى‭ ‬أنها‭ ‬غير‭ ‬موجودة‭. ‬وهناك‭ ‬روائح‭ ‬لا‭ ‬يعرفها‭ ‬أحد‭ ‬إلانا‭.‬

كل‭ ‬رائحة‭ ‬تأتى‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬شاعر‭ ‬ذاتى،‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬أناه‭ ‬كرائحة‭ ‬أو‭ ‬العكس،‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬آخرين،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬رائحة‭ ‬تتماهى‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الرائحة‭ ‬فتكون‭ ‬الناطقة‭ ‬باسمها؟

من‭ ‬أجمل‭ ‬خصائص‭ ‬الهواء‭ ‬هو‭ ‬انمحاء‭ ‬الذات‭. ‬الهواء‭ ‬بلا‭ ‬رائحة‭. ‬لذا‭ ‬يسهل‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يلبس‭ ‬أى‭ ‬رائحة‭ ‬يشاء‭ ‬ويفوّحها‭. ‬هو‭ ‬تماهى‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إعلان‭ ‬الوجود‭. ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬رائحة‭ ‬مرت‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬وفاحت‭. ‬ولولا‭ ‬الهواء‭ ‬ما‭ ‬وصلت‭ ‬الرائحة‭ ‬إلى‭ ‬الأنف،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬الروائح‭ ‬الست‭. ‬حملتها‭ ‬ذات‭ ‬تشبعت‭ ‬بالهواء‭ ‬وتماهت‭ ‬معها‭ ‬وأفاحت‭ ‬بها‭. ‬هذه‭ ‬الذات‭ ‬وبعد‭ ‬استعراض‭ ‬تاريخها‭ ‬الشخصى‭ ‬تسقط‭ ‬فى‭ ‬ذاتها‭ ‬لإعادة‭ ‬اكتشاف‭ ‬أناها‭ ‬الخاصة،‭ ‬وعندما‭ ‬تتجلى‭ ‬لها‭ ‬الرؤية‭ ‬كاملة‭ ‬تكون‭ ‬لحظة‭ ‬الارتطام‭ ‬بالأرض‭. ‬

ثم‭ ‬شممت‭ ‬رائحة‭ ‬الشعر‭/‬‭ ‬والدخان‭ ‬الأسمى‭/ ‬فاتح‭ ‬المغالق‭/ ‬كاشف‭ ‬كلمات‭ ‬السر‭/ ‬ومجلى‭ ‬الغيوم‭ ‬عن‭ ‬العيون‭. ‬

لنخرج‭ ‬قليلًا‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬الديوان،‭ ‬لنتحدث‭ ‬فى‭ ‬موضوع‭ ‬أكثر‭ ‬عمومية‭ ‬وهو‭ ‬الشِعر،‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬إنتاج‭ ‬الآخرين،‭ ‬أو‭ ‬معارك‭ ‬تتصل‭ ‬بقصيدة‭ ‬النثر،‭ (‬هل‭ ‬شُغلت‭ ‬بهذه‭ ‬المعارك‭ ‬أصلًا؟‭) ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬الذى‭ ‬تراه‭ ‬الآن‭ ‬فى‭ ‬مشهد‭ ‬الكتابة؟

من‭ ‬بعد‭ ‬ديوان‭ ‬الملابس‭ ‬وأنا‭ ‬أتحاشى‭ ‬الشِعر،‭ ‬ودائمًا‭ ‬ما‭ ‬أراه‭ ‬فخًا،‭ ‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬الجمال‭ ‬عندى،‭ ‬طُعْم‭ ‬يستدرج‭ ‬مَن‭ ‬ينساق‭ ‬فى‭ ‬غوايته‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يطبق‭ ‬عليه‭ ‬فلا‭ ‬يرى‭ ‬سواه‭. ‬كنت‭ ‬أقول‭ ‬وبعض‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الشعراء‭ ‬‮«‬إحنا‭ ‬مش‭ ‬موظفين‭ ‬عند‭ ‬الشِعر‮»‬‭. ‬وظللت‭ ‬هكذا‭ ‬لا‭ ‬أذكره‭ ‬أمام‭ ‬الأصدقاء‭ ‬ولا‭ ‬فى‭ ‬أماكن‭ ‬العمل‭ ‬إلا‭ ‬فيما‭ ‬ندر،‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬الأصدقاء‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬أو‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬معرفتنا‭ ‬عرف‭ ‬أننى‭ ‬مَن‭ ‬كتب‭ ‬ديوان‭ ‬الملابس‭! ‬لكننى‭ ‬كنت‭ ‬ومازلتُ‭ ‬أمارسه‭ ‬فى‭ ‬لحظات‭ ‬خاصة‭ ‬حين‭ ‬أغلق‭ ‬على‭ ‬نفسى‭ ‬وقد‭ ‬انسحبت‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شىء،‭ ‬وصرتُ‭ ‬حرًا‭ ‬تمامًا،‭ ‬حرًا‭ ‬من‭ ‬الشاعر‭ ‬وقارئه‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬الشِعر‭ ‬ذاته‭. ‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬لى‭ ‬صديق‭: ‬‮«‬فى‭ ‬الجنس‭ ‬متفكرش‭ ‬فى‭ ‬الجنس‮»‬‭. ‬وفى‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬أكتب‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬نشوة‭ ‬الشِعر‭ ‬ولذتها‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬لها‭ ‬لدى‭ ‬الشاعر،‭ ‬لكن‭ ‬استمراء‭ ‬اللذة‭ ‬يتلف‭ ‬الرؤية‭ ‬ويفتح‭ ‬الباب‭ ‬للوهم‭. ‬مثل‭ ‬الهوس‭ ‬بالجنس‭ ‬والمخدر‭ ‬والدين‭. ‬حين‭ ‬يستمرئ‭ ‬المهووس‭ ‬فى‭ ‬لذته‭ ‬ويتطرف‭ ‬فلا‭ ‬يرى‭ ‬ويؤذي‭. ‬يمكنك‭ ‬الآن‭ ‬بسهولة‭ ‬رؤية‭ ‬شعراء‭ ‬مهاويس‭ ‬متطرفين‭ ‬أفسد‭ ‬عليهم‭ ‬الشعر‭ ‬حيواتهم‭ ‬الحقيقية،‭ ‬وشلّهم‭ ‬كراكتر‭ ‬الشاعر‭ ‬عن‭ ‬الاندماج‭ ‬طواعية‭ ‬فى‭ ‬الحياة‭ ‬وأن‭ ‬يكونوا‭ ‬أنفسهم‭. ‬وبالمناسبة‭ ‬هناك‭ ‬مهاويس‭ ‬رائعون‭. ‬لكننى‭ ‬لا‭ ‬أفضّل‭ ‬أن‭ ‬أضع‭ ‬على‭ ‬عينى‭ ‬نظارة‭ ‬شمسية‭ ‬طيلة‭ ‬الوقت‭. ‬اخترتُ‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬عاديًا‭ ‬لا‭ ‬يُلحظ‭ ‬كى‭ ‬ألحظَ‭ ‬تجليات‭ ‬الشعر‭ ‬فى‭ ‬التفاصيل‭ ‬العادية،‭ ‬ثم‭ ‬أخزّنها‭ ‬وأقطّرها‭ ‬وأتنسم‭ ‬أبخرتها‭ ‬مع‭ ‬نفسى‭ ‬باعتبارها‭ ‬خلاصة‭ ‬اللذة‭ ‬والشعور‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬أفكر‭ ‬فى‭ ‬النشر‭. ‬خاصة‭ ‬وأن‭ ‬النشر‭ ‬لدينا‭ ‬دوائره‭ ‬صغيرة،‭ ‬نحن‭ ‬نكتب‭ ‬لأصدقائنا‭ ‬ولا‭ ‬نقرأ‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬الآخرون‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعلنى‭ ‬بالمناسبة‭ ‬لا‭ ‬أدخل‭ ‬معارك،‭ ‬ولا‭ ‬أنحاز‭ ‬لشكل‭ ‬بعينه‭ ‬فى‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬داعى‭ ‬للضجيج‭ ‬فلنعمل‭ ‬فى‭ ‬صمت‭ ‬واستمتاع‭. ‬هذه‭ ‬طريقتى‭ ‬ولا‭ ‬أدعى‭ ‬أنها‭ ‬الصحيحة‭ ‬وغيرها‭ ‬لا‭. ‬

هل‭ ‬استفدت‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬سابقة‭ ‬حول‭ ‬الرائحة،‭ ‬عطر‭ ‬باتريك‭ ‬زوسكيند‭ ‬مثلًا؟

عادة‭ ‬لا‭ ‬أقرأ‭ ‬ولا‭ ‬أشاهد‭ ‬تجارب‭ ‬سبقتنى‭ ‬فيما‭ ‬أكتب‭ ‬فيه‭. ‬لا‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أضيف‭ ‬على‭ ‬كاهلى‭ ‬عند‭ ‬الكتابة‭ ‬أعباء‭ ‬مسبقة،‭ ‬كتفادى‭ ‬تجربة‭ ‬فلان‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬شابه‭. ‬لكننى‭ ‬قرأت‭ ‬رواية‭ ‬العطر‭ ‬طبعًا‭ ‬قبل‭ ‬حتى‭ ‬التفكير‭ ‬فى‭ ‬كتابة‭ ‬ديوان‭ ‬الروائح‭. ‬وأعجبتنى‭ ‬كثيرًا‭ ‬بحبكتها‭ ‬البوليسية‭ ‬المثيرة،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬حاضرة‭ ‬فى‭ ‬ذهنى‭ ‬عند‭ ‬الكتابة،‭ ‬لأنها‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬الذى‭ ‬أكتب‭ ‬فيه،‭ ‬زوسكيند‭ ‬لا‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬الروائح‭ ‬لذاتها‭ ‬بل‭ ‬فى‭ ‬سياق‭ ‬قاتل‭ ‬ذى‭ ‬قدرة‭ ‬شمّ‭ ‬خارقة‭ ‬يسعى‭ ‬لصناعة‭ ‬عطر‭ ‬يخلب‭ ‬الألباب،‭ ‬لكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الروائح‭ ‬فى‭ ‬الديوان‭ ‬يأتى‭ ‬فى‭ ‬سياقات‭ ‬أخرى‭.‬

ما‭ ‬بين‭ ‬‮«‬بالأمس‭ ‬فقدت‭ ‬زرًا‮»‬‭ ‬و«سقوط‮»‬‭ ‬كتبت‭ ‬قصيدة‭ ‬طويلة‭ ‬عن‭ ‬القاهرة،‭ ‬هى‭ ‬تجربة‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الكتابة،‭ ‬أنت‭ ‬لا‭ ‬تقدم‭ ‬عالمًا‭ ‬بل‭ ‬مكانًا،‭ ‬وحول‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬أنت‭ ‬السكندرى‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬القاهرة،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تترك‭ ‬المدينتين‭ ‬المصريتين‭ ‬إلى‭ ‬غزة‭ ‬ثم‭ ‬فرنسا‭. ‬لتحدثنا‭ ‬عن‭ ‬كتابتك‭ ‬للقاهرة‭ ‬وعلاقتك‭ ‬بالمكان‭.‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬الديوان‭ ‬التالى‭ ‬وقد‭ ‬أوشك‭ ‬على‭ ‬الانتهاء‭. ‬وقد‭ ‬بدأتُ‭ ‬الكتابة‭ ‬فيه‭ ‬بعد‭ ‬حلم‭ ‬رأيتُ‭ ‬فيها‭ ‬المدينة‭ ‬تتهاوى‭ ‬فكتبت‭ ‬نصًا‭ ‬ديستوبيًا‭ ‬يبدأ‭ ‬بهذا‭ ‬السطر‭ ‬‮«‬حتمًا‭ ‬ستنهار‭ ‬القاهرة‮»‬،‭  ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬‮٢٠٠٧‬‭ ‬ثم‭ ‬توقفت،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬كتبته‭ ‬دفعنى‭ ‬لإعادة‭ ‬النظر‭ ‬فى‭ ‬علاقتى‭ ‬بالقاهرة‭ ‬حتى‭ ‬وجدتنى‭ ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬أكتب‭ ‬بلا‭ ‬توقف،‭ ‬ململمًا‭ ‬المشاهد‭ ‬التى‭ ‬التصقت‭ ‬بذاكرتى‭ ‬من‭ ‬عيشى‭ ‬فى‭ ‬القاهرة،‭ ‬وتكرر‭ ‬الأمر‭ ‬فى‭ ‬اليوم‭ ‬التالى،‭ ‬ثم‭ ‬اليوم‭ ‬الذى‭ ‬يليه‭. ‬كنت‭ ‬أنهى‭ ‬العمل‭ ‬وأجرى‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬للكتابة،‭ ‬كنت‭ ‬سعيدًا‭ ‬ومستمتعًا‭ ‬ومتعجبًا‭ ‬من‭ ‬الحيوات‭ ‬التى‭ ‬تشكلت‭ ‬والشخوص‭ ‬التى‭ ‬ظهرت،‭ ‬وحينها‭ ‬عرفت‭ ‬لماذا‭ ‬أكتب‭. ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تلك‭ ‬اللذة‭ ‬وهذا‭ ‬الشعور‭. ‬ثم‭ ‬حدثت‭ ‬ثورة‭ ‬يناير‭ ‬فتوقفت،‭ ‬ثم‭ ‬عاودت‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬فترات‭ ‬متباعدة‭. ‬الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬القاهرة‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬سكنتى‭ ‬فيها‭ ‬بلعت‭ ‬الإسكندرية‭ ‬فى‭ ‬داخلي‭. ‬أفسدت‭ ‬عليَّ‭ ‬استمتاعى‭ ‬بها،‭ ‬فقد‭ ‬جعلتنى‭ ‬أستشعر‭ ‬صِغرها‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬أشعر‭ ‬به‭ ‬أبدًا‭ ‬وجعلت‭ ‬مكانها‭ ‬فى‭ ‬الذاكرة‭ ‬فقط‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬أقمت‭ ‬فى‭ ‬غزة‭ ‬وأمريكا،‭ ‬ظلت‭ ‬القاهرة‭ ‬فى‭ ‬الخلفية‭ ‬كمحطة‭ ‬العودة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬منها‭. ‬والآن‭ ‬وبعد‭ ‬عيشى‭ ‬لعامين‭ ‬فى‭ ‬فرنسا،‭ ‬تقف‭ ‬القاهرة‭ ‬على‭ ‬مبعدة‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬وكأنها‭ ‬الحنين‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أتورط‭ ‬فيه،‭ ‬المخدر‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬ينبغى‭ ‬أن‭ ‬أتعاطاه‭ ‬كى‭ ‬أتمكن‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬الواقع‭ ‬الجديد‭ ‬كما‭ ‬هو‭.‬

فى‭ ‬الختام،‭ ‬لقد‭ ‬ألّفت‭ ‬أغاني‭.. ‬لنتحدث‭ ‬عن‭ ‬علاقتك‭ ‬بالعامية‭..‬

لم‭ ‬أكتب‭ ‬شعرًا‭ ‬بالعامية،‭ ‬لكنى‭ ‬كتبت‭ ‬أغانى،‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬أن‭ ‬الأغنية‭ ‬عمل‭ ‬جماعى‭ ‬يحتاج‭ ‬لأطراف‭ ‬أخرى‭ ‬حتى‭ ‬يكتمل‭ ‬تكوينها‭. ‬إنها‭ ‬نتاج‭ ‬التشاور‭ ‬والمناقشات‭ ‬والأحاديث‭ ‬والتجريب،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أحبه‭ ‬فى‭ ‬كتابة‭ ‬الأغانى‭ ‬ومعالجات‭ ‬الأفلام‭ ‬الوثائقية،‭ ‬أنك‭ ‬لست‭ ‬وحدك،‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬الشعر‭ ‬والرواية‭ ‬والترجمة،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬آخرون‭ ‬يفكرون‭ ‬مثلك‭ ‬وعلينا‭ ‬أن‭ ‬نلتقى‭ ‬لفعل‭ ‬ما‭ ‬نريد،‭ ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬تجربتى‭ ‬مع‭ ‬فيروز‭ ‬كراوية،‭ ‬كنا‭ ‬نريد‭ ‬كتابة‭ ‬أغنية‭ ‬بدون‭ ‬قافية‭ ‬أو‭ ‬وزن‭ ‬لكن‭ ‬بها‭ ‬موسيقى‭ ‬داخلية،‭ ‬فكتبت‭ ‬أغنية‭ ‬‮«‬جربت‮»‬،‭ ‬وأغنية‭ ‬أخرى‭ ‬هى‭ ‬‮«‬مش‭ ‬شايفين‮»‬‭ ‬التى‭ ‬غنتها‭ ‬الصديقة‭ ‬نهى‭ ‬طه‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬طلبها‭ ‬منى‭ ‬صديقى‭ ‬محمود‭ ‬فرج‭ ‬لتكون‭ ‬فى‭ ‬تتر‭ ‬نهاية‭ ‬أحد‭ ‬الأفلام،‭ ‬ضمن‭ ‬مشاريع‭ ‬التخرج‭ ‬فى‭ ‬معهد‭ ‬السينما‭. ‬وأعتقد‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬لدى‭ ‬صديق‭ ‬مقرب‭ ‬ملحن،‭ ‬لكنت‭ ‬كتبت‭ ‬أكثر‭. ‬الآن‭ ‬أستمع‭ ‬للأغانى‭ ‬بشكل‭ ‬أكبر‭ ‬فى‭ ‬جولات‭ ‬المشى‭ ‬فى‭ ‬المدينة‭ ‬والتسوق،‭ ‬تشدنى‭ ‬تجارب‭ ‬الفرق‭ ‬الجديدة‭ ‬كدعسوقة‭ ‬وعمدان‭ ‬نور،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬بدأت‭ ‬أسمع‭ ‬المهرجانات‭ ‬وصارت‭ ‬ترافقنى‭ ‬عوالمها‭ ‬الصاخبة‭ ‬وطاقتها‭ ‬المفرطة‭ ‬وخطابها‭ ‬الذكورى‭ ‬الفج‭ ‬العنيف‭ ‬وأنا‭ ‬أتمشى‭ ‬فى‭ ‬شوارع‭ ‬المدينة‭ ‬الفرنسية‭ ‬الهادئة‭ ‬حيث‭ ‬أقيم،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يحيل‭ ‬المشهد‭ ‬إلى‭ ‬خلطة‭ ‬سيريالية‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬أصوات‭ ‬بيكا‭ ‬وشواحة‭ ‬وحسن‭ ‬شاكوش‭ ‬ونور‭ ‬التوت‭ ‬وعلى‭ ‬قدورة‭. ‬هذا‭ ‬التضاد‭ ‬بين‭ ‬السياقين‭ ‬أبرز‭ ‬المهرجانات‭ ‬لديّ‭ ‬باعتبارها‭ ‬عالما‭ ‬كبيرا‭ ‬ودالا‭ ‬اجتماعيا‭ ‬وثقافيا‭ ‬مثيرا‭ ‬للدهشة‭ ‬وجديرا‭ ‬بالتحرى‭.‬

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة