للفنان: سيد سعد الدين
للفنان: سيد سعد الدين


عمر على الجقومى يكتب : قصتى مع النيل

أخبار الأدب

الأحد، 19 سبتمبر 2021 - 11:05 ص

عمر على الجقومى

بينما‭ ‬كُنت‭ ‬أدرس‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬شمال‭ ‬مدينة‭ ‬أمدرمان،‭ ‬كان‭ ‬والدى‭ ‬يعمل‭ ‬مزارعًا‭ ‬على‭ ‬ضفة‭ ‬النيل‭ ‬شمال‭ ‬أمدرمان‭ ‬أيضًا،‭ ‬ولطالما‭ ‬كانت‭ ‬الدروس‭ ‬التى‭ ‬نتلقاها‭ ‬تترك‭ ‬علينا‭ ‬رهقًا‭ ‬بالغًا،‭ ‬لأن‭ ‬جهدًا‭ ‬عصيبًا‭ ‬نبذله،‭ ‬كنت‭ ‬أستغل‭ ‬عطلة‭ ‬نهاية‭ ‬الأسبوع‭ ‬للذهاب‭ ‬إلى‭ ‬والدى‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬زراعته،‭ ‬أزوره،‭ ‬أسلمُ‭ ‬عليه‭ ‬فيسألنى‭ ‬عن‭ ‬سير‭ ‬الدراسة‭ ‬ولا‭ ‬ينسى‭ ‬أن‭ ‬يسألنى‭ ‬باِستمرار‭ ‬عن‭ ‬الامتحانات،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هنالك‭ ‬امتحانات،‭ ‬أجيبه‭ ‬باِقتضاب،‭ ‬ثم‭ ‬أطوف‭ ‬بالحقل‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أننى‭ ‬أبى‭ ‬وهو‭ ‬يتفقد‭ ‬حقله‭ ‬فى‭ ‬الصباح،‭ ‬هذا‭ ‬يروح‭ ‬عنَّى‭ ‬كثيرًا،‭ ‬أفرغُ‭ ‬رهق‭ ‬الأسبوع‭ ‬واستبدله‭ ‬بطاقة‭ ‬إيجابية‭ ‬تعيننى‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬الأسبوع‭ ‬القادم‭.‬

بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬ينتهى‭ ‬حقل‭ ‬والدى‭ ‬بالنيل،‭ ‬حاله‭ ‬حال‭ ‬كل‭ ‬الحقول‭ ‬هُناك‭. ‬حينما‭ ‬زرته‭ ‬أول‭ ‬مرة،‭ ‬حذرنى‭ ‬من‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬النيل‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذى‭ ‬جعلنى‭ ‬ابتعدُ‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مرة،‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬النيل‭ ‬أبدًا،‭ ‬ولم‭ ‬يسبق‭ ‬لى‭ ‬رؤيته‭ ‬بعد،‭ ‬فأنا‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬تموتُ‭ ‬من‭ ‬التصحر‭ ‬جرذانها،‭ ‬هُناك‭ ‬فى‭ ‬الصحراء،‭ ‬حيث‭ ‬الفراغ‭ ‬يبتلعُ‭ ‬كل‭ ‬الأشجار‭ ‬والحيوانات‭ ‬والبشر‭.‬

وفى‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬تدفعنى‭ ‬رغبة‭ ‬عمياء‭ ‬لرؤية‭ ‬النيل،‭ ‬أجد‭ ‬أن‭ ‬وصية‭ ‬أبى‭ ‬توتئد‭ ‬رغبتى‭ ‬فى‭ ‬مهدها،‭ ‬أعودُ‭ ‬لبيت‭ ‬جدتى‭ ‬دون‭ ‬ملء‭ ‬ذاكرتى‭ ‬بحدث‭ ‬جديد،‭ ‬تسكننى‭ ‬خيبة‭ ‬أمل‭ ‬كبيرة،‭ ‬يبددها‭ ‬مصروفى‭ ‬الذى‭ ‬نلته‭ ‬من‭ ‬أبي،‭ ‬أعود‭ ‬لبدء‭ ‬أسبوع‭ ‬جديد‭.‬‮ ‬

حينما‭ ‬سرتُ‭ ‬بجوار‭ ‬الحقل‭ ‬كأننى‭ ‬أبي،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أحسب‭ ‬أننى‭ ‬أسير‭ ‬نحو‭ ‬الموت،‭ ‬تقودنى‭ ‬قدماى‭ ‬وذاكرة‭ ‬مشغولة‭ ‬بالمصروف‭ ‬الذى‭ ‬سيدفعه‭ ‬لى‭ ‬والدى‭ ‬حينما‭ ‬أودُّ‭ ‬العودة‭ ‬لبيت‭ ‬جدتى‭ ‬فى‭ ‬الغد،‭ ‬حيث‭ ‬أسكن‭.‬

رأيت‭ ‬النيل‭ ‬يتمدد‭ ‬فى‭ ‬المكان‭ ‬باسطًا‭ ‬نفوذه،‭ ‬يسرعُ‭ ‬نحو‭ ‬الشمال،‭ ‬مضطرباً،‭ ‬شعرتُ‭ ‬به‮ ‬‭ ‬يستلطفنى‭ ‬بينما‭ ‬تسمّرت‭ ‬مدهوشًا‭ ‬لرؤية‭ ‬الموت،‭ ‬الموت‭ ‬الذى‭ ‬حذرنى‭ ‬منه‭ ‬أبي،‭ ‬صرختُ‭ ‬حتّى‭ ‬أصبت‭ ‬بدوار‭ ‬الرأس،‭ ‬عدتُ‭ ‬راكضًا‭ ‬نحو‭ ‬أبى‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنَّ‭ ‬النيل‭ ‬يجرى‭ ‬خلفى‭ ‬ليبتلعني‭.‬

منذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬وبالإضافة‭ ‬لتحذير‭ ‬أبى‭ ‬أصبحت‭ ‬أخاف‭ ‬من‭ ‬النيل‭ ‬ولا‭ ‬أودُّ‭ ‬أن‭ ‬أقربه‭ ‬أبدًا،‭ ‬بدأ‭ ‬لى‭ ‬النيل‭ ‬مصيرًا‭ ‬يتوددني،‭ ‬كنت‭ ‬أشعر‭ ‬به‭ ‬يترصد‭ ‬مجيء‭ ‬قريبًا‭ ‬منه،‭ ‬ليبتلعني‭.‬

أذكر‭ ‬أن‭ ‬والدى‭ ‬قد‭ ‬شرح‭ ‬لى‭ ‬تكوين‭ ‬النيل‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬أذكره‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الدقة،‭ ‬لكننى‭ ‬أتذكر‭ ‬أحداث‭ ‬الغرق‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تحدث،‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أبنائنا‭ ‬ابتلعهم‭ ‬النيل‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكترث‭.‬

حينما‭ ‬حاضرنا‭ ‬أستاذ‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬النيل‭ ‬وأسهب‭ ‬يعدد‭ ‬هدوءه‭ ‬وسكونه‭ ‬ووداعته‭ ‬ومنظره‭ ‬الجميل،‭ ‬وأن‭ ‬الناس‭ ‬يخرجون‭ ‬فى‭ ‬المساء‭ ‬للتنزه‭ ‬والاستمتاع‭ ‬بمنظر‭ ‬النيل‭. ‬كنت‭ ‬أشعر‭ ‬به‭ ‬يقودنا‭ ‬نحو‭ ‬الموت،‭ ‬وتملكتنى‭ ‬رغبة‭ ‬قوية‭ ‬للصراخ‭ ‬فى‭ ‬وجهه،‭ ‬كنت‭ ‬أودّ‭ ‬الوقوف‭ ‬وتحذير‭ ‬زملائى‭ ‬من‭ ‬النيل‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬الأستاذ‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬كاذبًا‭ ‬يريد‭ ‬هلاكنا‭.‬

رغم‭ ‬أننى‭ ‬ظللت‭ ‬أكرر‭ ‬زياراتى‭ ‬لأبى‭ ‬بشكل‭ ‬راتب‭ ‬إلا‭ ‬أننى‭ ‬كنت‭ ‬لا‭ ‬أزور‭ ‬النيل‭ ‬إطلاقاً،‭ ‬حتى‭ ‬أكملت‭ ‬دراسة‭ ‬مرحلتى‭ ‬الأساس‭ ‬والثانوي،‭ ‬كانت‭ ‬رهبتى‭ ‬من‭ ‬النيل‭ ‬على‭ ‬حالها،‭ ‬لم‭ ‬تتغير‭ ‬أبدًا،‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬الغرق‭ ‬التى‭ ‬كنت‭ ‬أسمعها‭ ‬كانت‭ ‬تأخذنى‭ ‬بعيدًا‭ ‬عنه‭. ‬دخلت‭ ‬الجامعة،‭ ‬وبدأت‭ ‬أكثر‭ ‬معرفة‭ ‬بتكوين‭ ‬النيل‭ ‬وأهميته‭ ‬فى‭ ‬الحياة‭ ‬وقد‭ ‬قرأت‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭ ‬وروافده‭ ‬المهمة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬التى‭ ‬جعلتنى‭ ‬أرغب‭ ‬فى‭ ‬تغيير‭ ‬نظرتى‭ ‬للنيل‭.‬‮ ‬

فكرت‭ ‬فى‭ ‬حل‭ ‬العقدة‭ ‬النفسية‭ ‬بينى‭ ‬والنيل‭ ‬وقد‭ ‬استشرتُ‭ ‬أصدقائى‭ ‬فى‭ ‬أمري،‭ ‬وبدؤا‭ ‬بصورة‭ ‬جادة‭ ‬مساعدتى‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذى‭ ‬غير‭ ‬حياتى‭ ‬للأبد،‭ ‬وفى‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬تستحضرنى‭ ‬حكايات‭ ‬أبى‭ ‬عن‭ ‬النيل‭ ‬وقصص‭ ‬الغرقى‭ ‬كنت‭ ‬أطردها‭ ‬عني،‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬أبى‭ ‬مزارعًا‭ ‬يحب‭ ‬النيل‭ ‬ويعشقه،‭ ‬فلماذا‭ ‬لا‭ ‬أحبه‭ ‬أنا‭!‬

تحركنا‭ ‬بسيارة‭ ‬صديقى‭ ‬وقصدنا‭ ‬النيل‭ ‬قبالة‭ ‬هيئة‭ ‬الإذاعة‭ ‬والتلفزيون،‭ ‬كنت‭ ‬متوجسًا‭ ‬كالعادة،‭ ‬لكننى‭ ‬كنت‭ ‬أشعر‭ ‬بالأمان،‭ ‬جسلت‭ ‬على‭ ‬الضفة‭ ‬أرقب‭ ‬النيل‭ ‬بعيون‭ ‬مرتبكة‭ ‬وقلب‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يثبت‭ ‬على‭ ‬حال،‭ ‬وحدهم‭ ‬أصدقائى‭ ‬كانوا‭ ‬يمدوننى‭ ‬باليقين‭. ‬ظلوا‭ ‬يلعبون‭ ‬بمياه‭ ‬النيل‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنهم‭ ‬أصدقاء‭ ‬منذ‭ ‬الأزل،‭ ‬كنت‭ ‬أرقبهم‭ ‬بحذر،‭ ‬أجدنى‭ ‬أشفق‭ ‬عليهم‭ ‬تارة‭ ‬وأضحك‭ ‬لمرحهم‭ ‬تارة‭ ‬أخرى‭.‬

تكررت‭ ‬زياراتى‭ ‬معهم‭ ‬للنيل،‭ ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬آخر‭ ‬مرة‭ ‬ودّعت‭ ‬فيها‭ ‬الخوف،‭ ‬حينما‭ ‬نزلنا‭ ‬بشاطئ‭ ‬جزيرة‭ ‬توتي،‭ ‬وقد‭ ‬وجدت‭ ‬نفسى‭ ‬أنزل‭ ‬للمياه‭ ‬وأرشقهم‭ ‬بها‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أننى‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬منذ‭ ‬قديم‭ ‬الزمان‭.‬

منذ‭ ‬ذلك‭ ‬العهد،‭ ‬صار‭ ‬النيل‭ ‬صديقًا‭ ‬لي،‭ ‬أذهب‭ ‬إليه‭ ‬كثيرًا،‭ ‬أقضى‭ ‬أوقاتًا‭ ‬ممتعة‭ ‬عنده،‭ ‬أتأمله،‭ ‬أحدثه،‭ ‬ألعب‭ ‬معه،‭ ‬يؤانسنى‭ ‬ويذهب‭ ‬عنَّى‭ ‬تعب‭ ‬الأيام،‭ ‬وفى‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭ ‬وحده‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬يمدنى‭ ‬بالسعادة‭.‬

لم‭ ‬أكن‭ ‬أتوقع‭ ‬على‭ ‬الاِطلاق‭ ‬أن‭ ‬تتغير‭ ‬نظرتى‭ ‬للنيل،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أتوقع‭ ‬أن‭ ‬تزول‭ ‬الرهبة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تمنعنى‭ ‬عنه،‭ ‬ولكن‭ ‬الآن‭ ‬صرتُ‭ ‬أعزى‭ ‬ذلك‭ ‬لطفولتى‭ ‬القاسية،‭ ‬طفولتى‭ ‬التى‭ ‬عشتها‭ ‬فى‭ ‬الصحراء،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬نيل‭ ‬ولا‭ ‬بحر‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شاشات‭ ‬التليفزيون‭ ‬والهواتف‭ ‬الذكية‭ ‬مؤخرًا‭.‬

السودان

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة