للفنان: سيد سعد الدين
للفنان: سيد سعد الدين


سارة حمزة الجاك تكتب : الروح

أخبار الأدب

الأحد، 19 سبتمبر 2021 - 11:10 ص

سارة حمزة الجاك

النيل‭ ‬ذلك‭ ‬العظيم‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬له‭ ‬وصفا،‭ ‬بدأت‭ ‬علاقتى‭ ‬به‭ ‬منذ‭ ‬نشأتي؛‭ ‬كل‭ ‬الأنشطة‭ ‬الحياتية‭ ‬اليومية؛‭ ‬مرتبطة‭ ‬به‭ ‬ارتباطا‭ ‬وثيقا،‭ ‬طقوس‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الولادة؛‭ ‬الختان؛‭ ‬الزواج؛‭ ‬فى‭ ‬اول‭ ‬زيارة‭ ‬لى‭ ‬للنيل؛‭ ‬كنت‭ ‬أقف‭ ‬مع‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأطفال؛‭ ‬بقرب‭ ‬جدتى‭ ‬لأمى‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تحمل‭ ‬وليدا‭ ‬اتوا‭ ‬به‭ ‬ليعمدوه‭ ‬فى‭ ‬النيل؛‭ ‬فى‭ ‬الضفة‭ ‬الشرقية‭ ‬لنهر‭ ‬النيل؛‭ ‬إذا‭ ‬بحركة‭ ‬تجتاح‭ ‬سطح‭ ‬النهر‭ ‬الهادئ؛‭ ‬تظهر‭ ‬دوامة‭ ‬ترجعنا‭ ‬جدتى‭ ‬للخلف‭ ‬بإشارة‭ ‬خفيفة،‭ ‬سبعة‭ ‬خطوات‭ ‬محسوبة‭ ‬بدقة‭ ‬شديدة،‭ ‬نقف‭ ‬بعدها؛‭ ‬وتنظر‭ ‬للبالغين‭ ‬من‭ ‬السيدات‭ ‬والرجال‭ ‬ممن‭ ‬كانوا‭ ‬برفقتنا؛‭ ‬ينسحبون‭ ‬بذات‭ ‬الهدوء،‭ ‬تقرأ‭ ‬بعض‭ ‬التعويذات‭ ‬تهدأ‭ ‬الدوامة،‭ ‬نغير‭ ‬مكان‭ ‬وقوفنا‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬سبعة‭ ‬أمتار‭ ‬شمالا‭ ‬من‭ ‬موردنا‭ ‬الأول؛‭ ‬الذى‭ ‬وردنا‭ ‬فيه؛‭ ‬لإكمال‭ ‬مراسم‭ ‬تعميد‭ ‬الصغير؛‭ ‬عُمِّد‭ ‬الصغير‭ ‬وفى‭ ‬طريق‭ ‬مسيرنا‭ ‬الى‭ ‬البيت؛‭ ‬أفصحت‭ ‬جدتى‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬الشيمة؛‭ ‬التى‭ ‬أبعدتنا‭ ‬عنها‭ ‬وقالت‭:- ‬إنها‭  ‬كانت‭ ‬تشير‭ ‬الى‭ ‬انفاس‭ ‬تمساح؛‭ ‬رابض‭ ‬تحت‭ ‬الماء‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬منا؛‭ ‬وكان‭ ‬تلاحق‭ ‬تلك‭ ‬الأنفاس‭ ‬يؤكد‭ ‬انه‭ ‬يضمر‭ ‬لنا‭ ‬شرا؛‭ ‬لسبب‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يخص‭ ‬والد‭ ‬الطفل‭ ‬وحُكم‭ ‬على‭ ‬الوالد‭ ‬بأن‭   ‬يذبح‭ ‬كبشا‭ ‬أقرن؛‭ ‬كرامة‭ ‬وتطهيرا‭ ‬لنسله‭ ‬من‭ ‬جريرة‭ ‬سابقة؛‭ ‬ارتكبت‭ ‬فى‭ ‬حق‭ ‬نسل‭ ‬التمساح‭ ‬المتربص‭.‬

فى‭ ‬مرسوم‭ ‬ختان‭ ‬إخوتى‭ ‬الصغار؛‭ ‬عند‭ ‬شاطئ‭ ‬أم‭ ‬ضبان؛‭ ‬استقبلتهم‭ ‬النوارس‭ ‬البيضاء‭ ‬مزغردة؛‭ ‬أفسحت‭ ‬لهم‭ ‬موردهم‭ ‬وشاركتهم‭ ‬فرحتهم؛‭ ‬بأنها‭ ‬كانت‭ ‬تطير‭ ‬وتحط‭ ‬بقربهم،‭ ‬قدموا‭ ‬لها‭ ‬الحبوب‭ ‬السبعة،‭ ‬شكرتهم‭ ‬وودعتهم‭ ‬عند‭ ‬ذهابهم؛‭ ‬بأن‭ ‬صفقت‭ ‬أجنحتها‭ ‬ممتنة‭ ‬لمقدمهم؛‭ ‬كانوا‭ ‬يرتدون‭ ‬الأهلة‭ ‬الذهبية،‭ ‬يربطون‭ ‬الحرائر‭ ‬الحمراء‭ ‬فى‭ ‬أياديهم‭.‬

تأخرت‭ ‬إحدى‭ ‬الأسر‭ ‬فى‭ ‬دفع‭ ‬جزية‭ ‬لسكان‭ ‬البحر،‭ ‬أخذوا‭ ‬ابن‭ ‬الأسرة‭ ‬البكر‭ ‬فى‭ ‬الفيضان‭ ‬عام‭ ‬‮١٩٨٨‬،‭ ‬ترسخت‭ ‬صورة‭ ‬النيل؛‭ ‬عندى‭ ‬من‭ ‬علاقة‭ ‬إنسان‭ ‬السودان‭ ‬به؛‭ ‬ومن‭ ‬علاقتهم‭ ‬بساكنيه‭ ‬من‭ ‬الحيوانات‭ ‬المعروفة؛‭ ‬ومن‭ ‬الجنون‭ ‬غير‭ ‬المعروفين؛‭ ‬عرف‭ ‬عندى‭ ‬بجلالة‭ ‬قدره‭ ‬وفعله؛‭ ‬كانت‭ ‬رحلاتنا‭ ‬فى‭ ‬قلبه‭ ‬وعلى‭ ‬ضفافه‭ ‬دورية؛‭ ‬بشواطئه‭ ‬الست‭ ‬فى‭ ‬الخرطوم؛‭ ‬غير‭ ‬الجزر‭ ‬كجزيرة‭ ‬توتي؛‭ ‬جزيرة‭ ‬التمساح؛‭ ‬شلالات‭ ‬السبلوقه‭ ‬المناطق‭ ‬الأثرية‭ ‬المطلة‭ ‬عليه؛‭ ‬النقعة‭ ‬والمصورات‭ ‬مثلا‭.‬

يربطنى‭ ‬بالنيل‭ ‬الأزرق‭ ‬قيشون‭ ‬رباط‭ ‬خاص‭ ‬وعميق؛‭ ‬عمق‭ ‬وصلى‭ ‬بأبعد‭ ‬ذرة‭ ‬فى‭ ‬اعماق‭ ‬الأرض؛‭ ‬المسماه‭ ‬بأرض‭ ‬السودان،‭ ‬لى‭ ‬جدود‭ ‬ولدوا‭ ‬على‭ ‬ساحليه؛‭ ‬زرعوا‭ ‬أراضيه‭ ‬أكلوا‭ ‬من‭ ‬طيب‭ ‬أسماكه،‭ ‬يميزون‭ ‬بين‭ ‬خضار‭ ‬أرضهم‭ ‬وصيد‭ ‬ماءهم؛‭ ‬عن‭ ‬خضار‭ ‬وصيد‭ ‬ماء‭ ‬جيجون؛‭ ‬احب‭ ‬ابناء‭ ‬كل‭ ‬البلاد‭ ‬وأحب‭ ‬القيشونيون‭ ‬أكثر‭.‬

‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الخلفية‭ ‬الثرة‭ ‬والثرية؛‭ ‬يرسم‭ ‬النيل‭ ‬فى‭ ‬مخيلتي؛‭ ‬التى‭ ‬اعتمد‭ ‬عليها‭ ‬فى‭ ‬الكتابة؛‭ ‬احتل‭ ‬مساحة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الذاكرة،‭ ‬كان‭ ‬دائم‭ ‬الحضور‭ ‬فى‭ ‬قصصى‭ ‬ورواياتي؛‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬الدور‭ ‬الرئيسي؛‭ ‬فى‭ ‬ثلاثية‭ ‬طائر‭ ‬الفينيق،‭ ‬ولأنه‭ ‬روح‭ ‬تنتمى‭ ‬إليه،‭ ‬ولأنه‭ ‬روح‭ ‬السودان،‭ ‬أشير‭ ‬إليه‭ ‬فى‭ ‬رواياتى‭ ‬وقصصى‭ ‬باسم‭ ‬الروح‭ ‬؛‭ ‬له‭ ‬سلطته‭ ‬وكلمته‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬حماية‭ ‬نفسه‭ ‬وحمايتنا‭ ‬؛‭ ‬كما‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يعاقبنا؛‭ ‬عندما‭ ‬نتكلم‭ ‬باسمه؛‭ ‬ونحاول‭ ‬التحكم‭ ‬فيه؛‭ ‬يتداخل‭ ‬الخيال‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬فى‭ ‬كتابتى‭ ‬هذه؛‭ ‬لكنها‭ ‬حقيقة‭ ‬كاملة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي؛‭ ‬لا‭ ‬أطالب‭ ‬احدا‭ ‬بتصديقها‭.‬

‭ ‬فى‭ ‬اول‭ ‬ورشة‭ ‬تدريبية‭ ‬لى‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية؛‭  ‬تلقيتها‭ ‬فى‭ ‬المعهد‭ ‬الفرنسى‭ ‬بالخرطوم؛‭ ‬مع‭ ‬الكاتبة‭ ‬والروائية‭ ‬القديرة‭ ‬نجوى‭ ‬بركات؛‭ ‬وقتها‭ ‬استغربت‭ ‬حداثة‭ ‬سني؛‭ ‬وقلة‭ ‬خبرتى‭ ‬مقارنة‭ ‬مع‭ ‬قدرتى‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية؛‭ ‬بعدها‭ ‬سألتنى‭ ‬من‭ ‬اهم‭ ‬شخصية‭ ‬فى‭ ‬روايتك‭ ‬التى‭ ‬تعملين‭ ‬على‭ ‬كتابتها؛‭ ‬بعد‭ ‬تفكير‭ ‬وتباديل‭ ‬وتوافيق؛‭ ‬بين‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية؛‭ ‬كانت‭ ‬الإجابة‭ ‬أن‭ ‬شخصيتي؛‭ ‬هى‭ ‬النيل‭ ‬بجلالة‭ ‬قدره‭ ‬وقدرته؛‭ ‬رسمتها‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬الزوايا،‭ ‬أسميته‭ ‬الروح،‭ ‬جسدته‭ ‬فكان‭ ‬عم‭ ‬النيل؛‭ ‬معمد‭ ‬أفراحنا‭ ‬ومستقبل‭ ‬أتراحنا؛‭ ‬حامل‭ ‬الحضارات‭ ‬منا‭ ‬وإلينا؛‭ ‬وعاءنا‭ ‬ووريد‭ ‬أراضينا‭ ‬الخصبة،‭ ‬وقلب‭ ‬بلادنا‭ ‬النابض‭.‬

قاصة‭ ‬وروائية من‭ ‬السودان

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة