للفنان:  فتحى عثمان
للفنان: فتحى عثمان


النيل فيضان الحكايات

علاء عبد الهادى يكتب: على الزراعية يارب أقابل حبيبى

أخبار الأدب

الأحد، 19 سبتمبر 2021 - 11:24 ص

علاء‭ ‬عبد‭ ‬الهادى

أينما‭ ‬اسعفتنى‭ ‬الذاكرة،‭ ‬أجده‭ ‬حاضراً‭ ‬وبقوة،‭ ‬شريكا‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬المشاهد،‭ ‬وطرفا‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬حكاية‭.‬

طفل‭ ‬صغير‭ ‬يتلمس‭ ‬أولى‭ ‬خطواته‭ ‬فى‭ ‬حوش‭ ‬بيت‭ ‬ريفى‭ ‬مبنى‭ ‬بالطوب‭ ‬اللبن،‭ ‬لكن‭ ‬فيه‭ ‬بعض‭ ‬ملامح‭ ‬بيوت‭ ‬أهل‭ ‬البندر‭.. ‬كان‭ ‬فى‭ ‬دارنا‭ ‬كهرباء،‭ ‬مثلنا‭ ‬مثل‭ ‬بيت‭ ‬العمدة،‭ ‬وعندنا‭ ‬بوتجاز‭ ‬مسطح‭ ‬اشتراه‭ ‬أبى‭ ‬مدرس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬فى‭ ‬أول‭ ‬أجازة‭ ‬من‭ ‬الجزائر‭ ‬التى‭ ‬سافر‭ ‬إليها‭ ‬ضمن‭ ‬بعثة‭ ‬تعليمية‭ ‬أمر‭ ‬بها‭ ‬الرئيس‭ ‬عبد‭ ‬الناصرلاسترداد‭ ‬اللسان‭ ‬العربى‭ ‬لأهل‭ ‬الجزائر‭ ‬بعد‭ ‬زوال‭ ‬الإستعمارالفرنسى،‭ ‬الفرن‭ ‬الأفرنجى‭ ‬لم‭ ‬يلغ‭ ‬وظيفة‭ ‬الفرن‭ ‬البلدى‭ ‬الذى‭ ‬ننام‭ ‬فوقه‭ ‬فى‭ ‬ليالى‭ ‬الشتاء،‭ ‬وتخبز‭ ‬فيه‭ ‬أمى‭ ‬أطيب‭ ‬الخبيز‭.‬

فى‭ ‬الحوش‭ ‬المفتوح‭ ‬للدار‭ ‬كنت‭ ‬أستعرض‭ ‬مهاراتى‭ ‬فى‭ ‬تسلق‭ ‬شجرة‭ ‬توت‭ ‬وارفة‭ ‬الظلال‭ ‬وتصل‭ ‬بأغصانها‭ ‬الى‭ ‬أطراف‭ ‬البيت،‭ ‬وتجود‭ ‬بتوت‭ ‬‮«‬حبشى‮»‬‭ ‬طيب‭ ‬الطعم‭ (‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬سبب‭ ‬التسمية‭) ‬وفى‭ ‬الجهة‭ ‬المقابلة‭ ‬نخلة‭ ‬فارعة،‭ ‬لم‭ ‬يمنحها‭ ‬أطفال‭ ‬الشارع‭ ‬فرصة‭ ‬يوما‭ ‬لتمنحنا‭ ‬ثماراً‭ ‬ناضجة،‭ ‬كانوا‭ ‬يرمونها‭ ‬بالطوب‭ ‬اولا‭ ‬بأول‭ ‬ليسقط‭ ‬البلح‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬يشرئب‭ ‬لونه‭ ‬بالحمرة‭.‬

اثمرت‭ ‬محاولاتى‭ ‬عن‭ ‬اختراق‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬اشتد‭ ‬عودى،‭ ‬وانتصبت‭ ‬قامتى‭ ‬قليلا،أصبحت‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬إزاحة‭ ‬مزلاج‭ ‬الباب‭ ‬الخارجى‭ ‬للدار‭ ‬الذى‭ ‬يفصل‭ ‬الحوش‭ ‬المفتوح‭ ‬عن‭ ‬الشارع،‭ ‬وها‭ ‬أنا‭ ‬أخيراً‭ ‬أمام‭ ‬عالم‭ ‬جديد،‭ ‬لم‭ ‬أهنأ‭ ‬باستكشافه،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬خطوت‭ ‬عدة‭ ‬خطوات‭ ‬حتى‭ ‬سقطت‭ ‬فى‭  ‬‮«‬مسقى‮»‬‭ ‬تمرمن‭ ‬أمام‭ ‬الدار‭ ‬تمرعبرها‭ ‬مياه‭ ‬ترعة‭ ‬العطف‭ ‬الى‭ ‬الغيطان‭ ‬التى‭ ‬تقع‭ ‬خلف‭ ‬البيوت‭ ‬التى‭ ‬يتشكل‭ ‬منها‭ ‬الشارع‭.‬

افقت‭ ‬على‭ ‬نواح‭ ‬نسوة،‭ ‬وامى‭ ‬تلطم‭ ‬خديها‭ ‬وتولول‭ ‬على‭ ‬آخر‭ ‬العنقود،‭ ‬الذى‭ ‬كاد‭ ‬أن‭ ‬يلفظ‭ ‬أنفاسه‭ ‬غرقا‭ ‬أمام‭ ‬الدار،لولا‭ ‬أحدهم‭ ‬لمحنى‭ ‬وأنا‭ ‬منكفىء‭ ‬على‭ ‬وجهى‭ ‬وقفز‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬حماره‭ ‬لينتشلنى‭ ‬بيده‭.‬

لم‭ ‬افهم‭ ‬شيئا‭ ‬وقتها،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬فهمته‭ ‬لاحقا‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الواد‭ ‬علاء‭ ‬أبو‭ ‬على‭ (‬هكذا‭ ‬ينادون‭ ‬بعضهم‭ ‬فى‭ ‬قريتى‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬الإبن‭ ‬والدا‭ ‬لأبيه‭ ‬؟‭) ‬كاد‭ ‬أن‭ ‬يغرق‭ ‬فى‭ ‬شبر‭ ‬مياه‭.. ‬كبرت‭ ‬وعرفت‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬قنطرة‭ ‬صغيرة‭ ‬أمام‭ ‬الدار‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬إجتيازها‭ ‬لعبور‭ ‬المسقى‭ (‬اسم‭ ‬مكان‭ ‬من‭ ‬سقَى‭/ ‬سقَى‭ ‬لـ‭: ‬منهل؛موضع‭ ‬الشُّرب‭ ).‬

دائما‭ ‬كنت‭ ‬أشعر‭ ‬بأن‭ ‬شيئا‭ ‬ما‭ ‬ينقصنى‭ ‬عندما‭ ‬أقارن‭ ‬نفسى‭ ‬بأبناء‭ ‬عمومتى،‭ ‬كان‭ ‬أبى‭ ‬الوحيد‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أخوته‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬يتفرغ‭ ‬لفلاحة‭ ‬الأرض،وأتم‭ ‬تعليمه‭ ‬وأصبح‭ ‬مدرساً‭.. ‬كنت‭ ‬أغار‭ ‬منهم‭: ‬يخرجون‭ ‬فجر‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬قبيل‭ ‬شروق‭ ‬الشمس،إلى‭ ‬الغيط‭ ‬مع‭ ‬بهائمهم،‭ ‬ولا‭ ‬يعودون‭ ‬الا‭ ‬مع‭ ‬أذان‭ ‬المغرب‭.. ‬كانوا‭ ‬يحكون‭ ‬لى‭ ‬عن‭ ‬دنياهم‭ ‬ومغامراتهم‭ ‬وبالذات‭ ‬مع‭  ‬‮«‬غطس‮»‬‭ ‬الترعة‭ ‬فى‭ ‬وقت‭ ‬القَيالة،‭ ‬حيث‭ ‬ينام‭ ‬الأباء‭ ‬تحت‭ ‬أية‭ ‬شجرة‭ ‬وقت‭ ‬الظهيرة‭ ‬عندما‭ ‬تشتد‭ ‬حرارة‭ ‬الجو،‭ ‬ويتسرب‭ ‬الأبناء‭ ‬الى‭ ‬الترعة،‭ ‬حيث‭ ‬يمارسون‭ ‬هواية‭ ‬العوم‭ ‬والغطس،‭ ‬وكأنهم‭ ‬أوز‭ ‬أو‭ ‬بط‭ ‬بلدى‭!‬

تجربة‭ ‬الغرق‭ ‬المبكر‭ ‬فى‭ ‬المسقى‭ ‬أورثتنى‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬ماء‭ ‬الترعة‭ ‬تعزز‭ ‬بعدما‭ ‬شاهدت‭ ‬كارثة‭ ‬سقوط‭ ‬بهيمة‭ ‬خالى‭ ‬فى‭ ‬بئر‭ ‬الساقية،‭ ‬وكيف‭ ‬مضت‭ ‬ساعات‭ ‬طوال‭ ‬يحاول‭ ‬فيها‭ ‬رجال‭ ‬وشباب‭ ‬العائلة‭ ‬رفع‭ ‬الجاموسة‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تنفق،‭ ‬لم‭ ‬أحتمل‭ ‬خوارها،‭ ‬عاجلوها‭ ‬بسكين‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬أنقذوها،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تموت‭ ‬فطيس‭ ‬ولأنها‭ ‬لن‭ ‬تنفع‭ ‬بعد‭ ‬اليوم‭ ‬فى‭ ‬جر‭ ‬ساقية‭ ‬أو‭ ‬محراث‭.‬

تغلبت‭ ‬على‭ ‬خوفى‭ ‬من‭ ‬مياه‭ ‬الترعة‭ ‬مع‭ ‬اشتداد‭ ‬عودى،‭ ‬وانتصرت‭ ‬أخيراً‭ ‬إغراءات‭ ‬أولاد‭ ‬عمى‭ ‬على‭ ‬مخاوفى،وألقيت‭ ‬تحذيرات‭ ‬أمى‭ ‬المتكررة‭ ‬لى‭ ‬وراء‭ ‬ظهرى،‭ ‬وقررت‭ ‬خوض‭ ‬تجربة‭ ‬‮«‬غٌطس‮»‬‭ ‬فى‭ ‬ترعة‭ ‬العطف‭ ‬فى‭ ‬وقت‭ ‬القَيالة،‭ ‬حيث‭ ‬تتوقف‭ ‬الحركة‭ ‬تماما‭ ‬على‭ ‬“‭ ‬الزراعية‭ ‬“مع‭ ‬ارتفاع‭ ‬حرارة‭ ‬الجو‭.‬

‭> ‬ولكن‭ ‬أنا‭ ‬لم‭ ‬أتعلم‭ ‬العوم‭.‬

‭> ‬ليس‭ ‬مهما،‭ ‬‮«‬طَبش‮»‬‭ ‬أوحتى‭ ‬عوم‭ ‬‮«‬كلابى‮»‬‭!‬

بصعوبة‭ ‬تسلقت‭ ‬شجرة‭ ‬تميل‭ ‬بجزعها‭ ‬على‭ ‬الترعة‭ ‬حتى‭ ‬تكاد‭ ‬تتوسطها‭.. ‬فعلت‭ ‬مثلما‭ ‬فعلوا،‭ ‬لم‭ ‬يردعنى‭ ‬شىء‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬الدم‭ ‬الذى‭ ‬تسرب‭ ‬من‭ ‬قدمى،‭ ‬لم‭ ‬أعبأ‭ ‬بصوت‭ ‬أمى‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يرن‭ ‬فى‭ ‬أذنى،‭ ‬خشيت‭ ‬أن‭ ‬يتهمونى‭ ‬بالميوعة‭ ‬وعدم‭ ‬الرجولة‭.. ‬وقفزت‭ ‬كما‭ ‬فعلوا،‭ ‬وأفقت‭ ‬وأنا‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬الترعة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬جذبنى‭ ‬أحدهم،‭ ‬والطين‭ ‬يملأ‭ ‬أنفى‭ ‬وفمى،‭ ‬وبجوارى‭ ‬حمار‭ ‬وجاموسة‭ ‬وعجلة‭ ‬صغيرة‭ ‬آثر‭ ‬صاحبهم‭ ‬أن‭ ‬يستحموا‭ ‬فى‭ ‬الترعة‭ ‬مثلهم‭ ‬مثله،‭ ‬ولكنى‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬مايسترنى‭ ‬انزاح‭ ‬عنى‭ ‬وذهب‭ ‬مع‭ ‬الموج‭.. ‬عدت‭ ‬الى‭ ‬البيت‭ ‬بالجلباب،‭ ‬لم‭ ‬تدرك‭ ‬أمى‭ ‬حقيقة‭ ‬ما‭ ‬حدث‭.. ‬وبقى‭ ‬أولاد‭ ‬عمى‭ ‬يعيروننى‭ ‬الى‭ ‬اليوم‭ ‬ببكائى‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكتشف‭ ‬أمى‭ ‬تفاصيل‭ ‬مغامرتى‭.‬

يومها‭ ‬شربت‭ ‬من‭ ‬ماء‭ ‬النيل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬كافيا‭ ‬لخلق‭ ‬عقدة‭ ‬كاملة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الماء‭ ‬الذى‭ ‬احتلته‭ ‬البلهارسيا‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تحذرنى‭ ‬أمى‭ ‬دائما،‭ ‬ربطت‭ ‬هذا‭ ‬الماء‭ ‬بالموت‭ ‬لا‭ ‬بالحياة‭!‬

كنت‭ ‬محظوظاً‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬بقية‭ ‬اخوتى‭ ‬قامت‭ ‬الحكومة‭ ‬بتوصيل‭ ‬حنفية‭ ‬مياه‭ ‬عمومية‭ ‬أمام‭ ‬دارنا،‭ ‬كانت‭ ‬تصطف‭ ‬أمامها‭ ‬نسوة‭ ‬القرية‭ ‬صباحا‭ ‬ومساء،‭ ‬لملء‭ ‬الزلع،‭ ‬و‭ ‬‮«‬غسل‭ ‬مواعين‮»‬‭ ‬البيت‭ ‬وعندما‭ ‬يخف‭ ‬الضغط‭ ‬يغسلن‭ ‬القمح‭ ‬ثم‭ ‬تجفيفه‭ ‬تمهيدا‭ ‬لطحنه‭ ‬فى‭ ‬طاحونة‭ ‬العمدة‭.. ‬شيل‭ ‬الزلعة‭ ‬فن،‭ ‬وضبطها‭ ‬فوق‭ ‬الرأس‭ ‬بعد‭ ‬ربط‭ ‬‮«‬الحواية‮»‬‭ ‬يحتاج‭ ‬الى‭ ‬تدريب‭ ‬متكرر،‭ ‬وإلا‭ ‬تسقط‭.. ‬ملء‭ ‬الزلع‭ ‬فرصة‭ ‬ذهبية‭ ‬لكل‭ ‬فتاة‭ ‬ليراها‭ ‬ابن‭ ‬الحلال،‭ ‬فرصة‭ ‬مشروعة‭ ‬ليرى‭ ‬تفاصيل‭ ‬التفاصيل،‭ ‬وهو‭ ‬جالس‭ ‬على‭ ‬المصطبة‭ ‬أمام‭ ‬الدار‭ ‬ساعة‭ ‬العصارى،‭ ‬حيث‭ ‬تتساقط‭ ‬قطرات‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬الزلعة‭ ‬على‭ ‬صدر‭ ‬الفتاة‭ ‬فتنبىء‭ ‬عما‭ ‬استتر،‭ ‬وتكتمل‭ ‬الصورة‭ ‬بتصنع‭ ‬جذب‭ ‬الفتاة‭ ‬لأطراف‭ ‬جلبابها‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تتعثر‭ ‬فيحدد‭ ‬حجم‭ ‬المقعدة،‭ ‬كبيرة‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬صغيرة‭.. ‬وكل‭ ‬واحد‭ ‬وطلبه‭ !‬

‭ ‬النهار‭ ‬فى‭ ‬قريتنا‭ ‬طويل،‭ ‬كله‭ ‬شقاء،‭ ‬ولكن‭ ‬الليل‭ ‬أطول،‭ ‬يحلو‭ ‬فيه‭ ‬السمر‭ ‬على‭ ‬المصاطب،‭ ‬أما‭ ‬المراهقون‭ ‬فتحلو‭ ‬سهراتهم‭ ‬وحكاويهم‭ ‬الجريئة‭ ‬على‭ ‬الزراعية،‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬قابل‭ ‬للحكى‭ ‬على‭ ‬شط‭ ‬الترعة،‭ ‬قلدت‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬أكبر‭ ‬منى‭ ‬وادعيت‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬حبيبة،‭ ‬واننى‭ ‬أشكو‭ ‬لوعة‭ ‬حبها‭ ‬وأننى‭ ‬ألتقيها‭ ‬سراً‭ ‬على‭ ‬شاطىء‭ ‬الترعة،‭.. ‬كنت‭ ‬أكذب‭ ‬بالثلاثة‭ ‬لأن‭ ‬شاربى‭ ‬لم‭ ‬يخط‭ ‬بعد،‭ ‬والصدق‭ ‬الوحيد‭ ‬هو‭ ‬أننى‭ ‬كنت‭ ‬أخاف‭ ‬الترعة‭ ‬وبالذات‭ ‬ليلا،‭ ‬أخشى‭ ‬أن‭ ‬تخرج‭ ‬‮«‬ام‭ ‬كبوش‮»‬‭ ‬من‭ ‬قاع‭ ‬ترعة‭ ‬العطف‭ ‬وتجذبنى‭ ‬الى‭ ‬حيث‭ ‬اللا‭ ‬عودة،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬على‭ ‬زملائى‭ ‬أن‭ ‬يكتشفونا‭ ‬كذبى،‭ ‬ويجعلونى‭ ‬مادة‭ ‬للضحك‭ ‬مرددين‭ : ‬ع‭ ‬الزراعية‭ ‬يارب‭ ‬أقابل‭ ‬حبيبى‭! ‬

النيل‭ ‬جزء‭ ‬أساسى‭ ‬من‭ ‬حياتى،‭ ‬لصيق‭ ‬بى،‭ ‬عندما‭ ‬انتقل‭ ‬الأب‭ ‬بالأسرة‭ ‬من‭ ‬كفر‭ ‬ميت‭ ‬سراج‭ ‬الى‭ ‬شبين‭ ‬الكوم‭ ‬كانت‭ ‬إحدى‭ ‬مزايا‭ ‬الشقة‭ ‬التى‭ ‬استأجرها‭ ‬قربها‭ ‬من‭ ‬البحر،‭ ‬هكذا‭ ‬كان‭ ‬يسمى‭ ‬أهل‭ ‬شبين‭ ‬الرياح‭ ‬المنوفى‭ ‬الذى‭ ‬يخترق‭ ‬مدينتهم‭ ‬الصغيرة‭ ‬آنذاك‭ ‬ويقسمها‭ ‬الى‭ ‬برين‭ : ‬شرقى‭ ‬وقبلى‭ (‬لم‭ ‬يقولوا‭ ‬غربى‭) ‬يصل‭ ‬بينهما‭ ‬كوبرى‭ ‬ومعدية‭ ‬بقرش‭ ‬تعريفة،‭ ‬الكوبرى‭ ‬يفتح‭ ‬فى‭ ‬السابعة‭ ‬صباح‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬ليتيح‭ ‬عبور‭ ‬المراكب‭ ‬والصنادل‭ ‬النيلية‭ ‬فى‭ ‬الإتجاهين،‭ ‬فى‭ ‬طقس‭ ‬أحفظه‭ ‬فى‭ ‬مكانة‭ ‬خاصة‭ ‬فى‭ ‬قلبى‭ ‬وعقلى‭ ‬وذاكرتى،‭ ‬وأضبط‭ ‬نفسى‭ ‬كثيرا‭ ‬وانا‭ ‬مستغرق‭ ‬فى‭ ‬ترديد‭ ‬أغانى‭ ‬النواتية‭ ‬وهم‭ ‬يجرون‭ ‬المراكب‭ ‬فى‭ ‬محاولة‭ ‬لتوجيهها‭ ‬بالحبال‭ ‬من‭ ‬البر‭ ‬حتى‭ ‬تعتدل‭ ‬وتعبر‭ ‬سليمة‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬ترتطم‭ ‬بجسم‭ ‬الكوبرى‭.‬

فى‭ ‬أوقات‭ ‬السدة‭ ‬الشتوية،‭ ‬ينحسر‭ ‬النهر،‭ ‬وينكشف‭ ‬قاعه‭ ‬الا‭ ‬قليلا،‭ ‬ونهجر‭ ‬الكوبرى،‭ ‬ونعبر‭ ‬النهر‭ ‬مشيا‭ ‬على‭ ‬الأقدام،‭ ‬حيث‭ ‬تفوح‭ ‬رائحة‭ ‬زفارة‭ ‬مصدرها‭ ‬الأسماك‭ ‬التى‭ ‬أحيانا‭ ‬كنا‭ ‬نراها‭ ‬رأى‭ ‬العين‭ ‬تسبح‭ ‬فى‭ ‬أماكن‭ ‬لم‭ ‬ينحسر‭ ‬عنها‭ ‬النهر‭ ‬انحسارا‭ ‬كاملا،‭ ‬فى‭ ‬وقت‭ ‬السدة‭ ‬يفيض‭ ‬علينا‭ ‬النيل‭ ‬بكرمه‭: ‬بقراميط‭ ‬او‭ ‬بلطى‭ ‬نطاردها‭ ‬بأيدينا‭.‬

علاقتى‭ ‬المركبة‭ ‬بالنيل‭ ‬تعززت‭ ‬عندما‭ ‬مات‭ ‬ابن‭ ‬الجيران‭ ‬غرقا‭ ‬فى‭ ‬النيل‭ ‬قبيل‭ ‬ظهور‭ ‬نتيجة‭ ‬الثانوية‭ ‬العامة،‭ ‬عندما‭ ‬قفز‭ ‬قفزة‭ ‬فى‭ ‬أحد‭ ‬ايام‭ ‬حر‭ ‬أغسطس‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬جسم‭ ‬الكوبرى‭ ‬الى‭ ‬النيل،‭ ‬ولم‭ ‬تظهر‭ ‬جثته‭ ‬الى‭ ‬عند‭ ‬‮«‬القاصد‮»‬‭ ‬عندها‭ ‬منطقة‭ ‬البوابات‭ ‬التى‭ ‬تتحكم‭ ‬فى‭ ‬النهر،‭ ‬عندها‭ ‬تطفو‭ ‬الجثث‭ ‬الغارقة

للنيل‭ ‬قرابين،‭ ‬حتى‭ ‬يستمر‭ ‬جريانه‭.. ‬يغوى‭ ‬احباءه‭ ‬ويأخذهم‭ ‬قرابين‭ ‬يبتلعهم،‭ ‬ويسقيهم‭ ‬كأسه‭ ‬حتى‭ ‬الثمالة،‭ ‬ثم‭ ‬يهب‭ ‬الحياة‭ ‬لساكنى‭ ‬ضفتيه

النيل‭ ‬منى‭ ‬وأنا‭ ‬منه‭.‬

أحمله‭ ‬معى‭ ‬أينما‭ ‬ذهبت،‭ ‬حتى‭ ‬عندما‭ ‬أسافر‭ ‬الى‭ ‬دولة‭ ‬أخرى،‭ ‬أبحث‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬النهر،‭ ‬عن‭ ‬‮«‬نيلهم‮»‬‭  ‬واستغرب‭ ‬كثيراً‭ ‬كيف‭ ‬تعيش‭ ‬بلد‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬نهر،‭ ‬كان‭ ‬النيل‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬افتقدت‭ ‬فى‭ ‬سنوات‭ ‬الغربة‭ ‬للعمل‭ ‬فى‭ ‬قطر،‭ ‬وأول‭ ‬شىء‭ ‬أفعله‭ ‬فى‭ ‬إجازتى‭ ‬جولة‭ ‬فى‭ ‬فلوكة‭ ‬على‭ ‬صفحة‭ ‬النهر‭.‬

الآن‭ ‬يريدون‭ ‬محو‭ ‬ذاكرتى،‭ ‬يريدون‭ ‬محو‭ ‬كفر‭ ‬ميت‭ ‬سراج،‭ ‬وكل‭ ‬الكفور‭ ‬والعزب،‭ ‬يريدون‭ ‬اجتزاز‭ ‬ضرع‭ ‬‮«‬حابى‮»‬‭ ‬فلا‭ ‬يفيض‭ ‬بخيره‭ ‬بعد‭ ‬اليوم‭.‬

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة