للفنان: فتحى عثمان
النيل فيضان الحكايات
علاء عبد الهادى يكتب: على الزراعية يارب أقابل حبيبى
الأحد، 19 سبتمبر 2021 - 11:24 ص
علاء عبد الهادى
أينما اسعفتنى الذاكرة، أجده حاضراً وبقوة، شريكا فى كل المشاهد، وطرفا فى كل حكاية.
طفل صغير يتلمس أولى خطواته فى حوش بيت ريفى مبنى بالطوب اللبن، لكن فيه بعض ملامح بيوت أهل البندر.. كان فى دارنا كهرباء، مثلنا مثل بيت العمدة، وعندنا بوتجاز مسطح اشتراه أبى مدرس اللغة العربية فى أول أجازة من الجزائر التى سافر إليها ضمن بعثة تعليمية أمر بها الرئيس عبد الناصرلاسترداد اللسان العربى لأهل الجزائر بعد زوال الإستعمارالفرنسى، الفرن الأفرنجى لم يلغ وظيفة الفرن البلدى الذى ننام فوقه فى ليالى الشتاء، وتخبز فيه أمى أطيب الخبيز.
فى الحوش المفتوح للدار كنت أستعرض مهاراتى فى تسلق شجرة توت وارفة الظلال وتصل بأغصانها الى أطراف البيت، وتجود بتوت «حبشى» طيب الطعم (لا أعرف سبب التسمية) وفى الجهة المقابلة نخلة فارعة، لم يمنحها أطفال الشارع فرصة يوما لتمنحنا ثماراً ناضجة، كانوا يرمونها بالطوب اولا بأول ليسقط البلح ما إن يشرئب لونه بالحمرة.
اثمرت محاولاتى عن اختراق هذا العالم، وبعد أن اشتد عودى، وانتصبت قامتى قليلا،أصبحت قادراً على إزاحة مزلاج الباب الخارجى للدار الذى يفصل الحوش المفتوح عن الشارع، وها أنا أخيراً أمام عالم جديد، لم أهنأ باستكشافه، وما إن خطوت عدة خطوات حتى سقطت فى «مسقى» تمرمن أمام الدار تمرعبرها مياه ترعة العطف الى الغيطان التى تقع خلف البيوت التى يتشكل منها الشارع.
افقت على نواح نسوة، وامى تلطم خديها وتولول على آخر العنقود، الذى كاد أن يلفظ أنفاسه غرقا أمام الدار،لولا أحدهم لمحنى وأنا منكفىء على وجهى وقفز من فوق حماره لينتشلنى بيده.
لم افهم شيئا وقتها، لكن ما فهمته لاحقا هو أن الواد علاء أبو على (هكذا ينادون بعضهم فى قريتى ولا أعرف كيف يكون الإبن والدا لأبيه ؟) كاد أن يغرق فى شبر مياه.. كبرت وعرفت أن هناك قنطرة صغيرة أمام الدار كان على إجتيازها لعبور المسقى (اسم مكان من سقَى/ سقَى لـ: منهل؛موضع الشُّرب ).
دائما كنت أشعر بأن شيئا ما ينقصنى عندما أقارن نفسى بأبناء عمومتى، كان أبى الوحيد من بين أخوته الذى لم يتفرغ لفلاحة الأرض،وأتم تعليمه وأصبح مدرساً.. كنت أغار منهم: يخرجون فجر كل يوم، قبيل شروق الشمس،إلى الغيط مع بهائمهم، ولا يعودون الا مع أذان المغرب.. كانوا يحكون لى عن دنياهم ومغامراتهم وبالذات مع «غطس» الترعة فى وقت القَيالة، حيث ينام الأباء تحت أية شجرة وقت الظهيرة عندما تشتد حرارة الجو، ويتسرب الأبناء الى الترعة، حيث يمارسون هواية العوم والغطس، وكأنهم أوز أو بط بلدى!
تجربة الغرق المبكر فى المسقى أورثتنى خوفا من ماء الترعة تعزز بعدما شاهدت كارثة سقوط بهيمة خالى فى بئر الساقية، وكيف مضت ساعات طوال يحاول فيها رجال وشباب العائلة رفع الجاموسة حتى لا تنفق، لم أحتمل خوارها، عاجلوها بسكين بمجرد أن أنقذوها، حتى لا تموت فطيس ولأنها لن تنفع بعد اليوم فى جر ساقية أو محراث.
تغلبت على خوفى من مياه الترعة مع اشتداد عودى، وانتصرت أخيراً إغراءات أولاد عمى على مخاوفى،وألقيت تحذيرات أمى المتكررة لى وراء ظهرى، وقررت خوض تجربة «غٌطس» فى ترعة العطف فى وقت القَيالة، حيث تتوقف الحركة تماما على “ الزراعية “مع ارتفاع حرارة الجو.
> ولكن أنا لم أتعلم العوم.
> ليس مهما، «طَبش» أوحتى عوم «كلابى»!
بصعوبة تسلقت شجرة تميل بجزعها على الترعة حتى تكاد تتوسطها.. فعلت مثلما فعلوا، لم يردعنى شىء ولا حتى الدم الذى تسرب من قدمى، لم أعبأ بصوت أمى الذى كان يرن فى أذنى، خشيت أن يتهمونى بالميوعة وعدم الرجولة.. وقفزت كما فعلوا، وأفقت وأنا على أطراف الترعة بعد أن جذبنى أحدهم، والطين يملأ أنفى وفمى، وبجوارى حمار وجاموسة وعجلة صغيرة آثر صاحبهم أن يستحموا فى الترعة مثلهم مثله، ولكنى اكتشفت أن مايسترنى انزاح عنى وذهب مع الموج.. عدت الى البيت بالجلباب، لم تدرك أمى حقيقة ما حدث.. وبقى أولاد عمى يعيروننى الى اليوم ببكائى خوفا من أن تكتشف أمى تفاصيل مغامرتى.
يومها شربت من ماء النيل ما كان كافيا لخلق عقدة كاملة من هذا الماء الذى احتلته البلهارسيا كما كانت تحذرنى أمى دائما، ربطت هذا الماء بالموت لا بالحياة!
كنت محظوظاً على عكس بقية اخوتى قامت الحكومة بتوصيل حنفية مياه عمومية أمام دارنا، كانت تصطف أمامها نسوة القرية صباحا ومساء، لملء الزلع، و «غسل مواعين» البيت وعندما يخف الضغط يغسلن القمح ثم تجفيفه تمهيدا لطحنه فى طاحونة العمدة.. شيل الزلعة فن، وضبطها فوق الرأس بعد ربط «الحواية» يحتاج الى تدريب متكرر، وإلا تسقط.. ملء الزلع فرصة ذهبية لكل فتاة ليراها ابن الحلال، فرصة مشروعة ليرى تفاصيل التفاصيل، وهو جالس على المصطبة أمام الدار ساعة العصارى، حيث تتساقط قطرات الماء من الزلعة على صدر الفتاة فتنبىء عما استتر، وتكتمل الصورة بتصنع جذب الفتاة لأطراف جلبابها حتى لا تتعثر فيحدد حجم المقعدة، كبيرة كانت أم صغيرة.. وكل واحد وطلبه !
النهار فى قريتنا طويل، كله شقاء، ولكن الليل أطول، يحلو فيه السمر على المصاطب، أما المراهقون فتحلو سهراتهم وحكاويهم الجريئة على الزراعية، كل شىء قابل للحكى على شط الترعة، قلدت من هم أكبر منى وادعيت أن هناك حبيبة، واننى أشكو لوعة حبها وأننى ألتقيها سراً على شاطىء الترعة،.. كنت أكذب بالثلاثة لأن شاربى لم يخط بعد، والصدق الوحيد هو أننى كنت أخاف الترعة وبالذات ليلا، أخشى أن تخرج «ام كبوش» من قاع ترعة العطف وتجذبنى الى حيث اللا عودة، لم يكن من الصعب على زملائى أن يكتشفونا كذبى، ويجعلونى مادة للضحك مرددين : ع الزراعية يارب أقابل حبيبى!
النيل جزء أساسى من حياتى، لصيق بى، عندما انتقل الأب بالأسرة من كفر ميت سراج الى شبين الكوم كانت إحدى مزايا الشقة التى استأجرها قربها من البحر، هكذا كان يسمى أهل شبين الرياح المنوفى الذى يخترق مدينتهم الصغيرة آنذاك ويقسمها الى برين : شرقى وقبلى (لم يقولوا غربى) يصل بينهما كوبرى ومعدية بقرش تعريفة، الكوبرى يفتح فى السابعة صباح كل يوم ليتيح عبور المراكب والصنادل النيلية فى الإتجاهين، فى طقس أحفظه فى مكانة خاصة فى قلبى وعقلى وذاكرتى، وأضبط نفسى كثيرا وانا مستغرق فى ترديد أغانى النواتية وهم يجرون المراكب فى محاولة لتوجيهها بالحبال من البر حتى تعتدل وتعبر سليمة دون ان ترتطم بجسم الكوبرى.
فى أوقات السدة الشتوية، ينحسر النهر، وينكشف قاعه الا قليلا، ونهجر الكوبرى، ونعبر النهر مشيا على الأقدام، حيث تفوح رائحة زفارة مصدرها الأسماك التى أحيانا كنا نراها رأى العين تسبح فى أماكن لم ينحسر عنها النهر انحسارا كاملا، فى وقت السدة يفيض علينا النيل بكرمه: بقراميط او بلطى نطاردها بأيدينا.
علاقتى المركبة بالنيل تعززت عندما مات ابن الجيران غرقا فى النيل قبيل ظهور نتيجة الثانوية العامة، عندما قفز قفزة فى أحد ايام حر أغسطس من فوق جسم الكوبرى الى النيل، ولم تظهر جثته الى عند «القاصد» عندها منطقة البوابات التى تتحكم فى النهر، عندها تطفو الجثث الغارقة
للنيل قرابين، حتى يستمر جريانه.. يغوى احباءه ويأخذهم قرابين يبتلعهم، ويسقيهم كأسه حتى الثمالة، ثم يهب الحياة لساكنى ضفتيه
النيل منى وأنا منه.
أحمله معى أينما ذهبت، حتى عندما أسافر الى دولة أخرى، أبحث أول ما أبحث عن النهر، عن «نيلهم» واستغرب كثيراً كيف تعيش بلد من غير نهر، كان النيل أحد أهم ما افتقدت فى سنوات الغربة للعمل فى قطر، وأول شىء أفعله فى إجازتى جولة فى فلوكة على صفحة النهر.
الآن يريدون محو ذاكرتى، يريدون محو كفر ميت سراج، وكل الكفور والعزب، يريدون اجتزاز ضرع «حابى» فلا يفيض بخيره بعد اليوم.