ظهر الرئيس السيسي محدثاً وموضحاً ليحسم الجدل الدائر حول تسليم جزيرتي تيران وصنافير للمملكة السعودية. ظهر الرئيس محاولاً وأد الفتنة التي استيقظت بين فئات الشعب لتنهش روحه ومشاعره الوطنية وتفقده الثقة في تضحياته طيلة العقود السابقة. رغم النبرة الهادئة التي حاول الرئيس الاحتفاظ بها في حديثه، إلا أن نبرة الألم تفوقت علي هدوئه الظاهر، ورغم ثباته الانفعالي بدا وهو يعاتب الشعب علي شكوكه وفقدانه الثقة في مؤسساته الوطنية وكأنه يكظم غيظه، ومن فرط تواضعه لم يخجل من التصريح بألمه وبأنه تلقي الضربة في صدره.. الرئيس معذور فهذا هو حال المسئول المتفاني، الحاكم المخلص والراعي الصالح لا يحتمل أن يُساء فهمه، ولا أن يكون أداؤه موضع استرابة. لو جاء التشكيك من خصومه وحدهم لهان الأمر عليه وتحمله، لكن أن يسري الشك بين أبناء شعبه الذي يعضده ويحمي ظهره في الملمات وفي مواجهة الأعداء فهذا هو العذاب المقيم.. الرئيس محزون وله كل العذر. والشعب حائر مرتاب وله أيضاً كل العذر.
نعم ياريس الشعب معذور أيضاً.
لقد استيقظ المصريون ذات صباح ليجدوا رئيس حكومتهم يوقع علي تسليم جزيرتين بالبحر الأحمر للسعودية لهما في وجدانه ذكريات عميقة، أجيال وراء أجيال نشأت علي أن تيران وصنافير مصريتان فجأة نكتشف أنهما سعوديتان. في غمضة عين تظهر الوثائق التي تؤكد هذا، وتنبري أصوات محسوبة علي النظام لتدافع عن خطوة التسليم وتستخدم توصيفات متضاربة ومخزية منها أن مصر كانت «تحتل» الجزيرتين! ومرة أخري يقولون إن مصر كانت «تستأجر» الجزيرتين من السعودية، ومرة ثالثة يقال إن مصر كانت «تحمي» الجزيرتين لصالح السعودية وكأننا كنا نقوم بدور الحارس والغفير. والتهبت النفوس هل كانت الارض التي حارب أبناؤنا البواسل دفاعاً عنها سعودية؟ لقد سال الدم المصري من قبل دفاعاً عن أشقاء عرب في فلسطين واليمن والجزائر والمصريون خير أجناد الأرض لا يبخلون بأرواحهم في سبيل الأشقاء لكنهم كانوا يعرفون مهمتهم اما في حالتنا هذه كانوا يظنون أن تيران وصنافير جزء من التراب المصري.
انقسم المصريون؟ نعم ! معذورون. صدمة المفاجأة كانت قاسية.
تعتب عليهم أن لجأوا لمواقع التواصل الاجتماعي؟ لم يكن بيدهم شيء فهم لم يجدوا من البيانات الرسمية ما يشفي غليلهم ولم توافهم الأخبار الحكومية بتطورات الموضوع. ماذا يفعلون وقد فقدوا ثقتهم في بيانات الحكومة خلال كل الأزمات؟ في أزمة الطائرة الروسية ثم في مقتل الباحث الإيطالي، وحتي في أزمة سد النهضة.. وعلي رأي المثل «كدب مساوي ولا صدق منعكش» وكل بيانات الحكومة «منعكشة» غابت عنها الشفافية، وبعدت الشُقة بينها وبين المصريين وازدادت الضبابية في واقعة الجزيرتين بينما الصحف الإسرائيلية تكايدهم وتعلن أن الموضوع مثار بين الدوائر العبرية وبين الحكومة المصرية منذ أسابيع وأنه تم بالتوافق معهم؟ ماذا يفعل الحائرون وهم يستمعون للدفاعات الهزيلة الصادرة من المتعاطفين مع سعودة الجزيرتين وهم يصفونها بالخطوة المصرية الذكية في سبيل التحرر من أسر معاهدات السلام مع إسرائيل وأنها نزلت كالصفعة علي وجه المحتل الصهيوني فإذا بهم يفاجأون بإعلان إسرائيل موافقتها علي تسليم الجزيرتين بالتنسيق مع مصر والسعودية والولايات المتحدة؟ ماذا يفعلون وهم يقرأون إعلان السعودية التزامها بكافة المعاهدات الدولية؟ يعني لا هي حيلة سياسية ولا يحزنون. وهل كان ممكناً أن تمر هذه الحيلة علي الإسرائيليين مرور الكرام؟ ماذا يفعل المصريون الحائرون وهم يرون الدولة العبرية تهلل لهذه الخطوة معتبرة إياها فاتحة الطريق لانضمام السعودية إلي اتفاقات السلام معها؟
الحائرون لجأوا للتاريخ فوجدانهم يأبي التسليم، وصار هناك فريقان لكل منهما مستمسكاته ومراجعه. كل منهما استنطق الباحثين والخبراء، الأحياء منهم والأموات. وازدادت الحيرة.
سيدي الرئيس.. إن شعبك يصدقك ويوقن بأنك وكل الأجهزة الوطنية تحريتم الدقة ورجعتم إلي كل الوثائق المتوافرة والسرية قبل اتخاذ أي خطوة، لكن ماذا لو ظهرت وثائق جديدة تدحض ما ظهر في السابق وتؤكد أن الجزيرتين مصريتان؟
إن الصدق مع الغير صفة محمودة وديننا يأمرنا برد الأمانات إلي أهلها، لكن شعبك أيضاً يحتاج لصدق الحكومة معه، وألا تتعامل معه بمنطق الوصاية وألا تتصور عدم أهليته للمصارحة والمكاشفة بل والمشاورة أيضاً إن لزم الأمر.