أخطر ما في قضية جزيرتي تيران وصنافير أنها أدت إلي انقسام حاد في الرأي العام يهدد بلا شك استقرار الوطن.. مرة أخري وجد المصريون أنفسهم علي جانبين متناقضين في وقت نحن أحوج أن نقف فيه صفا واحدا في مواجهة ما يحاك ضدنا من مؤامرات خارجية وداخلية.
السيادة علي الجزيرتين مسألة فنية يحددها أساتذة القانون الدولي والخبراء من واقع مواثيق واتفاقيات ومعاهدات دولية وما يصلون إليه من قرار لابد أن يحترم.. وهي قضية لا يصح أن تكون مجالا لخلاف سياسي يدلي فيه بدلوه كل من هب ودب سواء كان ذلك بحسن نية أم بسوء نية لتصفية حسابات سياسية أو اتهام النظام بالتفريط في التراب الوطني.. لكنها في النهاية تؤكد من جديد ما أثرته هنا منذ أسابيع عن فشلنا المتكرر في إدارة الأزمات مؤكدا إنها اشكالية لا يمكن إهمالها.. أين الخطأ إذن في هذه الأزمة ؟
اللافت للنظر أن كل المؤيدين لما أسفر عنه اتفاق تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية من وقوع جزيرتي تيران وصنافير في المياه الإقليمية السعودية لم يختلفوا علي سوء إدارة الحكومة للأزمة وسوء اختيار التوقيت للإعلان عن هذه الاتفاقية خلال زيارة العاهل السعودي لمصر والتي شهدت التوقيع علي عدد من الاتفاقيات بقيمة 25 مليار دولار ما جعل الأمر يبدو أمام الرأي العام أن مصر فرطت في ترابها الوطني وتنازلت عن الجزيرتين مقابل مساعدات مالية رغم أن الحقيقة غير ذلك لأن اتفاقية تعيين الحدود البحرية تضمنها إعلان القاهرة في ديسمبر الماضي والمفاوضات بشأنها مستمرة منذ 6 سنوات وتعددت الاجتماعات الخاصة بذلك خلال الأشهر الأخيرة.
كل هذا تم في سرية ولم يكن الأمر يحتاج - من وجهة نظرهم - أكثر من الشفافية في الإعلان عن هذه الاجتماعات -علي الأقل خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة- وتوضيح كل الاحتمالات لما قد يسفر عنه الاتفاق لكن الذي حدث أن المصريين الذين يعرفون جيدا أن جزيرتي تيران وصنافير مصريتان استيقظوا يوم توقيع الاتفاقية ليفاجأوا بأنهما تحت السيادة السعودية رغم أن هذا هو واقع الحال وكل ما في الأمر أن السعودية طلبت من مصر عام 1950 وضع الجزيرتين تحت الإدارة المصرية لأنها لم تكن لديها القدرة العسكرية للدفاع عنهما في هذا الوقت في مواجهة العدو الإسرائيلي -وهذا مثبت بوثائق رسمية- وهو وضع استمر حتي الآن لكن المطالبات السعودية باستعادة السيادة علي الجزيرتين لم تتوقف وإذا كان قد آن الأوان بموجب الاتفاقية محل الجدل أن تمارس السعودية حقها في السيادة علي الجزيرتين فكان لابد أن تحسن الحكومة اخراج الحدث ولا تعطي الفرصة لأحد لاتهام النظام والرئيس السيسي تحديدا بالتفريط في التراب الوطني.. بعد توقيع الاتفاقية كان لابد للحكومة الإسراع بعقد مؤتمر صحفي تعرض فيه كل الوثائق والمستندات بدلا من الاكتفاء بإصدار بيان يؤكد أن الجزيرتين سعوديتان ما جعل الخبر ينزل علي الناس كالصاعقة.
ما يجب أن نثق فيه جميعا أن الرئيس السيسي وهو رجل عسكري يعرف جيدا معني الأرض والوطن لا يمكن أن يفرط في حبة رمل واحدة من تراب مصر وأتمني أن يكون قد نجح خلال لقائه أمس مع رموز المجتمع في إزالة اللبس الذي حدث وتوضيح الصورة علي حقيقتها.
وداعا .. يا صديق العمر
الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذه الدنيا ولا مهرب منه لكن الفراق دائما يكون صعبا خاصة إذا كان المتوفي بقيمة وقامة أخي وزميلي وصديق العمر محمد عبدالمقصود مدير تحرير «الأخبار» .. استغرب كثير من الزملاء أنني لم أشارك بالكتابة عن عبدالمقصود في الصفحتين اللتين خصصتهما «الأخبار» لرثائه.. والحقيقة ان القلم لم يطاوعني.. عجزت فعلا عن التفكير في الكتابة في غمرة أحزاني وأنا أشارك في تشييع جثمانه في جنازة مهيبة كانت استفتاء علي حب الناس له.. وفي سرادق العزاء لم يتمكن المقرئ من الاستمرار في قراءة القرآن لأكثر من 5 دقائق لاتاحة الفرصة لمغادرة البعض ودخول معزين آخرين.. فالفقيد كان بين أهله وجيرانه «حاجة كبيرة قوي» بعلاقاته الطيبة وأعماله الخيرية من خلال جمعية رعاية الأيتام التي أسسها وأدارها بمنتهي الاخلاص.. نفس المشاعر كانت بين زملائه وأصدقائه الذين زاملوه في «أخبار اليوم» بجميع اصداراتها وقبلها في كلية الإعلام والمدارس التي التحق بها في صباه.. كلهم جاءوا لوداعه وهم لا يصدقون أن المرض الخبيث قد هزمه.
لم يكن عبدالمقصود محررا لشئون البيئة فقط بل كان خبيرا بيئيا يحسب له ألف حساب أسس جمعية كتاب البيئة ورأسها لعدة سنوات.
قبل توليه مسئولية البيئة في «الأخبار» كان أحد ألمع محرري الحوادث والقضايا لعدة سنوات.. كما أشرف لعدة سنوات أخري علي قسم المحافظات.. لم يبخل يوما بعلمه وخبرته علي أي زميل شاب بل كان حريصا دائما علي نقل خبراته للعشرات ممن تتلمذوا علي يديه في «الأخبار» وفي قاعات المحاضرات بأكاديمية «أخبار اليوم».. العلاقة الإنسانية الخاصة التي جمعتني بعبدالمقصود علي مدي 45 عاما لا يعلمها إلا الله لهذا لن أتعرض لها هنا.. وكل ما أملكه الآن الدعاء له بالرحمة والمغفرة وأن يسكنه الله فسيح جناته.