مثل الأدوية التي يكتبها الأطباء للمرضي لتثبيت الأعضاء الجديدة التي تم زرعها لهم حتي لا تلفظها أجسادهم، هكذا كان الرائع محمد عبدالمقصود وهو يستقبلنا صغارا نحبو علي بلاط صاحبة الجلالة، ودون سابق معرفة أو توصية يقوم ببث شحنات الأمل لتثبيتنا كأعضاء جدد في جسد صاحبة الجلالة في الوقت الذي كان البعض ينظر لهذه الأعضاء الجديدة علي أنها دخيلة علي المهنة ولا تستحق حتي الفرصة لأنهم من وجهة نظرهم التي تفضحها تصرفاتهم سيزاحمونهم ويتمنون أن تلفظهم الصحافة للشارع قبل أن يبدأوا حتي لا يشاركوهم مهنتهم !.
كان محمد عبدالمقصود أحد هؤلاء المتطوعين لاستقبال أبناء جيلي ممن كانوا يبحثون علي أدلة ومصابيح يهتدون بها علي الدرب الطويل، لا ينتظر أن تتقدم أنت لتقدم له نفسك بل يأتيك هو حيث أنت يقدم لك نفسه وينتزع ببساطة كل علامات الرهبة والارتباك التي تسيطر علي كل من كان مثلي يترك الصعيد بكل براءته وعفويته ويلقي بنفسه في تهلكة القاهرة بشكل عام وفي براثن الصحافة بشكل خاص ليجد نفسه بين شقي الرحي في مدينة بلا قلب ومهنة لا ترحم!
من اليوم الأول يزرع عبد المقصود بداخلك ثقة لا حدود لها، يعلمك كيف تعتز بنفسك كإنسان في المقام الأول وكصحفي في المقام الثاني فتشعر بعد جلسة واحدة معه أنك مولود لتعمل في الصحافة وأن هذه المهنة كانت تنتظرك انتظار الأميرة لفارسها الذي سوف يخطفها علي حصان أبيض ليحلق بها إلي العالم الذي تحلم به فما أن تنتهي جلستك معه إلا وتشعر أن صدرك قد امتلأ بهواء صحافة نقية تمنحك طاقة كبيرة للعمل والإنتاج، ولا يكتفي عبد المقصود به فيخرج بك من الدروس النظرية للصحافة علي أرض الواقع فيصطحبك معه في عمله ويتابعك ويصحح لك ويرشدك فإذا لم تخيب ظنه تجده يفعل مثلما فعل معي عندما رشحني لأكون بجواره في دورة تدريبية نظمتها كلية الإعلام وإذا به يقدمني لأساتذة الكلية علي أني أحد أهم الصحفيين في الأخبار ووقتها لم يكن اسمي قد نشر حيث كان نشر اسم الصحفي تحت التمرين من الممنوعات، واستمرت الدورة أسبوعين وعبدالمقصود لا يكتفي بالتدريب بل هو يشرف علي زميله الصغير ولا يتركه يومياً إلا بعد أن يطمئن علي استيعابه لموضوعات الدورة.
كان محمد عبدالمقصود من المثقفين الذين يجيدون تبسيط الثقافة دون تنظير أو تقعير وكنت أخاطبه دائما بفيلسوف البسطاء لقدرته علي توصيل أدق المسائل الفلسفية والثقافية بأسلوب سهل محبب لمن يخاطبه، فكنت أسأله ضاحكا عن الأوبرا مثلا وماذا يعني هذا الغناء الأوبرالي الذي لا أحبه ولا أفهمه، فيضحك وهو يشرح لي ببساطة كل ما يعرفه عن فن الأوبرا مؤكدا أنني لا أحبه لأنني لا أفهمه وأن الفهم لابد أن يسبق الحب فإذا استعصي عليك فهمه فهذا لن ينتقص من قدرك وليس بالضرورة أن تكون علي دراية بالغناء الأوبرالي لتكون من المثقفين ثم يهمس في إذني ساخرا: بس نصيحتي لك بلاش لأن الجماعة الطليان لو عرفوا إنك عايز تعرف الأوبرا يا صعيدي ممكن يبطلوها ويلغوها من حياتهم أساسا.
لم تكن مفاجأة لي ونحن نشيعه لمثواه الأخير أن أشاهد وأسمع أنين الغلابة من جيرانه في المعصرة حيث كان كما قال شيخ المسجد يسأل عن الأرملة والمطلقة والكهل ولا يعرف النوم له طريقا قبل أن يطمئن عليهم فهذا هو محمد عبد المقصود الذي عرفته طوال 30 عاما، أخا وصديقا ووالدا للجميع، فإلي جنة الخلد يا فيلسوف الناس الغلابة وإنا لله وإنا إليه راجعون.