شريف أبوالحديد باحث ما بعد الدكتوراه فى جامعة لندن للصحة العامة
شريف أبوالحديد باحث ما بعد الدكتوراه فى جامعة لندن للصحة العامة


علماء الظل «3»: ميزانية البحث العلمي «معقولة».. والروتين يعرقل الاستفادة منها

حازم بدر

الأربعاء، 22 سبتمبر 2021 - 05:10 م

مصر تجرى فى دمى.. وتواجدى بالخارج أكثر فائدة 
البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية الوباء القادم.. وتوقعات بتسببها فى وفاة 10 ملايين عام 2050
فقدنا ثقة المجتمع لأننا لم نحل مشاكله واللحاق بمن سبقونا ليس مستحيلًا
أنتجنا لقاحًا لبكتيريا مرشحة للاستخدام فى الحرب البيولوجية.. واكتشفت سر مقاومة أخرى للعلاج 
من السابق لأوانه التنبؤ بموسمية «كورونا» واللقاحات فعالة حتى إذا لم تمنع الإصابة 

 

كثير من العلماء الذين يصنعون نجاحهم فى الدول الأوروبية، يقعون فى غرام هذه الدول التى وفرت لهم امكانيات النجاح، إلى الدرجة التى تدفع بعضهم إلى الاستغراب عندما تسأله: متى تعود إلى أرض الوطن؟


جهزت نفسى لاستقبال نفس نظرة الاستغراب المعتادة، وأنا أطرح نفس السؤال على د.شريف أبو حديد، باحث ما بعد الدكتوراة فى جامعة لندن للصحة العامة و طب المناطق الإستوائية، والذى التقيته عبر تطبيق « زووم» ضمن سلسلة حوارات تجريها «الأخبار» تحت عنوان «علماء الظل»، فوجدته يرفع يده إلى كاميرا جهاز الكمبيوتر، لكى أرى سوارًا جلديًا يرتديه كتبت عليه عبارة « العودة إلى الوطن».


وخلال الحوار الذى امتد قرابة الساعة والنصف، ترجم أبو الحديد، صاحب الصوت الخفيض،  هذه العبارة فى كثير من أرائه، حيث تحدث فى أكثر من موضع عن أنه يذوب عشقا فى وطنه وحضارته، مؤكدا  أن الفوارق بيننا وبين الغرب ليست كبيرة، كما كان يروج بعض أساتذته، الذين ينبهرون بالغرب بدرجة عاطفية تجعلهم غير قادرين على الحكم الموضوعي.


وقال إن الفارق بيننا وبينهم فى وجود نظام يلبى متطلبات الباحث بشكل أسرع وأسهل، مؤكدا أن هذا النظام لا يحتاج إلى ميزانيات إضافية، لكن إدراك أهمية وجوده ثم تطبيقه، يحتاج فقط إلى إيمان بأهمية البحث العلمي، الذى أثبتت جائحة «كوفيد -19» أنه ليس رفاهية، بل أصبح ضرورة وجودية، إذ لولا اللقاحات التى خرجت عنه، ما نجت البشرية من هذا الوباء.


وقبل أن اكمل سؤالى عن استعداده للعودة إذا تلق وعدًا بوجود هذا النظام، قال بدون تردد: «اتخذ قرار العودة قبل أن يكمل صاحب الوعد عبارته»، ولكن إذا لم يوجد هذا النظام، يرى أبو الحديد، أن وجوده فى الغرب يصب بشكل أكبر فى مصلحة بلده، التى يحاول أن ينقل لها خبراته وخبرات أقرانه من المغتربين من خلال مبادرة «بيوكيمت «، التى أطلقها قبل سنوات.


وكشف عن تفاصيل هذه المبادرة وأبحاثه الحالية والمستقبلية فى مجال الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية، وقدم بعض النصائح المهمة حول أهمية ترشيد استخدام المضادات الحيوية لوقاية البشرية من وباء محتمل بعد 30 عاما، سيكون أشد فتكًا من كورونا.. وإلى نص الحوار.   
 

دعنا ننطلق فى البداية بإعطاء سيرة ذاتية مختصرة عن مسيرتك البحثية..


أعمل حاليا باحثًا ما بعد الدكتوراة أو ما يطلق عليه «زميل باحث» فى جامعة لندن للصحة والطب الاستوائي، وباحث زائر فى الكلية الملكية بإنجلترا، وتعد الجامعة الأساسية التى أعمل بها واحدة من أهم المعاهد البحثية فى علم الأمراض المستوطنة والوبائيات والأمراض المعدية، واسمها يتردد كثيرا أثناء جائحة «كوفيد -19 « الحالية، ويركز عملى فى الجامعة على  اتجاهين، أولهما هو دراسة الأمراض المعدية، لاسيما البكتيريا المسببة للأمراض، واهتم بشكل خاص بالبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، والاتجاه الثانى هو تطوير لقاحات لهذه البكتيريا.


وكيف انتقلت من مصر للعمل بهذه المؤسسة العريقة؟


ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة قبل أن يقول بصوت خفيض: أنا تخرجت فى كلية الصيدلة بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا فى مدينة السادس من أكتوبر عام 2006، ولم أكن أنتوى السفر إلى الخارج، ولكن الظروف قادتنى إلى هذا التوجه، فعندما كنت أعد رسالة الماجستير تحت إشراف أستاذين، أحدهما يعمل بهيئة المصل واللقاح، والآخر بجامعة الإسكندرية، شاءت الأقدار أن يحصل الأستاذان على فرص للعمل خارج مصر، فانتقل أحدهما للعمل بجامعة الملك عبد الله بالسعودية، والآخر للعمل فى تكساس بأمريكا، وحينها قلت لنفسى بعد أن تعطلت مسيرتى للحصول على الماجستير من مصر، ولما لا أحصل عليه من الخارج، وبالفعل حصلت على فرصة لانجاز رسالة الماجستير فى بريطانيا، وكنت أنتوى العودة إلى مصر، ولكن وقعت ثورة 25 يناير 2011، وما تلاها من اضطرابات، فشعرت وقتها أن المناخ غير ملائم للعودة، ونصحنى كثيرون بالاستمرار حتى أحصل على الدكتوراة، وبالفعل وجدت فرصة وظيفة مساعد باحث بالجامعة التى أعمل فيها حاليا، وحصلت منها على درجة الدكتوراة، ولا زلت أعمل بها إلى الآن.


وإلى متى ستستمر بالخارج؟


يرد على الفور وهو يشير إلى عروق يده الدموية : حب الوطن يجرى فى دمي، ثم رفع الكوب الذى يوجد على مكتبه قائلا: كما ترى أذكر نفس دائما من خلال الرسوم التى توجد عليه بهويتى المصرية، ثم وضع الكوب، ورفع يده الأخرى أمام كاميرا جهاز الكمبيوتر ليظهر سوار جلدى يرتديه، مضيفا: « كما ترى يحمل هذا السوار عبارة  (العودة إلى الوطن) «.


ظروف غير مواتية


إذا كنت تتمنى العودة، كما هو واضح، فما الذى يمنعك؟


يصمت لوهلة أخذ خلالها رشفة من الماء قبل أن يقول: قرار العودة  يتوقف على أمور كثيرة ليست مادية على الإطلاق، فوفقا للظروف المتاحة فى مصر حاليا، أرى أن عملى فى لندن أكثر فائدة لبلدى من العودة الآن، فأنا هنا أنجز أبحاثًا بشكل سريع وأسجل براءات اختراع فى تصنيع اللقاحات، وكل ذلك يمكن أن يعود بالنفع على بلدى مستقبلا، كما أننى حريص على التواصل مع الوطن عبر مبادرة «بيوكيمت «، التى دشنتها للتواصل بين الباحثين بالخارج والباحثين العاملين فى مصر، وتم توسيع نطاق المبادرة لتشمل أيضا باحثين عرب.


ماذا تعنى كلمة «بيو كيميت»؟


«بيوكيمت» اختصار لكلمة بيولوجى  و طعو كيميت، أى «الأرض السوداء»، وهو اسم مصر باللغة المصرية القديمة، نسبة إلى وجود الطمي، ونقيم من خلال المبادرة التى تحمل هذا الاسم عدة أنشطة تربط بين الباحثين فى مجال العلوم الحيوية داخل وخارج مصر، فلدينا مثلا ملتقى سنوى يعقد فى الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر،  وعقد العام الماضى  افتراضيا بالتعاون مع جامعة الجلالة، والعام الذى سبقه فى مقر أكاديمية البحث العلمى المصرية، ونسعى حاليا لتدشين مؤسسة تحت مظلة التضامن الاجتماعى باسم «بيرعنخ للعلوم والفلسفة»، وكلمة «بيرعنخ» تعنى (بيت الحياة) فى مصر القديمة، وهو الاسم الذى كان يطلق على المعابد وأماكن تلقى العلم، وستكون مبادرة «بيوكيمت» أحد أنشطة هذه المؤسسة.


من الواضح أنك تعشق الحضارة المصرية القديمة كما يبدو من الرسوم التى توجد على الكوب والاسماء التى اخترتها للمبادرة والمؤسسة...


يضحك قبل أن يقول: طبيعى لازم أعشقها، فأنا أحمل الجنسية المصرية، والجنسية ليست مجرد اسم، بل هى عادات وتقاليد وموروث ثقافى لنا أن نفخر به، فهل تعلم مثلا أن حوالى 12 ألف كلمة متداولة حاليا أصلها فرعوني، مثل كلمة «الترعة» والتى تعنى المصرف الكبير فى اللغة المصرية القديمة.


استثمار الحب


ألا ترى أن استثمار هذا الحب الذى تحمله لبلدك داخلها يمكن أن يكون أكثر فائدة؟


يومئ بالموافقة قبل أن يقول: كما قلت لك أنا أرغب فى العودة، ولكن المناخ العام فى البحث العلمى بمصر لن يجعلنى قادرا على إفادة بلدى بشكل يفوق وجودى بالخارج.


وما المشكلة على وجه التحديد التى تقف حائلا أمام اتخاذ قرار العودة؟


يرد على الفور قائلا: الروتين، فمجال عملى قائم على كيماويات وبعض الخلايا، وعندما يتعطل الحصول عليها  لإجراءات روتينية أخسر كثيرا، فالروتين قاتل للبحث العلمي، ولذلك قلت لك إن وجودى خارج مصر الآن أكثر إفادة لبلدي.


يعنى القرار ليس له علاقة بالراتب، والفارق الذى قد يكون موجودا بين راتبك بالخارج وداخل مصر؟


يشير بعلامة الرفض قائلا: إطلاقا .. أنا لا أتحدث عن راتب، وكما علمت أنه مع وجود الكثير من الجامعات الأهلية أصبحت رواتب الباحثين أكثر منطقية، وسيتحسن الوضع،  عندما ندرك جميعا أن البحث العلمى ليس رفاهية لكنه ضرورة.


ربما يكون الروتين الذى تشتكى منه له علاقة بضعف ميزانية البحث العلمي، والحاجة إلى التأكد من أن كل جنيه ينفق فى المكان الصحيح؟


ترتسم على وجهه ابتسامة ساخرة قبل أن يقول: المشكلة ليست فى الميزانية، وبالمناسبة ميزانية البحث العلمى فى مصر «معقولة»، ولكن ما الفائدة عندما يكون عندك مثلا ميزانية مائة جنيه، ولا تنفق منها سوى 20 جنيها بفاعلية بسبب الروتين، فإذا لم يكن عندك روتين وميزانيتك أقل (70 جنيها ) مثلا، واستطعت ان تنفق منها 50 جنيها، ففى هذه الحالة يكون السبعون جنيها أفضل من المائة فى غياب الروتين.


الحد الفاصل


وما  الحد الفاصل بين أن تكون هناك لوائح تضمن إنفاق الأموال فى محلها، وبين أن تكون هذه اللوائح غير معرقلة للإنفاق؟


يشير بإصبع السبابة قائلا: شيء واحد فقط، هو أن تكون هناك منظومة واضحة تضمن العمل بشكل فعال وسريع، وبالمناسبة قد يكون إنفاق الأموال فى بريطانيا يمر بنفس الخطوات التى تحدث فى مصر، ولكن فى وجود تلك المنظومة  تسير الأمور بشكل سريع.


يعنى مثلا لو أردت شراء كيماويات مطلوبة لعملك، كيف تطلبها ؟


ترتسم على وجهه ابتسامة ساخرة قبل ان يقول: قبل أن أقول لك ما سيحدث فى الجامعة التى أعمل بها، سأنقل عما يحدث فى مصر بناء على تجربتى قبل السفر، فعندنا ينبغى عليك أن تأتى بعرض أسعار، وأحيانا يطلب منك أن تأتى بأكثر من عرض لاختيار أرخصها، مع انك فى البحث العلمى يجب أن تبحث عن الأكفأ وليس الأرخص.


بينما فى  جامعة لندن للصحة العامة و طب المناطق الاستوائية، حيث أعمل حاليا، لا يكلفنى الأمر سوى الدخول إلى «سيرفر» الجامعة عبر الكمبيوتر الخاص بي، وادخل على المنحة التى أعمل فى إطارها، واطلب ما احتاجه، ليمر طلبى بأكثر من مرحلة، يحصل خلالها على الاعتمادات، ولكن ذلك يتم بشكل سريع، بحيث إننى كباحث لا أشغل بالى بهذا الموضوع، ولا اضطر كما يحدث فى مصر إلى التواصل كل يوم مع قسم المشتريات لسؤالهم عن أسباب تأخر الكيماويات.

 

أفهم من ذلك أن الأمور تسير على نحو سريع فى كل شيء؟


يأخذ رشفة من الماء قبل أن يواصل الحديث: وجود منظومة واضحة يسهل كل شيء، فمثلا لو قيل لك سنرد عليك بخصوص طلب المنحة خلال ستة شهور، ستكون على يقين أنك ستتلقى ردا فى الشهر السادس.


وهل توجد معايير بخصوص نوعية الأبحاث التى تتلقى التمويل؟


من المؤكد توجد معايير لذلك، فالمقترح البحثى الذى تتقدم بطلب للحصول على تمويل لتنفيذه يطرح على  باحثين لا يعرفونك لتقييمه واتخاذ قرار بشأنه، وأيًا كانت نتيجة هذا القرار ستكون مطمئنا لعدالته، لأنه تم اتخاذه على أسس علمية، وليس نتيجة أهواء وميول شخصية أو محسوبية.


تحديث المنظومة


وما الذى يمنعنا من تنفيذ هذه المنظومة ؟


بحماس شديد غلف نبرة صوته يقول: بالرغم مما أشرت إليه، فإننا لسنا بعيدين كثيرا عن الغرب، ومن يقول لك إن  أمامنا مليون سنة ضوئية للوصول إلى ما حققوه، لم يعش بالغرب فترة طويلة، فما تحقق فى ظل الظروف التى مررنا بها من ثورات واضطرابات واستعمار «معقول جدا «، ولكننا بحاجة إلى قفزة تعوض تأخرنا، وهذه القفزة يمكن أن تأتى من خلال تطوير  منظومة البحث العلمى لتكون أكثر فاعلية فى دعم المتميزين.


كما يجب أن نتخلص من بعض «التابوهات»، كأن يظل المعيد الذى عين فى جامعة القاهرة مثلا بنفس الجامعة حتى وفاته، ففى بريطانيا يمكن أن يحصل الطالب على البكالوريوس من جامعة أكسفورد، والماجستير من كامبريدج، والدكتوراة من أمريكا، ثم يعود إلى جامعة أخرى داخل بريطانيا، وهكذا، وهذه الحركة مهمة لأنها تخلق تنافسية بين الجامعات، تكون مفيدة فى أن كل جامعة ستحاول أن تحسن من أدائها وتستقطب المتميزين، فالموضوع أشبه بلاعبى الكرة، الذين ينتقلون من ناد إلى آخر، ويسعى كل ناد لاستقطاب الأفضل، ويصب ذلك فى صالح المنظومة ككل.


وما الذى يحول بيننا وبين هذه الأفكار، لاسيما أن لدينا عقولًا مشهود لها بالكفاءة والتميز؟


من الجيد أنك تطرقت للعقول المصرية، لأنه من خلال الملتقيات العلمية التى قمنا بتنظيمها فى أكاديمية البحث العلمي، كان يسترعى انتباهى حالة الشغف الموجودة لدى طلاب جامعات الصعيد، لاسيما طلاب جامعتى أسيوط وبنى سويف، وكنت أتعجب كيف لهؤلاء الطلاب ان يقطعوا مسافة طويلة للمجىء للقاهرة ليلا والمبيت بها، حتى يتمكنون من حضور ملتقى علمى فى الصباح، ثم يعودون إلى الصعيد مساء، بصراحة هؤلاء الطلاب، بالإضافة إلى طلاب مدينة زويل «حاجة تفرح وتفتح النفس» وتعطى طاقة إيجابية.


ومثل هذه الطاقات نحتاج لكى نستفيد منها إلى منظومة جيدة لن تتحقق إلا إذا كانت هناك رغبة فى التغيير وانفتاح مسئولى البحث العلمى على المقترحات والأفكار الجديدة، وأن يكون لدينا هدف معلن، نعمل جميعا على تحقيقه.


هل لديك أى مقترحات أخرى بخلاف القضاء على الروتين الذى يضيع وقت الباحث؟


يطلق تنهيدة عميقة استعدادا لإجابة طويلة قبل أن يقول: فى أفكار كثيرة، منها أن يكون لدينا مراكز تميز بحثية تكون أشبه بمحميات طبيعية يترك داخلها الباحثون ليقومون بعملهم دون أى عراقيل توضع أمامهم، وهذه المراكز ليس شرطا أن تكون بالقاهرة، بل يمكن ان تنتشر فى المحافظات المصرية، كما يمكن أيضا تجميع المعاهد البحثية ذات التخصصات المتشابهة فى مناطق معينة بمصر، وتنشأ حول هذه المعاهد شركات ناشئة يقوم نشاطها على المخرجات البحثية لهذه المعاهد، ويجب أن نولى مزيدًا من الاهتمام بمجال التكنولوجيا الحيوية، فلا توجد بمصر سوى شركتين ناشئتين فى هذا المجال، على حد علمي، رغم أهميته التى ظهرت مع جائحة « كوفيد - 19».


وهذا لن يتحقق إلا إذا أدركنا أن البحث العلمى ليس فقط ضرورة، لكننا لن ننجو إلا به، وهو ما ظهر أيضا فى جائحة «كوفيد 19 « الحالية، ويجب أيضا أن نثق كثيرا فى أنفسنا، فأجدادنا نجحوا فى بناء الأهرامات باستخدام البحث العلمي، ومكتبة الإسكندرية كانت مركزا للبحث العلمى درس فيه « إراتوستينس «، وهو عالم رياضيات وجغرافى وفلكى يونانى ولد فى مستعمرة سيرين اليونانية (وهى حاليا مدينة شحات فى ليبيا)، وكان أول من قام بحساب محيط الكرة الأرضية، وهذا يكشف عن أهمية الانفتاح على الآخر فى البحث العلمي، فهذا العالم القادم من ليبيا درس فى مصر، ويجب أن تعود مصر مركزًا لاستضافة العقول من العالم العربى والعالم، فهذا كله يفيد البحثى العلمى الوطني، وهذا ما تفعله الدول الأوروبية حاليا، حيث تستقطب العقول من كل دول العالم.


غياب التخطيط


وما  مواصفات العقل الذى يستقطبه الغرب؟


بصوت خجول يقول: يجب أن يكون أفضل من الغربى ، ولا أقصد حالتى أنا تحديدا ، ولكن بشكل عام إذا سار الباحث الغربى مسافة ميل، فعلينا كعرب عاملين هناك أن نقطع مسافة ميل ونصف، حتى نثبت أنفسنا.


وماذا استفدت من الغرب بعد 11 عامًا من الإقامة فى لندن؟ 


سافرت إلى لندن فى 19 أكتوبر 2010، ولم تكن وقتها مواقع التواصل الاجتماعى وموقع اليوتيوب قد انتشرت بشكل كبير، وكانت لدى بعض الأفكار عن الغرب، تشكلت لدى من حديث أساتذتنا الذين سافروا للدراسة هناك، ولكنى وجدت بعضها صحيحًا والكثير منها خطأ.


والصحيح من هذه الأفكار هو الدرس الأساسى الذى استفدته من الغرب، ويتعلق بوجد نظام يساعدك على النجاح، وقد استفدت كثيرا من هذا النظام لا أنكر ذلك، أما الأفكار الخاطئة، فتتعلق بالمغالاة فى الحديث عن السمو الغربي، والفرق الشاسع بيننا وبينهم، وللحقيقة لم أجد ذلك، وقد يكون أساتذتنا متأثرين بزمن مضى عندما سافروا فى السبعينيات، أما الآن فلم أشعر  بفرق شاسع، فمثلا كثير من الأجهزة المتوفرة للطالب الغربي، يوجد مثلها فى مدينة زويل بمصر، ينقصنا فقط بعض من التخطيط لنكون فى أفضل حال.


تقصد بالتخطيط أن يكون لدينا نظام واضح؟


أحد معجزات ربنا النظام، فالكون يسير بنظام يجعل الشمس لا تدرك القمر، وهذه رسالة لنا نحن البشر بأن أساس النجاح هو النظام.


لنفترض أنك تلقيت اتصالا هاتفيا من مسئول كبير يعدك بتطبيق هذه الأفكار التى تنادى بها ويدعوك للعودة لتكون جزءا من منظومة البحث العلمى الجديدة.. هل تتخذ قرار العودة ؟


يرد قبل ان استكمل سؤالي: سأتخذ قرار العودة قبل أن يكمل صاحب الوعد جملته.


دون أن تناقشه فى الراتب؟


يضحك قبل أن يقول: المقابل المادى ليس هدفا فى حد ذاته، ولكن من المؤكد ان من يفكر فى تطوير البحث العلمى سيضع فى الحسبان جعل الباحث ميسورًا ماديا.


ولكن ألا أترى أن ثمة تحرك إيجابى يحدث الآن فى مصر بمجال البحث العلمي؟

يومئ بالموافقة قبل أن يقول: هناك ثمة تحرك ايجابي، ولكن السؤال: هل هو كاف لإدراك من سبقونا ؟


وما رأيك .. هل هو كاف؟


يصمت لوهلة قبل أن يقول: بالنسبة لى اطمح ليس فقط فى ادراك من سبقونا، ولكن أتمنى أن نسبقهم، وأكرر هذا ليس مستحيلا ، وتحقيق ذلك ليس مسئولية وزارة التعليم العالى والبحث العلمى وحدها، بل يجب تضافر جهود الجميع من الإعلام والطبقة المثقفة والكتاب، لتأصيل حقيقة أن البحث العلمى ليس رفاهية، وأننا لن ننجو بدونه، ولعل جائحة «كوفيد -19» أكدت ذلك، فلولا اللقاحات المتوفرة، لكنا غيرقادرين على العودة لممارسة حياتنا بشكل طبيعي، وما استطعنا مغادرة منازلنا.


بناء جدار الثقة


بما أنك أشرت إلى اللقاحات، هل تعلم أن المركز القومى للبحوث أنتج لقاحا، وبدلا من أن يشعر الناس بالفخر لذلك، سخر الكثيرون من هذا الجهد، فما سبب ذلك فى رأيك؟


يشير بأصبعيه السبابة والوسطى قبل أن يقول: يوجد سببان لذلك، أحدهما اجتماعى يتعلق بفقدان الثقة فى أنفسنا، وهذا ليس أمرا مستحدثا، وسبق وتحدث عنه الإمام محمد عبده، وهذا الأمر من ترسبات الاستعمار، الذى جعلنا لا نثق إلا فى ما هو غربي، وذلك حتى يتمكن من فرض سيطرته.


أما السبب الثاني، فهو فقدان ثقة الناس فى البحث العلمي، لأنه لا يوجد بحث علمى تحول إلى منتج استطاع أن يحل مشكله تؤرق حياتهم،  وعندما يتحقق ذلك، سنتمكن من بناء جدار الثقة المفقودة بين المجتمع والبحث العلمي، وهذا بالمناسبة ما حدث فى أوروبا، حيث كانوا فى البداية لا يثقوا فى البحث العلمى وكانوا يرجعون كل شيء إلى الكنيسة، ثم آمنوا بالبحث العلمى عندما رأوا منتجاته تحل مشاكلهم.


وماذا عن منتجاتك البحثية ودورها فى حل المشاكل؟


 تشعر بالارتياح على وجهه بعد أن مهد السؤال للانتقال من الحديث عن المشاكل إلى الإنجازات، حيث قال: أعمل على دراسة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، وتطوير لقاحات لها، وتمكنت فى هذا الصدد من اكتشاف سر مقاومة بكتيريا ( كامبيلو باكتر) للمضادات الحيوية، وهى بكتيريا تنتقل من الدواجن واللحوم التى لم يتم طهيها بشكل جيد، حيث اكتشفت أن بروتينات البكتيريا ترتبط بمركبات سكرية تزيد من فاعلية مضخة توجد على جدار البكتيريا، تكون وظيفتها ضخ أى مادة غريبة لا تريدها البكتيريا، ومنها المضادات الحيوية.


الاستعداد باللقاحات


وهل كل أنواع البكتيريا المضادة للمضادات الحيوية تقاوم بهذه الطريقة؟


توجد أنواع أخرى من البكتيريا تقوم بتغيير المستقبلات الموجودة بها، والتى تم تصميم المضادات الحيوية كى ترتبط بها، وبالتالى لا تتمكن المضادات الحيوية من التأثير فى البكتيريا، ومع تزايد قدرات البكتيريا فى مقاومة المضادات الحيوية يتوقع أن تواجه البشرية خطرًا كبيرا، حيث تصف منظمة الصحة العالمية هذا الخطر بأنه الوباء القادم الذى سيتسبب فى وفاة 10 ملايين شخص عام 2050، ويؤدى إلى خسائر تقدر بترليونات الدولارات. 


وماذا عن اللقاحات التى يتم إعداها للتعامل مع هذه البكتيريا؟


شاركت فى تطوير أكثر من لقاح، مثل لقاح ضد بكتيريا «فرانسيسيلا تولارنسيس»، وهى بكتيريا مرشحة للاستخدام فى الحرب البيولوجية، وكان هذا المشروع بالتعاون مع وزارة الدفاع البريطانية، كما أنتجت لقاح ضد بكتيريا  (الإى كولاي)، وهذه اللقاحات تتم تجربتها فى التجارب ما قبل السريرية، قبل أن يتم نقلها لمرحلة التجارب السريرية. 


وماذا عن التقنية التى تستخدموها فى تطوير اللقاحات؟


نعتمد على تقنية تستخدم أحد بروتينات البكتيريا، لحقنها فى جسم الانسان، بدلا من التقنية المستخدمة منذ فترة طويلة والتى تعتمد على البكتيريا بعد إضعافها.


يبدو أن تقنيتكم لتوصيل البروتين مختلفة عن التقنيات المستخدمة فى لقاحات كورونا، والتى تعمل على توصيل بروتين فيروس كورونا (سبايك) بطرق مختلفة؟

بالضبط، توجد أكثر من طريقة لتوصيل البروتين، وهدفها  هو ان يتعرف جهاز المناعة على البروتين لتكوين أجسام مضادة للفيروس.


مستقبل وباء «كوفيد-19»


وهل تعتقد أن الوباء فى طريقه للانحسار؟


بثقة تبدو واضحة فى نبرة صوته يقول: سوف ينتهى لا محالة، فالبشرية واجهت أوبئة أكثر فتكا ، وانتهت مثل وباء الطاعون، والإنفلونزا الإسبانية التى قتلت 50 مليون شخص، وحدث ذلك ولم يكن هناك تقدم مثل الحادث الآن فى تطوير اللقاحات.


ولكن اللقاحات أصبحت غير فعالة بنسبة كبيرة أما التحورات الجديدة للفيروس، مثل تحور «دلتا»؟


اللقاحات وإن كانت فقدت نسبة كبيرة من فعاليتها فى منع العدوى، إلا أنها فعالة بنسبة تتعدى الـ80 % فى منع الإصابة الشديدة التى تؤدى لدخول المستشفى وقد تتسبب فى الوفاة، والدليل على ذلك ما نلحظه من انخفاض واضح فى عدد الوفيات. 


ولكن هناك من الباحثين من يتوقع أن يكون هذا الفيروس موسميا مثل الإنفلونزا؟


من السابق لأوانه التنبؤ بموسمية الفيروس، ولكنه يظل احتمالًا قائمًا ، لأن بعض الفيروسات التى تسبب نزلات البرد الخفيفة تنتمى لعائلة الفيروس الجديد، وفى المقابل،  اختفت فيروسات أخرى تنتمى أيضا لنفس العائلة مثل فيروس السارس ، وكذلك فيروس الميرس الذى أصبحت حالات الاصابة به نادرة جدا.
لم تعطنى إجابة قاطعة..


يبتسم قائلا: انا مؤمن بأن هندسة الطبيعة ستقول كلمتها، فالفيروس خرج علينا بشكل طبيعي، وقد ينتهى أيضا بشكل طبيعي، وما نفعله هو مجرد تنبؤات واستعدادات، وسأعطيك مثالا على ذلك، فمصل الإنفلونزا الموسمى يتم إعداده بناء على توقع بأن سلالة معينة ستكون السائدة هذا الموسم، وقد تأتى التوقعات صحيحة أو خاطئة.


الاستعداد للوباء القادم


بما أننا نعيش أجواء جائحة «كوفيد -19» التى علمتنا أهمية الاستعداد لمواجهة الأوبئة، كيف نستعد لوباء مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية؟


يطلق تنهيدة عميقة قبل أن يقول: نستعد بأن تكون هناك حملات توعية تؤكد على ضرورة عدم الاسراف فى استخدام المضادات الحيوية، فمثلا من الشائع استخدام المضادات الحيوية فى علاج الإنفلونزا، مع أن المضادات الحيوية تتعامل مع بكتيريا، والإنفلونزا فيروس، كما يستخدم البعض المضادات الحيوية فى الإنتاح الحيواني، بزعم أنها تساعد فى زيادة حجم الحيوانات. 


ومن الاستعدادات أيضا لمواجهة هذا الوباء، أن نكون جاهزين بلقاحات تتعامل مع هذه البكتيريا.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة