د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


يوميات الأخبار

مقومات الحياة الحقيقية

الأخبار

الخميس، 23 سبتمبر 2021 - 06:30 م

قربت أو بعدت بما فيها من فراغ تحسبه فراغا، وهو فى الحقيقة رحمة ومودة، وبر، وتعاون على البر والتقوى، لا بغضاء ولاحقد ولا حسد، ولا منابذة بالألقاب، ولا عنف ولا قسوة.

المال


من الحكمة التى نطق بها فقهاء المسلمين: إذا ذهب مال المرء ذهب عقله، وحكى ابن عبد البر أن سفيان الثورى وقف عند بائع مشمش، وأعطاه درهما ليشترى به مشمشا، فأتاه مستفتٍ، واستأذنه فى أن يطرح عليه مسألته فقال له: كيف أفتيك يا أخى، ألا ترى عقلى ذهب مع درهمى، مع أنه ذهب ليأتيه بلغة الفقهاء ما يقابله من مشمش، أى عوضه، فلم يذهب درهمه هباء، ومع هذا قال ما قال، فما بالنا بمن سرق درهمه، أو بمن اغتصبت أرضه، أو بمن نهك عرضه، أو بمن ضاع وطنه بالكلية، أى عقل قد بقى فى رأسه! وقد رأينا رجلا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب دينا له عليه، وما استدان النبى  صلى الله عليه وسلم لنفسه أبدا، وإنما كان يستدين للمساكين ليطعمهم، وأغلظ الرجل فى القول، حتى أوجد «أى حزن» لذلك الصحابة الأخيار، فلما قضاه له النبى صلى الله عليه وسلم، أذهب حزن صحابته بقوله لهم: إن لصاحب الحق مقالا، أى التمسوا له العذر فى انفعاله، وفحش لفظه؛ لأن له حقا يريد أن يسترده، ولطالما غابت هذه الحقيقة عن كثير من الناس فى زمن التحضر الزائف، والإنسانية المودرنية الإيتيكيتية، البعيدة كل البعد عن روح هذه المعانى، شكلا بلا مضمون، وعسلا بطعم المر، ومودة بلسان، وحبا بلا مقتضى، فهم يقولون: لا لا يصح، ما هكذا يكون الذوق، مهما يكن لك من حق فلا يصح أن تطلبه بهذه الطريقة، ومهما أساء إليك أحد من الناس يجب عليك أن تترفع عن مثل هذا، وهكذا من وابل العبارات الشياكة، التى لا يقدرون ما وراءها من مقتضيات، ونحن ندرس من مواضع حذف الخبر قول العرب: كل رجل وضيعته، أى متلازمان، والضيعة مال الرجل من أرض زراعية، وعقارات سكنية، وغيرها، وإنما سمى المال ضيعة؛ لأن فى ضياعه ضياعا لصاحبه، ومن ثم أجمع العلماء على أن المال قوام الحياة، فهو أول مقوم لها، به يأكل الإنسان ويشرب، ويستر عورته، ويسكن به، ويقضى حاجاته، ونحن كما قال الشاعر.


نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجات من عاش لا تنقضى


فما أكثر الحاجات، وفى محكم الآيات قول الله تعالى:» المال والبنون زينة الحياة الدنيا» وفى التفاسير: قدم ربنا المال على ( البنون)؛ لأنه سبب فى البنين، إذ به يتزوج الإنسان، ويرزقه الله بعد الزواج بالبنين، وما أكثر الآيات التى تحدثت عن المال فى القرآن الكريم، من حيث حل اكتسابه، واستثماره، ليزيد، وأوجه إنفاقه، والاعتدال فى هذا الإنفاق، والنهى عن أكله بالباطل، وتحريم الربا فيه، لما فيه من سحت:»يمحق الله الربا»، فالمال قوام الحياة، ولا يغرنك استهانة كثير من الناس به، وأنه لا شيء، ولا يهمهم إذا تقدم لابنتهم من لا يملكه، ويقولون: المهم عندنا هو الخلق، ولا خلق مع العدم، واسأل هؤلاء الذين يزدرون بالمال ومن جمعه: ألا يكتبوا قائمة منقولات بعشرات الألوف، وألا يطلبوا ويطلبوا ويطلبوا، أليس هذا الذى يفعلون مالا! واسألهم: هل هم عازمون على أن يسلموا بنتهم للجوع والتعرى، والمرض دون علاج؟ مثلهم كمثل رجل قال لصاحبه: أنا لا أطلب منك الكثير من المال، وإنما أريد شيئا يسيرا، ثم يطلب ذلك الشيء الذى يراه يسرا، فيبدو كثيرا جدا، وكأن ما ذكره فى مقدمته توطئة لما يطلب، حتى لا يقول له صاحبه: هذا كثير جدا، ولو صدقوا الله لكان خيرا لهم.


الصحة


والصحة من مقومات الحياة الحقيقية، بها يقام مع المال الدين، والشباب بلا شك موطن تلك الصحة، ومن ثم خاطبهم النبى صلى الله عليه وسلم بقوله: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» حفاظا عليهم من اللهو والعبث، والمرض الناتج عن الفاحشة، وصونا لفروجهم، وسكنا لنفوسهم، وانطلاقا منه إلى المسئولية المنوطة بالأزواج من السعى من أجل الإنفاق على الزوجات والذرية، وقد ورد فى تفسير قول الله تعالى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون»  أنها فى الشباب الذين يعملون الصالحات، ثم يصيبهم الكبر والعجز، فلا يستطيعون القيام بتلك الأعمال الصالحة التى كانوا يعملونها فى تمام صحتهم، وعافيتهم، يقول الله تعالى لملائكته: اكتبوا لهم ما كانوا يعملون، أى لا ينقطع أجرهم بسبب ضعفهم الذى حال دون قيامهم بتلك الأعمال، وهذا حافز عظيم للشباب أن يقوموا بالأعمال الصالحة فى قوتهم، وتمام عافيتهم التى لا ينالونها إلا بالحفاظ على صحتهم، وبعدهم عما يدمرها من التدخين والمخدرات، وطول السهر، وضياع الوقت النفيس الذى هو عمرهم، والبعد عن رفاق السوء الذين يجرونهم إلى تلك المخاطر بأساليب ناعمة، وعند وقوعهم فيها يتخلون عنهم، وكأنهم ما صادقوهم يوما، وما عرفوهم ساعة من زمان، كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إنى بريء منك إنى أخاف الله رب العالمين ، قال الله عز وجل فى عاقبة ذلك الإنسان، وعاقبة الشيطان الذى أغواه:» فكان عاقبتهما أنهما فى النار خالدين فيها» والصحة إنما كانت من مقومات الحياة لأسباب، أهمها أنها سبب فى سعى الإنسان وحصوله على رزقه، وتحركه من مكان إلى مكان، وشعوره بجمال الحياة التى خلقها الله عز وجل جنة، فالصحة تعنى سلامة الحواس من عين ترى ما فى الكون من جنات وعيون، وأذن تسمع من يخاطب، وما يشدو ويترنم، فيستعذب، ومن يشكو ويتألم، فيعطف، ويرحم، وفى ذلك ثواب عظيم عند الله تعالى، واليقين بهذا الثواب العظيم يعطى الحياة معنى وقيمة، فينبت اليبس، ويزداد الأخضر خضرة وجمالا، وينبت الأمل على صخرة الحياة الصلبة اليائسة، حيث لا تخلو الحياة وإن صفت من آلام وأوجاع، ومن جلد يحس الحرارة والبرودة، ومن لسان  إذا صح فرق بين الحلو والمر، ومن قدرة على التفاعل مع معطيات الحياة التى وهبنا الله سبحانه وتعالى إياها، والله تعالى أمرنا أن نقيم الدين، فالدين قائم غير قاعد ولا نائم، ولكى نقيم الدين علينا أن نقوم أصحاء بما يمليه علينا مقتضى قيامه من تشييد الأبنية والعمران، ومن زراعة الأرض الجرداء، ومن شق الأنهار وعيون الماء، ومن نجدة الضعفاء، ورحمة البؤساء، ومقاومة الأعداء، وتحقيق الرخاء، ولن يقوم بذلك كله إلا الأصحاء، والمرضى أهل أعذار خفف الله عنهم، فشرع لهم الرخص، فهم لا يصومون، ولا يخرجون لقتال، ولكن عليهم وقد ضعفت أبدانهم، حتى عن القيام فى الصلاة، وهو ركن من أركانها للقادر عليه، عليهم فى حال ضعفهم، والعفو عنهم أن ينصحوا الأقوياء، ويشجعونهم على المضى فى سبل الخير والإصلاح، والعفو عنهم مشروط بقول الله تعالى فى سورة التوبة «إذا نصحوا لله ورسوله» فمن المرضى من يدعو الأصحاء إلى التمارض، حتى ينام المجتمع كله، فلا أحد يقدر على عمل أى شيء نافع، وكأنهم يرون أن حياتهم بالعلل والأمراض المزمنة قد انتهت، وهم لا يريدون لغيرهم أن تقوم لهم حياة بغضا وحقدا وسوادا ، كالذى قال من قديم.


إذا مت ظمآنا... فلا نزل القطر


أى إذا مت أنا على ظمأ فالله أسأل ألا ينزل مطرا من السماء، بمائه يحيا الناس والشجر والدواب، كأنه يريد أن يقول: اللهم إن هلكت فأهلك معى كل حى، بخلاف دين الله الذى يوصى المشرف على الموت ألا يضر بورثته، فيضيع ماله، ويتركهم عالة يسألون الناس، والذى أمر فيه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن يغرس من بيده فسيلة والساعة تقوم أن يغرسها، فلا أنانية فى هذا الدين كالتى يراها من تمنى عدم نزول القطر إذا مات هو على ظمأ، فهو يرى للحياة مسوغا متى كان حيا، ولا يرى لها من مسوغ إذا هلك، ولقيمة الصحة، وكونها من مقومات الحياة أمر الدين بالتداوى إذا ما علة عرضت، فقال عليه الصلاة والسلام : تداووا عباد الله، فإن الله لم ينزل داء إلا وأنزل معه الدواء، وقال خليل الله إبراهيم عليه السلام: «وإذا مرضت فهو يشفين» .


الماء الذى يروى


وإذا كان الحق تبارك وتعالى يقول:» وجعلنا من الماء كل شيء حى» فإن الماء الذى هو سبب الحياة لكل حى ليس فقط هو الماء الجارى الذى أنزله الله من المزن، وإنما يعبر بالماء عن كل مقوم من مقومات الحياة، فمنه ماء العافية، الذى يسرى فى الأبدان، ومنه المال، ألا ترى إلى قوله تعالى:» وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا» ، أى أنعم الله على المستقيمن على دينه، السالكين صراطه المستقيم بكل خير من مال وبنين، وجنات وأنهار، ونعمة يكونون فيها فاكهين، وزروع ومقام كريم، وعبر عن ذلك كله بالماء، ومن الماء المودة والرحمة التى تكون بين الناس جميعا خصوصا الأزواج :» ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة» ويقول عز من قائل:» محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم» فالبينية بين المؤمنين، كالبينية بين الأزواج أى المسافة المكانية، قربت أو بعدت بما فيها من فراغ تحسبه فراغا، وهو فى الحقيقة رحمة ومودة، وبر، وتعاون على البر والتقوى، لا بغضاء ولا حقد ولا حسد، ولا منابذة بالألقاب، ولا عنف ولا قسوة، وكذلك البينية الوجدانية التى معناها ما يشعر به كل طرف نحو الآخر، لا يحمل له فى قلبه غير الصفاء، وحب الخير يأتيه منه، أو يأتيه من غيره، ولذا جعل النبى صلى الله عليه وسلم حب الخير للإخوة شرط تحقق الإيمان الكامل، فقال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» وقد تتوافر مقومات الحياة لدى إنسان، فإذا به صاحب مال وفير لكن يرى عيون الناظرين إليه تحسده عليه  وتتمنى نفوسهم زواله، وانتقاله إليهم، أو ذهابه فى داهية، فالمهم عند الحاسد أن يرى محسوده غير ذى نعمة، وكما يحسده الناس على ماله يحسدونه كذلك على عافيته، وتمام صحته، فهم كما يريدونه فقيرا معدما يريدونه كذلك مريضا ضعيفا لا يقوى على حركة، ولا يرتاح إلى سكون، والحاسد لا يضر بالمحسود، وإنما يضر بنفسه، وقد قال تعالى: «ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها» نفى جنس الممسك لرحمته إذا فتح بها عليهم، فلا حاسد، ولا مبغض، ولا مريدا السطو عليها بسلاح متى كان صاحبها متوغلا فى فقه دينه يدافع عن رحمة الله التى آتاه، ويموت دونها إذا دعا الأمر إلى ذلك، فمن قتل دون ماله فهو شهيد، نعم تنغص مقومات الحياة بعدم توافر الماء الذى لا يروى، والماء الذى لا يروى عنوان كتاب لى نشرته منذ عشرة أعوام، وأعنى به كل من له حق عند غيره كالوالدين والأرحام والجيران، والأصدقاء والزملاء، وغيرهم ثم لا يناله منهم كما هو حال كثير منا، ماء لا يروى يؤدى حتما إلى الموت، فإن لم يأت الموت كانت حياة بلا حياة.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة