وضاعت ملامح الريف التي عشتها في الماضي وتحول إلي مدينة بلا ملامح يملؤها التلوث وفقدان الهوية.. رحمة الله علي قريتي..!

الحمد لله.. كتب لي أن أعيش في الريف حتي الثانوية العامة في اوائل السبعينيات من القرن الماضي.. بعدها انتقلت إلي القاهرة للالتحاق بكلية الإعلام عام ١٩٧٤ مفضلها علي كليات الهندسة.. لحبي في العمل بالصحافة.. وبين الوقت والآخر أسترجع السنوات التي عشتها في قريتي ميت حمل −بلبيس− شرقية وأحاول المقارنة بين هذه السنوات والآن.. أجدها مختلفة تماما.. فلم تعد القرية كما كانت.. كان جمال الطبيعة أخَّاذا لم يكن هناك تلوث. ولم تكن هناك أكياس بلاستيك.. كانت ورقية.. وكان منظر المياه في الترع والمصارف جميلا.. حتي يخيل لك انه امكانية مشاهدة أسماك البلطي وهي تلهو في المياه.. أتذكر وأنا في المرحلة الابتدائية كنت أعمل في المقاومة اليدوية لدودة القطن بمكافأة ٦ قروش يوميا.. وفي نهاية المدة التي تبلغ عشرة أيام تكون المكافأة ٦٠ قرشا..أدخر منها ٥٠ قرشا لشراء ملابس المدرسة.. وأذهب إلي السينما والغذاء خارج المنزل بـ ١٠ قروش.. وكنت بين الوقت والآخر أساعد أخوتي في الزراعة.. أو في جني القطن وزراعة الأرز وحصده وركوب الجمل الذي كان وجوده مهما جدا بالنسبة للفلاح.. لأنه كان مثل السيارة الآن.. والدي.. رحمة الله عليه يستيقظ لصلاة الفجر ثم يمر علي أرضنا القليلة ويعطي رأيه لأخوتي هذه القطعة تحتاج لري والأخري إلي سماد والثالثة إلي تنظيفها من الحشائش.. ويأتي ببعض من الخضار لتناول الإفطار معا قبل الذهاب إلي المدرسة وكان لايخلو من بيض بلدي وقشطة وبعض الجبن.. خصوصا في فصل الشتاء.. وعندما وصلت إلي المرحلة الثانوية.. مصروفي اليومي كان لا يتعدي قرشين.. قرش اشتري به ساندوتش طعمية والآخر أقرأ به الصحف عند البائع أو أركب به سيارة كارو من البلدة إلي المدرسة.. وكان سعر كيلو اللحم ٥٠ قرشا أما البيض فالواحدة بقرش صاغ.. هكذا كانت الحياة سهلة بعيدة عن التعقيدات.. بعيدة عن التلوث.. كان الفلاح يستخدم المتاح له في استخدامه اليومي لم نعرف السحابة السوداء التي تضرب البلاد حاليا عند حصاد الأرز.. فكان يستخدم في إعداد الطعام لأنه لم يكن هناك بوتاجاز أو كهرباء فكنا ننام ونذاكر علي لمبة الجاز.. وكان الفلاح ينام بعد صلاة العشاء ويستيقظ قبل الفجر.. لأنه لم يكن هناك تليفزيون أو قهاوي يسهر أمامها حتي الصباح.. وعندما يأتي موسم جني القطن.. تكثر الأفراح.. فكل فلاح يؤجل زواج أولاده لما بعد الحصاد فقد كان الانتاج وفيرا.. عشت في قريتي حتي سن الـ١٨.

والآن وقد تخطيت الستين ورغم مرور أربعين عاما وأنا بعيد عن قريتي.. مازالت في الذاكرة لم تغب عني علي الإطلاق.. أتذكر تفاصيلها بدقة ولكن عندما أسافر إليها الآن.. أشعر بالغربة.. الوجوه تغيرت.. المباني اختلفت.. لم تعد كما كانت.. التلوث سيطر علي كل شئ وتغلبت المدينة علي القرية.. فبعدما كانت القرية تمد المدينة بكل احتياجاتها.. انقلب الوضع وأصبح اعتماد القرية كليا علي المدينة بدءا من رغيف الخبز وحتي الخضراوات والفاكهة.. أصبح الشباب حبيس القهاوي التي انتشرت مثل التوك توك.. وأصبح السهر فيها حتي الصباح من الأمور الطبيعية.. انصرف الجميع عن زراعة الأرض.. وأصبح العثور علي من يعمل بالفلاحة من الأمور الصعبة.. سافر الكثير من الشباب للعمل بدول الخليج ويابخت من سافر إلي إيطاليا.. لقد تغيرت الحياة.. لم يعد المنزل مبنيا بالطوب اللبن.. بل أصبحت العمارات تناطح عمارات القاهرة.. وضاعت ملامح الريف التي عشتها في الماضي وتحول إلي مدينة بلا ملامح يملؤها التلوث وفقدان الهوية.. رحمة الله علي قريتي..!