ياسر رزق
ياسر رزق


ورقة وقلم

المشير طنطاوى الذى عرفته

ياسر رزق

السبت، 25 سبتمبر 2021 - 06:51 م

أحيانا.. تتداعى من عمق الذاكرة مشاهد بظلالها وألوانها، بعضها آت من بعيد وبعضها مُقبل من قريب، تحاول أن ترتبها زمنياً فى ذهنك، لكنها تستعصى عليك، كأنها أوراق متناثرة على طاولة العمر. ثم تتركها لحالها، تلتقط منها ورقة فأخرى، لارابط بينها سوى المعنى والشخصيات. تطالعها بحنين وإعزاز وتشتم فيها عطرا أثيراً لا يزول، بل يشتد عبقه كلما أوغل به الزمن.

 


وأحياناً.. تظن أنك تعرف إنساناً حق المعرفة، وتحسب أنك أسكنته فى نفسك المنزلة التى يستحقها. ثم حين يرحل تكتشف حجم الفقدان وقدر الخسارة، وتجد أنهما فوق ما كنت تعتقد بكثير..!


من تلك الأحيان، لحظة أن استيقظت على نبأ رحيل المشير حسين طنطاوى، الذى عرفته وتعرفت عليه منذ ٣٣ عاماً مضت، حين خطوت خطوتى الأولى كمحرر عسكرى مستجد فى هذه الجريدة.


< < <


آخر مرة رأيت فيها المشير حسين طنطاوى، كانت منذ عام تقريباً، فى واحدة من مناسبات رئاسية عديدة، حرص الرئيس عبدالفتاح السيسى أن يدعوه إليها، وأن يكون على يمينه فى جلسته، ليس فقط لأنه رئيس سابق للمجلس الأعلى للقوات المسلحة فى مرحلة فارقة من تاريخ مصر، وليس فقط لاعتبارات بروتوكولية تضعه فى هذه المرتبة التالية لرئيس الجمهورية بوصفه يحمل أرفع وسام مصرى، وليس فقط لأن هذا الرئيس -على حد قوله- يعتبره أباً وقائداً ومعلماً وقدوة، إنما لأنه يعلم قبل كل الناس، ويعرف أكثر من الجميع، كم أعطى الرجل لبلاده، وكم ضحى فى سبيلها على مدار ٥٦ عاماً وهو يرتدى زى المقاتل، وكم تحمل من أعباء تنوء بها الجبال من أجل إنقاذ سفينة الوطن، فى خضم أمواج عاتية، وفى قلب دوامات مغرقة، وكيف استطاع بصبر وحنكة وشجاعة، أن يرسو بها، غير هياب ولا عابئ ولا مبالٍ، بما يتقول عليه أعداء وخصوم، وآخرون من دونهم ارتجت عليهم الحقائق تحت قصف الأكاذيب..!
كان المشير طنطاوى يحرص أيضاً على حضور تلك المناسبات، وكنت ألمس فيه مرة بعد أخرى، مشاعر زهو أب فخور بابنه وهو يراه على العهد فى حمل الأمانة، وعلى قدر الثقة فى تحمل المسئولية.


فى ذلك اليوم.. انحنيت على رأس المشير طنطاوى ألثمه فى إعزاز، وفى حرص على ألا ينهض لمصافحتى، فقد كنت أعلم أن صحته لا تطاوعه.. لكنه قام من مقعده، فقد تغلب تواضعه الشخصى الممزوج بعناد المقاتل على آلام ظهره، ووقف كعادته يشد على يدى فى مودة أعرفها، وتغلبت علىّ نوازعى التى لا استطيع قمعها كصحفى، وهمست فى أذنه أحدد مطلباً سبق أن ألححت فيه، بأن ألتقى معه، فى حوارات مطولة، أدقق فيها معلومات، واستكمل فيها تفاصيل أحداث ومواقف سمعتها منه أو عرفتها من أقرب المقربين إليه، لأسجلها للتاريخ.


وكالعادة.. رد بابتسامة يقول فيها: إنك تعلم أننى لن أتحدث، لكنى أعدك بأننى لو تحدثت فسوف يكون معك..!


كنت أعرف أن المشير طنطاوى سيظل صندوقاً مغلقاً، واكتفيت بما سبق أن عرفت وسمعت وشاهدت رأى العين..!


< < <


أول لقاء لى مع المشير طنطاوى كان فى عام ١٩٨٨، أى منذ ٣٣ عاماً.


يومها.. كان يسلم قيادة الجيش الثانى الميدانى إلى اللواء أحمد وهدان القائد الجديد.


لم يبد لى اللواء حسين طنطاوى حينئذ سعيداً بمنصبه الجديد كقائد للحرس الجمهورى، وأن يفارق الجيش الثانى، الذى حارب فى صفوفه قائدا للكتيبة ١٦ فى اللواء ١٦ فى الفرقة ١٦، أثناء معارك أكتوبر وأبدى خلالها صلابة وجسارة استبسالاً فى معركة المزرعة الصينية، التى نال عنها نوط الشجاعة.


فيما بعد، علمت من رفيق سلاحه اللواء محمد على بلال الذى كان فى ذلك الحين رئيساً لهيئة التفتيش، أن صديقه اللواء طنطاوى فكر فى الاستقالة ظناً منه بأن تعيينه فى المنصب الجديد ربما يكون فيه تغيير لمسار كان يطمح إليه. لكن اللواء بلال قال له -مثلما روى لى- إن تعيينه كقائد للحرس الجمهورى يعكس ثقة كاملة من رئيس الجمهورية فى شخصه، ولعله ينتوى تصعيده قريباً إلى منصب رئيس هيئة العمليات رفيع الشأن.


وفعلاً كان هذا ما جرى بعد شهور.


فى إعقاب حرب الخليج الأولى، حضرت مؤتمراً صحفياً للجنرال نورمان شوارتسكوف قائد قوات التحالف، أثنى فيه على دور وكفاءة «الجنرال طنطاوى» فى التخطيط للعمليات. وظن بعض الصحفيين ان شوارتسكوف يقصد الجنرال هتلر طنطاوى أمين عام وزارة الدفاع فى ذلك الوقت بحسبان أن اسمه بحكم وظيفته كان معروفاً لهم، بأكثرمن اسم اللواء حسين طنطاوى الذى يشغل منصباً ممنوع الاقتراب منه إعلامياً..!


فى غضون أشهر معدودة.. رقى اللواء طنطاوى إلى رتبة الفريق، ثم عين وزيراً للدفاع فى مايو عام ١٩٩١، خلفاً للفريق أول يوسف صبرى أبوطالب.
كان القائد العام الجديد للقوات المسلحة معروفاً عنه الصرامة والشدة وتقديس الانضباط، وظل هو السياج الذى يقى الجيش المصرى من تقلبات السياسة وطموحات المغامرين وعواصف الأحداث..!


كان شاغله هو رفع الكفاءة القتالية للقوات المسلحة والوصول بالمقاتلين إلى أعلى مستويات الاحتراف.


وعشت ذلك وزملائى عن قرب خلال المشروعات التدريبية والمناورات، فقد كان حريصاً كل الحرص على حضور المحررين العسكريين كل الأنشطة التى يمكن السماح بتغطيتها، حتى يعرفوا عن قرب قواتهم المسلحة، وينقلوا هذه المعرفة إلى جموع الشعب.


كان المشير طنطاوى أول من سمح بتشجيع من اللواء سمير فرج أشهر مدير لإدارة الشئون المعنوية، بالتحاق المحررين العسكريين بأكاديمية ناصر العسكرية العليا للحصول على درجة الزمالة من كلية الدفاع الوطنى، وكان حظى أن أكون من بين أول ثلاثة من المحررين العسكريين ألتحقوا بالأكاديمية، استثناءً من شرط السن، قبل ٢٥ عاماً مضت.


دروس حرب أكتوبر، ودروس حرب الخليج الأولى وما أعقبها، كانت هى أهم ما يركز عليه المشير طنطاوى فى لقاءاته مع شباب الضباط وصغار القادة، فى الجيوش والمناطق العسكرية، أو فى تعليقاته بعد المناورات. وكان أكثر ما يركز عليه هو اتقان التكتيكات الصغرى التى تعنى فى مجملها نجاح التشكيلات التعبوية فى تحقيق مهامها أثناء العمليات، وإجادة القتال فى المعركة العميقة، وحسن إدارة معركة الأسلحة المشتركة الحديثة.


وبرغم الجدية التى كان يتحلى بها المشير طنطاوى والصرامة التى تبدو على ملامحه، فلم يستطع فى مناسبات كثيرة أن يخفى صفات كريمة لصيقة بشخصيته أهمها الرحمة والتواضع..!


برزت مقدرة المشير طنطاوى العسكرية، فى أكبر مناورة تجريها القوات المسلحة منذ حرب أكتوبر، وهى المناورة «بدر- ٩٣»، التى تكررت بعد ٣ سنوات فى المناورة «بدر-٩٦»، وأظهرت المناورتان قدرة القوات المسلحة على خوض أعمال قتال على الاتجاهات الاستراتيجية الأربعة، ومقدرة القادة وعلى رأسهم القائد العام المشير طنطاوى على التخطيط وإدارة العمليات على كل الاتجاهات فى نفس الوقت.


وربما كانت النتائج المبهرة للمناورة «بدر-٩٣»، هى السبب الرئيسى فى ترقية الفريق أول طنطاوى إلى رتبة المشير فى أعقاب إجراء المناورة «بدر» عام ١٩٩٣.


< < <


كنت ألحظ كمحرر عسكرى ومحرر لشئون الرئاسة، التقدير الذى يكنه الرئيس الأسبق الراحل حسنى مبارك للمشير طنطاوى، وقد عبر عنه فى مناسبات عديدة. وكنت ألمس الإعزاز الذى يكنه المشير للرئيس الراحل، والعرفان لدوره فى نصر أكتوبر كقائد للقوات الجوية.


لكن إخلاص المشير للرئيس، لم يكن يرتقى أبداً عنده كمقاتل شريف وكرمز للعسكرية المصرية إلى مرتبة ولائه المطلق للشعب صاحب السيادة..!


حل العقد الأول من هذا الألفية.. وجرت بين ضفاف النيل مياه كثيرة، تبدلت معها أحوال وتصاعدت مطامح شخوص وأطماع مجموعات..!


كانت أحاديث توريث السلطة من الأب الرئيس لنجله -ولو على غير رغبة  الرجل- تتردد فى خفوت، ثم أخذت تعلو فى العلن وتثار على صفحات الصحف، وتنشأ بسببها حركات احتجاجية تناهض التوريث.


وبعدما فُجع الرئيس الأسبق فى رحيل حفيده عام ٢٠٠٩، اقتادته الصدمة إلى الزهد فى القبض على خيوط الحكم، وبدا من أمور كثيرة أن مشروع التوريث يندفع نحو مسار مرسوم..!


فى تلك الأجواء، حرص المشير طنطاوى على أن يجد مناسبات عسكرية يدعو إليها الرئيس، ليقول له ومعه القادة: ؛ أننا لا نريد غيرك».


وكان فى ذلك إشارة لكل لبيب..!


وفى أحد الأيام.. ذهب المشير طنطاوى ومعه اللواء عمر سليمان رئيس المخابرات العامة فى ذلك الحين، إلى الرئيس مبارك، وفاتحاه فى شأن ما يتردد عن توريث الحكم، وألمح المشير إلى مدى خطورة ذلك، وأن الشعب لن يقبله ولا القوات المسلحة. استمع إليهما الرئيس على مضض، ونفى أن يكون هذا الموضوع يجرى فى خاطره..!


لكن الشواهد على الأرض كانت تقول بغير ذلك.


< < <


فى مجلس الوزراء، كانت أشياء كثيرة تجرى فى ذلك الحين، لا تجد هوى لدى المشير طنطاوى بل تلقى صداً فى نفسه وفى نفوس المؤسسة العسكرية.
وفى إحدى الجلسات، انتفض المشير غضباً من قرارات وخطط للتصرف فى أرض الدولة، رآها تمثل إهداراً للمال العام.


وعلمت من الدكتور سيد مشعل وزير الدولة للإنتاج الحربى وكان من أقرب المقربين للمشير أن طنطاوى غضب بشدة قائلاً: «إن القوات المسلحة روت أرض مصر بدماء رجالها، ولن تقبل أن تبدد تلك الأرض سدى»..!


وفى جلسة أخرى.. فاض الكيل بالمشير -كما روى لى الدكتور مشعل- وهو يستمع إلى خطة لبيع أحد البنوك الوطنية تدعمها «جبهة التوريث، داخل مجلس الوزراء، وتصدى لهم المشير قائلاً: «إنتم هتودوا البلد فى داهية»..!


< < <


قبيل انفجار ثورة ٢٥ يناير بتسعة أشهر.. تلقى المشير طنطاوى أخطر تقدير للموقف السياسى الداخلى فى البلاد من اللواء عبدالفتاح السيسى مدير إدارة المخابرات الحربية.


كان تقدير الموقف، يتوقع انتفاضة شعبية فى ربيع العام المقبل ٢٠١١، غضباً من تردى الأحوال المعيشية، وزواج السلطة بالثروة، ومن مشروع التوريث، وكان يرجح أن تحدث الانتفاضة فى شهر مايو مع حلول عيد ميلاد الرئيس الثالث والثمانين واحتمال تنازله عن السلطة، ومن ثم إطلاق مشروع التوريث.
كان رأى السيسى واتفق معه طنطاوى أن هذا السيناريو المتوقع لو حدث، فإن الجيش حين ينزل للحفاظ على أمن البلاد، فإنه لن يطلق رصاصة واحدة على المتظاهرين.


لكن الانتفاضة انفجرت فى شهر يناير قبل أربعة أشهر من الموعد المتوقع، بسبب التزوير الفاجر غير المسبوق فى الانتخابات البرلمانية، وأصداء ثورة الياسمين فى تونس التى أطاحت بالرئيس زين العابدين، على حالة الغليان فى الشارع المصرى..!


< < <


فى الأول من فبراير عام ٢٠١١، أى بعد ستة أيام من انفجار غضبة الشعب، أصدر المشير حسين طنطاوى بياناً على مسئوليته باسم القيادة العامة للقوات المسلحة يعلن تفهم الجيش لمطالب الشعب المشروعة، وأنه لم ولن يطلق رصاصة واحدة على المتظاهرين.


لم يذع البيان فى وسائل الإعلام إلا مرة واحدة فقط، لكنه كان يحمل ضوءًا أخضر للجماهير، وضوءًا أحمر للسلطة.


مضت أيام الثورة فى ميدان التحرير وميادين عواصم المحافظات، وسط تعليمات مشددة من المشير طنطاوى بحماية المتظاهرين السلميين.


وتصاعدت الأحداث بسرعة على نحو ما هو معروف، وتمحورت مطالب الجماهير حول هدف وحيد هو رحيل الرئيس مبارك عن السلطة، وبدا أن الأوضاع فى البلاد تندفع نحو حافة الفوضى.


حينئذ، دعا المشير طنطاوى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى الانعقاد ليل ٩ فبراير، وصدر البيان الأول للمجلس فى الصباح التالى، الذى أيقن معه المتابعون أن الجيش أفصح عن انحيازه التام لمطالب الشعب، وأن النظام قد سقط فعلياً..!


حزمت الجماهير أمرها على التوجه إلى قصر «الاتحادية» لحصاره وإجبار الرئيس على ترك السلطة، وهنا أمر المشير طنطاوى قوات الحرس الجمهورى وهى أحد تشكيلات القوات المسلحة بنزع إبر ضرب النار من البنادق، حتى لا تراق أى قطرة دم.


فى نفس الوقت، قدم طنطاوى النصح للرئيس بالسفر إلى شرم الشيخ، ملمحاً إلى مطلب الجماهير التى لا ترضى بغيره بديلاً.


وإثر تلك الضغوط، اضطر مبارك إلى التنحى عن السلطة، لكنه بدل أن يتركها لنائبه -فى ذلك الحين-عمر سليمان، أو إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا كما كان يأمل طنطاوى، قرر تكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد.


كان المشير طنطاوى عسكرياً منضبطاً زاهداً فى أى سلطة سياسية، وكان يدرك مدى سوء الأوضاع التى تردت إليها البلاد.


لذلك قال للقادة بعد صدور قرار التكليف للمجلس الأعلى: «إن مبارك ألقى فى حجرى جمرة مشتعلة»..!


< < <


على مدار ١٨ شهراً أمضاها المجلس الأعلى فى السلطة، تحمل المشير طنطاوى بكل شرف وصبر وحرص على كيان دولة تداعت مؤسساتها، وتكالبت على هدمها جماعة الإخوان ومغامرون وفوضويون، وسط مساع حثيثة من قوى كبرى لتفكيك الدولة المصرية فى إطار مخطط لرسم خريطة جديدة للمنطقة تحت ستر ما يسمى بـ«الربيع العربى».


فى قلب الأعاصير السياسية التى ضربت البلاد على مدار عام ونصف العام، كان المشير طنطاوى رمزاً للعسكرية المصرية التى لا تتوانى عن حماية البلاد ومصالح الشعب وإنقاذ الدولة، ولم يلتفت إلى صغائر من صغار ، ولا إلى دعايات من قوى هدامة، ولا إلى إساءات ومحاولات للاغتيال المعنوى.
حرص المشير على الالتقاء بالقوى السياسية لتوحيد كلمتها، وأصر على ألا يترشح أى أحد من أعضاء المجلس الأعلى فى الانتخابات الرئاسية، وأوفى بالوعد الذى قطعه المجلس بإجراء الانتخابات البرلمانية ثم الانتخابات الرئاسية.


وكان فى مواقفه السياسية شريفاً مستقيماً كحد السيف.


فمثلما رفض أى تلميحات فى بواكير أيام ثورة يناير بالانقلاب على مبارك، رفض أيضاً أى اشارات بأن يوحى إلى اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، بإلغاء نتائج الانتخابات التى أتت بمرشح الإخوان، برغم أن موقفه التاريخى من تلك الجماعة الخارجة على الوطنية المصرية معلن ومعروف.


كان الرد القاطع للمشير طنطاوى إن ذلك أمر مرفوض لا أقبله أبداً ويتنافى مع شرفى العسكرى.


وعلى غير ما يشاع، فإن المشير طنطاوى لم يعلم بنتيجة الانتخابات إلا عبر شاشة التليفزيون، والتزم بتسليم السلطة إلى من أتت به نتائج فرز صناديق الانتخابات فى يوم ٣٠ يونيو ٢٠١٢.


< < <


أذكر أننى كتبت مقالاً هنا يوم ٨ يوليو ٢٠١٢ بعنوان «الجيش.. والرئيس.. والمشير»، دعوت فيه المشير طنطاوى إلى الترجل من منصبه، واختيار قائد عام ورئيس أركان من جيل جديد، وقلت: «إن مستقبل القيادة فى القوات المسلحة أكبر وأخطر من أن يتركها لغيره ودون أن يحسمها فى وجوده»..!


لم يغضب المشير من مقالى، على العكس كان ينوى فعلاً أن يترك منصبه وأن يجدد شباب القيادة، ويعرف كبار القادة أنه كان قد اختار اللواء أركان حرب عبدالفتاح السيسى لخلافته. لكن ثمة اعتبارات أرجأت قرار المشير طنطاوى بالترجل من منصبه فى ذلك التوقيت.


وفى يوم ١٢ أغسطس.. قرر مكتب الإرشاد ممثلاً فى مندوبه برئاسة الجمهورية الدكتور محمد مرسى إعفاء قيادة القوات المسلحة ممثلة فى المشير طنطاوى ورئيس الأركان وقادة الأفرع الثلاثة من مناصبهم.


استدعى اللواء عبدالفتاح السيسى إلى رئاسة الجمهورية للقاء الرئيس وظن أنه سينضم إلى اجتماع كان يعقده مرسى فعلاً مع القائد العام ورئيس الأركان ومساعد الوزير للشئون المالية، لكنه أبلغ بأن الاجتماع انتهى وانه سيؤدى اليمين وزيراً للدفاع، وعندما سأل عن المشير طنطاوى، قيل له بأنه هو الذى رشحه لخلافته.


عندما علم المشير طنطاوى بقرار إعفائه، رفض الاستجابة لمن أراد اقناعه بإدخال المجلس الأعلى لرفض القرار، قائلاً: إنه حريص على استقرار القوات المسلحة، ويعتبر أن دوره قد انتهى.


عاد الفريق أول السيسى من الرئاسة إلى مقر وزارة الدفاع، معتقداً أن المشير سبقه إلى هناك، وانتظر عودته، وحينما رجع المشير، علم منه السيسى أنه لم يكن يعلم بقرار تعيينه قائداً عاماً، فقال السيسى للمشير: سوف أتقدم باستقالتى حالاً.


كان رد طنطاوى للسيسى بالحرف الواحد: «أنت تعلم يا عبدالفتاح قدرك عندى وحجم اعتزازى بك. أنت ابنى «وحتة منى»، ولن نجد أفضل منك لقيادة القوات المسلحة».


واقع الأمر.. أن اعتبارات الشرعية تعطى لرئيس الجمهورية الحق فى اتخاذ قرارات كإعفاء القائد العام، لكن حقائق القوة لم تكن تمكنه من أن يختار بنفسه من يريد لخلافته. ولم يكن خافياً أن الجيش كان يريد السيسى.


على مدار الشهور التالية.. تصدى الفريق أول السيسى بحسم ضد أى محاولة من جانب الإخوان للإساءة إلى قادة القوات المسلحة السابقين وعلى رأسهم المشير طنطاوى، وكان يشعر بمرارة للأسلوب الذى خرج به المشير، فاطلق اسمه رغم أنف الإخوان على أهم محور يربط القاهرة الجديدة بأحياء القاهرة، وأنشأ باسمه واحداً من أكبر جوامع العاصمة.


< < <


جرت الأحداث فى البلاد على نحو ما هو معروف للكافة من تدهور وترد، حتى شارفت على السقوط فى هاوية حرب أهلية دفع إليها نظام حكم المرشد.
وكان أن انفجرت ثورة ٣٠ يونيو الكبرى، وما تلاها من وقائع.


اجتمعت إرادة الجماهير على توجيه النداء إلى الفريق أول عبدالفتاح السيسى للترشح لرئاسة الجمهورية.


وفى الأسبوع الثانى من يناير ٢٠١٤.. وأثناء احتفال السيسى بعقد قران وحيدته، تجمع حوله رفاق سلاح وأصدقاء مقربون يلحون عليه للاستجابة لنداء الشعب. ثم انتحى به قائد كبير سابق يحظى باحترامه وقال له أمام المشير طنطاوى: لم يعد الترشح خياراً بين بدائل، إنما هو ضرورة حتمية فى هذه الظروف من أجل الوطن.


وجاء رد المشير طنطاوى مؤيداً وقال للسيسى: «هذا القرار سليم ولا بديل عنه».


< < <


وورى جثمان المشير طنطاوى ثرى مصر التى عشقها، لكن سيرته لن تتوارى، فالقادة العظام لا يموتون.


وسوف تظل ذكراه العطرة حية فى وجدان جماهير هذا الشعب الوفى.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة