ولد وعاش موعودا بالعذاب.. كان الحرمان قدره الذي حاصره طفلا تربي في ملجأ.. وعندما مارس طفولته فلعب وسبح في الترعة في قريته الصغيرة أصيب بالبلهارسيا التي ظلت تؤذيه وتمرضه طوال حياته.. لكنه تغلب علي كل آلامه وعاش حياة ثرية حسده عليها الملايين.. إنه عبد الحليم حافظ الذي تحل اليوم ذكراه التاسعة والثلاثون ومازالت أغانيه حية بيننا ومازال صوته العذب الرخيم يطربنا حتي الأجيال الجديدة التي لم تعاصره مازالت تستمتع بإبداعه وينهل المطربون الشبان من معين فنه الذي لا ينضب.. عبد الحليم حكاية من الحزن الذي تحول إلي طاقة لإسعاد كل الشعوب العربية.. أتعجب من صموده للمرض وكيف غني بهذا العمق والإحساس وهو متألم ومحروم من مباهج الحياة.. صحيح أن الله - سبحانه وتعالي- عوضه بالشهرة والمال وحب الناس.. لكنه كبشر عادي حرم من معظم أنواع الطعام حتي طعام الفقراء ولو تذوقه تتهيج معدته ويتعرض لنزف دوالي المريء.. عظمة عبد الحليم حافظ ليست في موهبته النادرة فحسب ولكن في ذكائه الفني والاجتماعي.. في قدرته علي اختيار الأغاني الناجحة وفي إمكانياته كممثل قام ببطولة أفلام غنائية مازلنا نستمتع بها وفي مواقفه الوطنية التي جعلته مغني أعياد الثورة يتغني بأغنية جديدة كل عام في حفل يحضره الزعيم جمال عبد الناصر ولدينا إرشيف غنائي لأغنياته الوطنية المميزة التي ألهبت حماس الشعب وعبرت عن فكر الثورة وواكبت أهم الأحداث مثل أغنية السد العالي التي جمعت المصريين حول الهدف القومي الواحد حتي كسرته هزيمة 1967 كما كسرت الجميع فغني عدي النهار ليبعث الأمل في نفوس الحزاني.. عبد الحليم ظاهرة لن تتكرر ليس ظاهرة فنية فحسب ولكنه ظاهرة إنسانية للصمود وقوة الإرادة وتحدي المرض وحبه لفنه الذي جعله يحرق ما تبقي من صحته ويتآكل مثل شمعة تذوب لتضيء للآخرين فانطفأ عمره سريعا قبل أن يكمل الخمسين لكنه عاش حياة ثرية ومعطاءة وترك لنا آلاف الأغنيات والعديد من الأفلام الجيدة.. كرس حياته لفنه بعد أن حرمه المرض من تكوين أسرة ومن الأبوة لكنه لا يحتاج لمن يحمل اسمه فالناس كلها تذكره وتستمتع بأغنياته التي أيقظت مشاعرهم ودغدغت عواطفهم وهم مراهقون وطربوا لها دائما.. العندليب الأسمر علامة من علامات الجودة وينبغي أن نفخر أن مصر أنجبته كما أنجبت أم كلثوم وعبد الوهاب وكان لكل منهم له مذاقه وشخصيته المميزة. الفن الخالد يبقي ولا يموت بموت صاحبه.