اللوحات للفنان: مصطفى الرزاز
اللوحات للفنان: مصطفى الرزاز


خليل النعيمى يكتب : خديعة الرمل

أخبار الأدب

الإثنين، 27 سبتمبر 2021 - 02:07 م

رآها فى ذلك الفضاء اللامتناهى فى بُرودة الفجر اللَّاسِع مثيرة ومغرية تَجْثو على القاع بكل ثقلها لكأنها تريد أن تنزرع فى الأرض كَيْ لا يجتَثُّها أحد من بعد ومنذ أن لامست الرمل أحسّتْ بأن جسدها اللَّدِن يغوص فيه مثل حَرْبَة مَسْنونة حتى أنها لم تعد تستطيع لا أن تقوم ولا أن تمشى ولا أن تبرح المكان كادتْ أن تصيح اشْلَعونى من القاع ولكن لا أحد يسمعها فى ذلك الخَلاء المنفتح على الهَوْل مِمَّنْ تطلب العَون 


وها هى ذى تغوص تغوص فى باطن الأرض ولم تعد تملك صوتاً صرختها التى أطلقَتْها ظلَّتْ مكتومة لكأن حسّها ينحدر إلى أعماقها لكأنها تَبْلَع الصوت بدلاً من أن ينبثق منها محمولاً بالريح إلى البعيد وقبل أن تملأ رئتَيْها هواء لتصرخ من جديد أدركتْ أنْ لا أحد غيرها يمكنه أن يُخلّصها ممّا أصابها وهى تفكرَّ لا أريد أن أموت لكن الموت لا علاقة له بالإرادة يأتى أو لا يأتى مثل حب مباغت وقبل أن تستسلمَ لقدرها السيّئ بدأت تَنود وحاولَتْ أن ترفع نفسها عن الأرض قليلاً فغاصت أكثر فكَفّتْ عن الحركة وعن الهذيان وكَأنها أدركت أخيراً فوق فوهة أى جحيم تجلس الآن هى تعرف آبار الرمال البَلاّعَة المخبأة فى الأعماق وتعرف اِنْهِدامات القاع الهشة مثل فَراكيث الجِبْن الطازج وأكثر من مرة سمعَتْ بقصص الرجال الذين التهمتْهم الأرض مثل قشة تَتَسَلْقَط فى جوف بِئْر عميقة لكنها لم تكن تحسب أنها هى الأخرى يمكن أن تقع فى حُفْرة لم تَحْفِرْها لأحد ولا أن تكون هى نفسها ضحية بائسة لكوم من الرمل الناعم كالحرير كادت تيأس من النجاة وتُرْخى حَبْل حياتها وتغيب فى الجُبّ لكن أمراً ما هاجَها فغيَّرتْ قناعتها الرهيبة التى بدأت تستحْوذ على مداركها لا أحد يعرف ما مَرَّ فى خواطرها العديدة فى ذلك الفجر المنذر بالعدم خواطرها بلى فلكل منا آلاف الخواطر المتشابكة لكننا لا ندرك إلاَّ أقربها إلينا هكذا وجدت نفسها ترضخ لمشاعر الاستمرار فى الوجود وتُهيّئ نفسها للقيام بالمحاولة الأخيرة للنجاة قبل أن تغوص نهائياً فى كتلة الرمل الملْتَهِمة فمَدَّتْ يدها الطويلة بهدوء أفعى ولامَسَتْ عُذوق

 الشُجيرة الوحيدة اللابدة فوق الأرض بالقرب منها وهى تفكِّر هذه تستند على أرض صلبة ولا بد وقبل أن تضيع فرصة النجاة أمسكَتْ بها بأطراف أصابعها الرّاجِفة وجرَّتْها إليها بنعومة شديدة حابِسة أنفاسها لكَيْ لا تُثْقِل على الشُجيرة الهشَّة فتَنْشَلع من منبتها فتَغوصان معاً وما أن استَتبَّ لها رَجَفان الرمل حتى مَدَّتْ ساقها برهبة محاذرة أن تُقْلِق استقراره الهَشّ ولئلاّ ينفرط عِقْد حُبيباته كما فكَّرَتْ توَسَّدتْه بثَدْييْها ضاغِطة عليه بحَنان وكأنها تريد أن تُرضعه وهَفَّتْ ساحبة جسدها الجميل فوق مُوَيْجاته مثلما تفعل الأفاعى التى كثيراً ما رأتها تتَسَلْحب فوقه بلا خوف وقبل أن تتَمادى فى حركتها الأخيرة للخلاص من الموت اختناقاً ملأت رئتَيْها هواء هواء هواء وهمَّتْ أن تطير لكنها لم تستطع ساقها الأخرى التى كانت لا تزال غائصة فى جُبّ الرمل منعَتْها من الطيران ولكى تُخلِّصها من ثقل الكتلة الرملية الجاثمة فوقها بَسَطَتْها بشكل هادئ من دون أن ترفعها فارتطمت قدمها بكتلة صلبة فدفعَتْها هَوْناً فاندفَعَتْ هى الأخرى زاحفة بتؤدة مستمدّة طاقة هائلة من صُمود الكتلة الصلبة حركة مجهرية صغيرة قامت بها بدهاء بدَتْ لها بحجم الكون لكأنها قطعَتْ مسافات لا محدودة مع أنها كانت شِبْراً أو أقل قليلاً فأغمضَتْ عينيها وهى تتنفّس بحذر شديد خوفاً من تبذير الهواء المحبوس فى صدرها أما هو فقد كان يرتجف كالجَمَل المَعْضوض وهو يتلَفَّت يمنة ويسرى باحثاً عنها أين غدَتْ وكأنه لا يراها وليس هو الذى حَرّض الرمل على ابتلاعها ولمّا لم يسمع لها حِسّاً ولم يعثَرْ لها على أثَر هَبَّ كالملْسوع مدقِّقاً فى خلاء الخيمة الفارغة إلاّ من أنفاس الصبى الصغير الغافى وبلا انتظار رفع الرّواق وخرج مثل أسد غاضب يغادر عرينه متَحفِّزاً وكأن أحداً نَخَزَه وعلى الفور رأى شعرها الغزير ملوّثاً بالرمل وهى مَسْدوحة فوقه ونصفها السفليّ يغوص فيه مثل طريدة جاهزة للافتراس فوقفَ فى مكانه مأخوذاً بهول الصورة التى لم يكن يحسب أنه سيراها ذات يوم وقد ملأ نفسه شعور كاسح بالغُرْبة واليُتْم أتراه تذكّر أهله الغابرين أم أن الخوف على امرأته من الرمل الغادر الذى يبتلع أحياناً جِمال قافلة بأكملها هو الذى شَلَّه وقفَ مذهولاً وقد أدرك كل شيء بصمت وكأنه فقَدَ صوته الجهْوريّ الذى كان يسيطر به على المجالس التى يؤمّها وهَمَّ أن يصرخ منادياً المرأة الغارقة فى الرمل لكنه أغلق فمه الواسع بكفّه بقسوة وكأنه يأمر نفسه إخرَسْ لقد خَشيَ أن تَجْفُل المرأة بسبب صراخه الذى لم تكن تنتظره فتقوم بحركة مفاجئة تدفنها فى قلب الرمل الفاغر فاه قبل أن يستطيع إنقاذها وفجأة قال لنفسه لا بتصميم رافضاً ضربة القَدَر اللامتوقعة، وبدأ رأسه يعمل مثل آلة متقنة الصنع فتوَجَّه أولاً نحو العَمود الوحيد الذى كانت الخيمة تستند عليه وهَمّ أن يَشْلعه ليستعين به لكنه توقف على الفور 
وهو يفكِّر ستقع الخيمة على القاع وتخنق الصبى النائم، فاستدار بلا ضجيج نحو الأوتاد التى تثبِّتها وتحميها من الطيران إذا هَبَّت الريح لكنه تراجع عنها أيضاً لأسباب تتعلق بالانهيار الأكيد للخيمة المشئومة عدا عن كون الأوْتاد قصيرة، ماذا يفعل بدأ يحوص فى مكانه وكأنه يقف فوق كَوْم من الجَمْر وهو يتَفَرّس فى الأنحاء وبغتة من خلال سُجُف اليأس المرعب وربما بسببها رأى عصا الخَيْزران الطويلة مَلْقوحة قدّامه فكاد أن يشهق من اللُّقْيا السعيدة وكأنه يراها لأول مرة بحذر تناول العصا المرمية على القاع وتخفَّف من أثقاله النفسية وتقدم بخُطى وئيدة نحو المرأة الغارقة فى الرمل، مَنْ كان يظن نفسه آنذاك المنقِذ أم المتسبب بالهلاك ولكن أى شيطان ركبه ليظن نفسه آثِماً سوى أنه تذكّر ليلة الأمس الفائت فى الفلاة، كاد أن يفقد عزيمته لكنه ألغى الذِكْرى من رأسه بتصميم كما يلقى قشراً يابساً وراح يمدُّ مِطْرقَ الخيزران الطويل ذا العُقَد القاسية ليخترق به كثافة الرمل باتجاه جسدها المستسلم للموت مَدّه من بعيد ليتجنّب انهيار الكَوْم الهَشّ تحت ثقله وهو يَنْبَطِح فوقه كالعِرْبيد لابِداً برفْق، وبعد أن استلْقى مَدَّد قدمَيْه إلى أبعد النقاط التى يمكن أن تصل إليها وراح يَمُطّ جسده كما تفعل ديدان الأرض التى تخرج من جوف القاع بعد مطر الربيع وبحذَر كبير صارَ يهيّئ نفسه ليتَلقّاها أو ليفعل شيئاً آخر لا يعرف بعد ماهو، ولكن كيف يبدأ إنقاذها ومن أيّ النقاط يلتقط الجسد الذى يتهَاوى فى جَفْر الرمال الحيرة التى ركبَتْه جعلته يكتشف كَمْ كان يخاف عليها وكَمْ كان يخاف على نفسه بعد فَقْدها.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة