كابول المدينة القديمة للفنان: الحسينى
كابول المدينة القديمة للفنان: الحسينى


د. عفاف زيدان تكتب : افغانستان الواحة والبوابة

أخبار الأدب

الإثنين، 27 سبتمبر 2021 - 02:27 م

جعلها هذا الموقع الفريد محط أنظار القوى الاستعمارية على طول عصور التاريخ، فلم تسترح عبر الدهور والأزمان من الخروج من استعمارٍ حتى تدخل فى غيره

نحن نتحدث الآن عن واحة آسيا فهل يتبادر إلى ذهن القارئ ماذا نقصد؟ أو عما نتحدث، لقد اندثر هذا المسمى بفعل آلات الحرب المدمرة التى لا تبقى ولا تذر. إن هذا المسمى الجميل هو ما كان يطلقه المؤرخون القدماء على أفغانستان وذلك لكثرة ما كانت تنعم به من الهدوء والجمال، وهذا ما جعل المؤرخ العظيم ياقوت الحموى يقرر أن يعيش فيها بقية عمره لينعم بهذه الراحة وهذا البهاء والجمال، ولكن الزمن لم يسعف ياقوت الحموى لتحقيق هذه الأمنية لأنه ذهب إليها بعد تعرضها لهجوم المغول الشرس فى أوائل القرن السابع الهجرى فأبدع فى وصفها ثم رثاها، وكانت فى ذلك الوقت فى العصور الوسطى تسمى خراسان. 

«كانت بلادًا مونقة الأرجاء، رائقة الأنحاء، ذات رياض أريضة، وأهوية مريضة، وقد تغنت أطيارها، وطاب روح نسيمها، فصح مزاج إقليمها».

ثم وصف نبل أهلها فقال: «أطفالهم رجال، وشبابهم أبطال، ومشايخهم أبدال، شواهد مناقبهم باهرة، ودلائل مجدهم ظاهرة».
ثم وصف قصورهم بعد اجتياح جحافل المغول فقال: « أصبحت تلك القصور كالمَحو من السطور، يستوحش فيها الأنيس، ويرثِى لمصابها إبليس».

وما أشبه تلك الليلة بالبارحة بفعل آلات الحروب المتتالية التى لم تترك تلك البلاد منذ قرون عديدة من الزمان. 
وقد أسعدنى الحظ أن عشت فى تلك البلاد بعد حوالى أربعة عقود جلاء من الاستعمار الإنجليزى الذى تم عام 1919م فى عهد الملك أمان الله خان، حيث تمكن أهلها فى سنوات قليلة من اللحاق بركب الحضارة وإعادة هذا الوجه المشرق لبلادهم. وكانت تلك السنوات التى امتدت من مارس 1968 حتى أكتوبر 1971م هى فترة إقامتى فى تلك البلاد لدراسة درجة الدكتوراه فى الشعر الفارسى حيث كنت مبعوثة من جامعة الأزهر إلى جامعة كابل، فرأيت جمال تلك البلاد كما وصفها ياقوت الحموي، رأيت إبداع الخالق فى الطبيعة الباهرة الخلابة، ورأيت مدارس البنين والبنات والجامعات الحديثة، والأساتذة العظام من السيدات والرجال، كما رأيت جميع المؤسسات الحديثة، والفنادق الكبيرة المشهورة، والحياة المتحضرة الراقية

كانت رسالتى العلمية تتطلب منى السفر فى أنحاء أفغانستان لأرى الأماكن التى سجلها الشاعر الذى كان موضوع رسالتى، فرأيت رأى العين تلك الحضارة الضاربة فى أعماق التاريخ فى كل مدن أفغانستان، والتى تجعل الإنسان يستشعر الأبهة والجمال.
أما أهل هذه البلاد الذين وصفهم ياقوت الحموى فقد خبرت خصالهم الجميلة، وأخلاقهم الحميدة، وإكرامهم للضيف والعناية به طوال إقامته فى بلادهم، فالأفغان يبذلون أقصى ما فى وسعهم لإكرام الضيف، ويظهرون لضيوفهم ما تتحلى به أخلاقهم من النبل، وحسن اللقاء، وإزالة الوحشة، ومصداقًا لما أقول فإننى أذكر أننى ذات يوم ذهبت إلى السوق لأشترى بعض حاجياتى، كان البائع يفتح مذياعه، وكانت تذاع فيه أغنية «على بلد المحبوب ودينى» للسيدة أم كلثوم، فقد كان من برامج إذاعة كابل أنها كانت تذيع أغنية عربية كل يوم فى تمام الساعة الواحدة بعد الظهر، وعندما سمعت هذه الأغنية انفجرت فجأة فى بكاء يقطع القلوب وتساءلت الواقفات من السيدات عن سبب بكائى المفاجئ، وقلن للبائع هل آلمتها بكلامٍ، فقال لهن أبدًا إنها سمعت أغنية من بلادها فبكت هذا البكاء والتفت السيدات حولى يقبلن رأسى ويداى ويربتن على ظهرى وأكتافى، ويقرأن بعض آيات القرآن الكريم لتعود السكينة إلى نفسى وكن يقلن إنها تذكرت وطنها بهذه الأغنية وهى بعيدة، ثم أخذن يبتهلن إلى الله أن يعيدنى سالمة إلى وطنى، وأن يتم ما حضرت من أجله فى يسر وسهولة.
 
وأذكر هنا فى هذا المجال أيضًا أن أى سائح كان يريد أن يتجول فى مدن أفغانستان، كان عليه أن يدفع نفقات السفر بالعملة الصعبة، فذهبت للقاء رئيس جامعة كابل الدكتور فاروق اعتمادى، كان عالمًا جليلًا، وأستاذًا مرموقًا، قدمت له طلبًا ألتمس فيه إعفائى من هذا الشرط لأننى مبعوثة لدراسة الدكتوراه، وأتقاضى راتبى بالعملة الأفغانية، فأصدر قراره على الفور بأن أعامل معاملة الأفغان فى جميع رحلاتى وأسفارى طوال فترة إقامتى فى أفغانستان.
 
وكما هيأت لى الظروف أن أعرف علماء عظامًا، فقد صادفت أثناء دراستى بعض الساسة البارزين فى ذلك الوقت، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الأستاذ الدكتور روان فرهادى، حيث كان يشغل منصب نائب وزير الخارجية فى ذلك الوقت، والدكتور روان فرهادى، متعه الله بالصحة والعافية كان عالمًا قديرًا وأستاذًا معروفًا، أتذكر أننى حينما ناقشت رسالتى هناك، وكتبت عنها جميع الجرائد الأفغانية، أرسل إلى أن أقابله فى وزارة الخارجية، وتحدث معى أثناء اللقاء عن الرسالة وعن كل جوانبها العلمية والأدبية، وأبدى استعدادًا كبيرًا لأن أسافر على نفقة أفغانستان إلى إيران أو باكستان أو الهند لأطلع على كتبٍ ومراجع ربما أحب أن أضيفها إلى الرسالة، ولكن الوقت لم يسعفنى لأسافر إلى مكانٍ آخر، وكانت بعثتى قد انتهت.

وفوق أن أفغانستان وصفها المؤرخون بأنها واحة آسيا، فهى أيضًا بوابة آسيا، وذلك لموقعها الاستراتيجى الفريد، لأن المتمركز فيها يستطيع الوصول منها إلى جميع أقطار قارة آسيا بأيسر الطرق وأقصرها. 

«فهى إحدى دول جنوب غربى آسيا يحدها من الشمال تاجيسكتان، وأوزبكستان، وتركمنستان، ويحدها من الجنوب والشرق باكستان، ويحدها من الغرب إيران، ويحدها من أقصى الشمال الشرقى جامو وكشمير والصين. وقد جعلها هذا الموقع الفريد محط أنظار القوى الاستعمارية على طول عصور التاريخ، فلم تسترح عبر الدهور والأزمان من الخروج من استعمارٍ حتى تدخل فى غيره، هذا بالإضافة إلى ثرواتها وأهمها: الغاز الطبيعى والبترول، والفحم الحجرى، والحديد والنحاس، والذهب والفضة، والقصدير واليورانيوم، إضافة إلى المرمر النادر، والرخام الذى لا يوجد له مثيل والأحجار الكريمة مثل: الياقوت والزمرد، وحجر اللازورد الكحلى الذى وجد فى قبور قدماء المصريين، وقدم هدايا من ملوك الكوشانيين فى أفغانستان إلى ملوك الفراعنة فى مصر لتزيين حليهم».
 
أما وقد طوّفنا فى كل مناحى الجمال فى هذه البلاد، فلا يفوتنا أبدًا أن نركز على جانبٍ من الإبداع الفنى فى هذه البلاد وهو الشعر وهو ما قد برع فيه أهل تلك البلاد، وتركوا تراثًا عظيمًا يشار إليه بالبنان، ويكفى أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، جلال الدين الرومى(توفى عام 672هـ ق)، وعبد الرحمن الجامى(توفى عام 898هـ ق)، شاعرى التصوف، وهما اللذين يعرفهما أهل الكرة الأرضية بلا منازع.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة