الزمان ٢٣ مارس ١٩٤٨.. المكان: محطة قطارات حلوان.. كان الرجل الخمسيني يسير في هدوء في طريقه إلي وسط القاهرة حيث عمله بمحكمة الاستئناف، الملف المتخم بأوراق إحدي القضايا التي سهر يفحصها يثقل يديه.
كان يهم بدخول المحطة، عندما شاهد شابين في العقد الثالث من العمر بملامح حادة وعيون مترقبة يقتربان منه، ابتسم لهما ظنا منه أنهما يعرفانه، بعدما نال نصيبا من الشهرة في قضيته الأخيرة قبل عدة أشهر والتي حكم فيها بالسجن المؤبد علي بعض شباب التنظيم الخاص من جماعة «الإخوان المسلمين» المتورطين في جرائم عنف وأثار حكمه جدلا كبيرا، ودعا عليه حسن البنا مرشد الجماعة بقوله «ربنا يريحنا من الخازندار وأمثاله»، لم يخب حدس القاضي أحمد الخازندار، فقد كان الشابان حسن عبد الحافظ ومحمود زينهم يعرفانه جيدا، وقد خططا لهذه المقابلة التي لن ينساها التاريخ، ردا علي ابتسامة القاضي وهو يهم بإلقاء السلام مكملا طريقه بوابل من الرصاص ليحققا رغبة مرشدهما في أن «يستريح من الخازندار وأمثاله».
تسع رصاصات سكنت جسد القاضي، قبل أن يفر الشابان ويتركانه مضرجا في دمائه، وخيط الدم الساخن يواصل الاتجاه ببطء نحو أوراق قضية «التنظيم الخاص» التي تبعثرت علي أرض الطريق، بعدما تهاوت قبضته التي كانت تمسكها بقوة، وما تبقي منها التصق بالدم النازف إلي الأبد.
سارع «حسن» و«محمود» بالهرب، متصورين أنهما أفلتا، فالحي الهادئ والعدد المحدود من المارة في هذه الساعات من الصباح لا يمكن أن يشكل خطرا عليهما، لكن ارتباكهما لم يمنحهما فرصة رؤية تلك الأعداد التي تجمعت لمطاردتهما في شوارع حلوان، فما كان من أحدهما إلا أن أخرج قنبلة يدوية وألقي بها في اتجاه المطاردين، فأسقطت العديد منهم مصابين بإصابات بالغة، لكن من تبقي منهم واصلوا رحلة المطاردة حتي تم إلقاء القبض علي القاتلين.
خلال التحقيقات أقر القاتلان بانتمائهما لـ «الإخوان» واعتبرا ما فعلاه «شرف وجهاد»، لكن المفاجأة داهمتهما عندما تنصل المرشد حسن البنا منهما، نافيا أنه يعرفهما، رغم أن حسن عبد الحافظ كان سكرتيره الشخصي لعدة سنوات(!!)
٦٨ عاما مرت علي تلك الوقائع، تغيرت الشخوص والأسماء، لكن لم يتغير الفكر والموقف، نفس الكذب والمراوغة.. نفس الروح الميالة للعنف وقتل من يخالفها، وادعاء الاعتدال والسلمية في المقابل.. نفس الإصرار علي التنصل من أية مسئولية عن الجرائم التي يرتكبونها، ففي السر يعتبرون المجرمين أبطالا، وفي العلن يتنكرون من فعلتهم ويرتدون قناع البراءة والصلاح. والأغرب أن تلك الجرائم التاريخية الثابتة اليوم باعترافات قيادات الجماعة أنفسهم في مذكرات صدرت منذ سنوات طويلة، لا تزال تجد من يشكك فيها، ويرفض الاعتراف بها، بل ويحاول - بكل جدية تدعوك إلي الدهشة - إقناعك بأن الدولة هي التي ارتكبت الجريمة لإلصاقها بهؤلاء الأبرياء !!
أعيدوا قراءة التاريخ لتفهموا الواقع، فلا فرق بين دم أحمد الخازندار بالأمس، وهشام بركات اليوم.. لا فرق بين من ألقيت عليهم القنبلة اليدوية في حلوان، وبين الذين تتساقط عليهم قذائف «الهاون» وتزرع العبوات الناسفة لقتلهم اليوم.. والأهم أنه لا فرق بين قاتلي وكذابي الأمس واليوم من الجماعة «إياهم»!!