خلال فترة استعدادي لرحلة أقوم بها حاليا إلي الولايات المتحدة.. وهي ليست رحلة عمل.. كنت أحاول تدبير بعض المصروفات التي قد أحتاج إليها.. بالفعل تمكنت من ذلك علي مراحل.. ولكن في كل مرحلة كان سعر الدولار يقفز فيها قفزة هائلة عن المرحلة السابقة لها.. ففي خلال شهرين تقريبا ارتفع الدولار من سبعة جنيهات ونصف إلي أكثر من تسعة جنيهات.. وها هو الآن تجاوز العشرة جنيهات.
لاشك أن أسبابا عديدة وراء ذلك الارتفاع المتسارع للدولار.. أو الهبوط الشديد للجنيه.. أسباب ليست خافية علي أحد.. وهي بالطبع ليست خافية علي أصحاب القرار في الشأن المصرفي.. بل وليست خافية علي المواطن البسيط.. الاستيراد غير الرشيد في معظمه هو بالطبع أول الأسباب.. الطلب علي الدولار من المستوردين سنويا يبلغ حوالي 80 مليار دولار. والعرض من الدولار يتوافر من خلال خمسة مصادر رئيسية هي : التصدير ويدخل منه سنويا حوالي 24 مليارا بعد أن كان 31 مليار دولار العام الماضي.. وتأتي السياحة في المرتبة الثانية وتوفر حوالي 4 مليارات بعد أن كانت قبل يناير 2011 حوالي 15 مليار دولار.. أما قناة السويس فتحقق حوالي 5 مليارات دولار ومازال التأثير الايجابي للتوسعات الجديدة بها لم يحقق المأمول منه بسبب التراجع العالمي لحركة التجارة.. وهناك بالتأكيد تحويلات مدخرات المصريين في الخارج وهي حوالي 19 مليار دولار.. وأخيرا فهناك تدفقات واستثمارات أجنبية جديدة تبلغ حوالي 4.6 مليار دولار تقريبا. وبهذا تبلغ حصيلة ما يتوافر لدينا من دولارات حوالي 66 مليارا والمطلوب نحو 80 مليارا.. والبنوك لا تملك توفير هذا الفارق الكبير.
هذه هي مصادرنا الدولارية.. وهي بالطبع محدودة.. ويا ليتها كذلك.. بل هي متناقصة ومهددة بالتراجع.. فكلنا يعلم ما أصاب السياحة من ضربات موجعة.. ثم الضربة القاصمة بسقوط الطائرة الروسية فوق سيناء وما تبعها من إجراءات.. ثم تراجع الاستثمارات المباشرة لأسباب أمنية وإدارية مختلفة.. وتراجع تحويلات المصريين في الخارج بسبب الدور المريب والغامض لشركات الصرافة في الخارج والداخل وإغرائهم بسعر تحويل أعلي بالإضافة إلي المضاربة وحرب الشائعات التي يطلقها أصحاب المصالح في محاربة مصر لخلق الأزمات.
وهنا.. تبدو المسألة معقدة.. فنحن دولة لا تنتج ولا تصدر وليس لديها مصادر حقيقية للعملة الصعبة.. ونحن دولة تستورد معظم ما تستهلكه من الغذاء.. والمستلزمات الرئيسية.. بل تستورد كل ما هو ضروري أو غير ضروري.. نحن دولة تحارب في مصادر رزقها.. وتدير تلك الحرب منظمات ودول وعصابات.. نحن دولة ليست قادرة علي الصبر والتحمل ومتفرغة فقط لكل صغيرة ومنشغلة فقط بكل التفاهات.. شعبها في واد وحكومتها في واد.. وبرلمانها في واد.. والثلاثة تركوا قائدها الذي اختاروه يواجه بمفرده كل الأزمات.
الأزمة بلا شك صعبة.. ولكن مواجهتها بسرعة وحسم أمر ضروري.. وكل يوم يمر سيؤثر بلا شك علي وضع الجنيه المصري وعلي مكانته وسمعته وقدرته الشرائية.. إن كان مازالت له قدرة.. بعض الإجراءات التي اتخذت مؤخرا بإلغاء الحد الأقصي لسحب وإيداع الأفراد كان لها تأثير إيجابي حتي لو كان محدودا.. وطرح شهادات دولارية للمصريين في الخارج يمكن أن يساهم في توفير احتياطي نقدي يقلل من العجز ويواجه نشاط شركات الصرافة التي تسحب الدولار من السوق في مصر وخارجها.
ولكن هذا ليس هو كل شئ.. إجراءات حاسمة وقوية لابد أن تتخذ مثل تصحيح مسار الاستيراد بأن يمنع نهائيا استيراد ما لا يلزم من سلع كمالية أو رفاهية فنحن أولي بكل دولار من أجل السلع الأساسية.. وإن كان هذا الأمر يحتاج إلي تشجيع المنتج المحلي.. تشجيع الصناعة وتشجيع استهلاكها.. دول كثيرة سبقتنا إلي ذلك وتحملت وصبرت ونجحت.
ما من دولة نجحت اقتصاديا.. إلا واتخذت وقت الأزمات قرارات صعبة تحولها من دولة تقترض وتبحث عن إعانات إلي دولة منتجة مصدرة تحقق الحد الأدني من النمو.. ما من عملة تريد أن تكون قوية قادرة محترمة إلا وكان وراءها دولة منتجة.. ما من شعب أراد أن يتقدم إلا وكان يأكل ويشرب ويلبس من صنع بلاده.. شعب جاد منتج يمد قدميه علي قد لحافه.