يسرى الفخرانى
يسرى الفخرانى


فنجان قهوة

الرجل ذو القبعة البيضاء وحليم!

أخبار اليوم

الجمعة، 01 أكتوبر 2021 - 08:29 م

كان عم حسين يُنادى بصوته الجميل : كُلو كُلو، وقت العصارى يمر فى شارعنا الهادئ فيمنحنا المزيد من بهجة الصيف، ونجرى على السلالم لكى نشترى أحلى جيلاتى فى بسكوتة لم أتذوق طعما ألذ منه حتى اليوم .

لكل واحد قطعة واحدة فقط ( علشان غيرك يدُوق ) كان هذا هو شرط عم حسين ذى القبعة البيضاء النظيفة دائما، لم يكن مسموحاً لأحد أن يشترى قطعتين، وبالتالى كنا ننتظره فى بلكونة بيتنا وكل واحد قابض على التلاتة صاغ ومجرد أن نلمحه نقف دائرة حول عربته الخشبية التى تجرها بسكلتة لها جرس بصوت الموسيقى!

على بساطته لم يصنع فقط ألذ جيلاتى فى الإسكندرية فى السبعينيات.. إنما صنع أهم خطوة فى تسويق منتجه، أن يصبح جزءا أصيلا من البيت بظهوره وايقاعه اليومى، و الزحام حوله بسبب (واحدة بس علشان غيرك يدُوق)! ذهب جزء لا بأس به من مصروفنا إلى عم حسين، يكسبه فى الصيف ليعيش به بياته المدهش فى الشتاء، تظهر عربته الخشبية قبل شم النسيم بيوم وتختفى فى أكتوبر مع دخول المدارس.. وكان يشغلنى ماذا يفعل عم حسين فى الشتاء ؟ هل يعمل فى مهنة أخرى لا نعرفها تليق ببرد الشتاء؟

 لم أجد أبدًا إجابة، وظل المهم عندى أنه يظهر ليلة شم النسيم فى نفس الليلة التى نستعد فيها بشريط الكاسيت لكى نسجل حفلة عبد الحليم حافظ الجديدة من الراديو كاسيت ونستعد أيضا لكى نذهب فى اليوم التالى إلى البحر فى سيدى بشر أو حدائق المنتزه أو أنطونيادس، كان نداؤه العذب بداية موسم سعيد من المناسبات المبهجة.. مات عبد الحليم حافظ فى مارس ١٩٧٧، ولم يعد يأتى عم حسين أبدًا من بعد هذا التاريخ ! لم يظهر فى أبريل قبل شم النسيم ولا ظهر فى مايو ولا هذا الصيف كله ولا أى صيف بعده! ترك غيابه أثراً من الغيم على أيامنا، وظلت البلكونات حزينة على اختفائه المفاجئ، ولم أفهم ما هى العلاقة بين انقطاعه وموت حليم؟ ومن صيف إلى صيف انتظار مُخيب للآمال حتى بعد ظهور رجل آخر يدفع بنفسه عربية كُلو كُلو.. ولم يكن هو.. كان نسخة باهتة من ندائه وطعما ماسخا من الجيلاتى! مرت الأيام كما تُغنى الست أم كلثوم..

وبينما كنت أستعد لركوب ترام الرمل ..

وجدته أمامى بشحمه ولحمه وملامحه التى لم تتغير وإن كانت بدون القبعة البيضاء الناصعة كالثلج، يدفع بكرسى متحرك صُنع من الخشب شاب عرفت عَجزه من النظرة الأولى، وهذه المرة لم يكن ينادى نداءه الجميل ولا يرن جرسه الموسيقى، كان يحمل قطعة منه، (ابنى) قدمه لى بفخر واعتزاز، اساعده فى تعليمه بالجامعة ربنا يقدرنى لغاية ما يتخرج! عرفت الآن أين تختفى منا فى الشتاء، لكن لماذا حرمتنا منك فى الصيف؟ قال وفى صوته شجن : ماعدش عندى نَفس أنده على حبايبى، خشب العربية عملت بيه الكرسى ده، حتى شوف أدى الجرس علشان الناس توسع لنا الطريق..

رنة الجرس الموسيقى..

تذكرت كل أيامنا البسيطة وليالينا الحلوة وأرواحنا الرائقة حين كنا فى انتظار نداء عم حسين وحفلة عبد الحليم حافظ.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة