من الطبيعي أن يحاول السفير التأكيد علي الالتزام بالإتفاقات الدولية، وأن يتعذر بأن النظام - أي نظام - في مصر لا يستطيع تجاهل النبض الشعبي
أكاد أن أتخيل كيف برر السفير المصري الجديد لدي تل أبيب حازم خيرت في مقابلته الأولي مع نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل مشاهد الأكشن البرلماني وحوار الأحذية الذي دار في جلسة محاكمة النائب توفيق عكاشة بسبب دعوته للسفير الإسرائيلي في منزله وتداعيات هذه الدعوة علي المصير السياسي للرجل بإسقاط عضويته من البرلمان. قد لا يكون موضوع عكاشة أثير أصلاً في المقابلة لاعتبارات بروتوكولية، لكن من المتصور أن تحاصر الأسئلة سفيرنا الجديد هناك في المحافل المتعددة التي يحضرها. ومن الطبيعي أن يحاول السفير التأكيد علي الموقف الرسمي المصري الملتزم بالاتفاقات الدولية، وأن يتعذر بوجود تنويعات في توجهات الرأي العام المصري وفي المشاعر الشعبية، وبأن النظام - أي نظام - في مصر لا يستطيع تجاهل النبض الشعبي ولا أن يتحدي المشاعر الوطنية السائدة ولا أن يفرض علي الشارع سلوكاً معيناً. وقد يكون السفير أكثر جرأة في القول بأنه يكفيهم في تل أبيب أن مصر تقدرالتعاون الأمني الذي يخدم المصالح المشتركة بين الجانبين وأن فيها البعض من أمثال عكاشة لا يستحون من المجاهرة بعلاقتهم بهم وبعض رجال الأعمال الذين اعتادوا علي التبادل التجاري وإقامة علاقات معهم.
بصرف النظر عن الجدل الدائر هنا حول مدي الجرم الذي ارتكبه عكاشة من عدمه بدعوة السفير الإسرائيلي أو السماح لنفسه بتجاوز حدود وضعه البرلماني بمناقشة وطرح موضوعات تمس الأمن القومي المصري، وحول مدي علم السلطات المختصة في مصر مسبقاً بموضوعات اللقاء وعما إذا كانت أجازت له طرح هذه الموضوعات أم لا، فإن ما يهمنا هنا هو كيف تنظر إسرائيل للموضوع برمته.
لا شك أن ارتياحاً كبيراً نشأ لدي السفير المغادر لمجرد توجيه الدعوة له من شخصية عامة في مصر بصرف النظر عن رأيه فيها، لاسيما وهو يشكو وطأة العزلة التي دفعته لطلب إنهاء خدمته في القاهرة. والواضح أن السفير أراد استثمار هذه الدعوة بأي ثمن مع أنه لم يبد أنه يأخذ صاحبها علي محمل الجد فالشائع هناك عن عكاشة أنه مهرج ومتقلب وباحث عن الشهرة بل ومثير للجدل، لكنه علي أية حال صاحب قناة تليفزيونية مؤثرة في قطاع كبير من المشاهدين وقد أصبح بفضلها نائباً في البرلمان. كما إنهم في تل أبيب يتابعون جيداً مؤشرات الرأي العام المصري وقد رصدوا منذ فترة قصيرة حزمة من التحولات ذات الدلالة الإيجابية برأيهم بدأت بزيارة علنية للقاهرة من نائب وزير خارجيتهم دوري جولد ليعيد فتح سفارتهم فيها، مروراً بالإفراج عن عودة ترابين وإعادته إلي إسرائيل بعد خمسة عشر عاماً من السجن لإدانته بالتجسس لصالحها، ثم تعيين سفير مصري لديهم بعد ثلاث سنوات من الغياب. وفي الشهر الماضي نزلت تصريحات المتحدث باسم اتحاد الكرة المصري عزمي مجاهد برداً وسلاماً علي تل أبيب حين قال بعدم وجود موانع أمام سفر أحد الفرق الرياضية المصرية لإسرائيل مادامت هناك علاقات دبلوماسية فلا مانع من العلاقات الرياضية. وتزامن مع ذلك ظهور ترجمة لكتاب مراسل إذاعة الجيش جاكي حوجي في معرض القاهرة الدولي للكتاب، ثم جاءت دعوة عكاشة تتويجاً لكل هذه التطورات. مع ذلك ثمة أصوات إسرائيلية تبدي توجساً صريحاً وتدعو لعدم تصديق ما أسمته بـ»بالونة الاختبار التي أطلقها السيسي».
ما لفت نظري هو المقال الكاشف الذي نشره أحد الأساتذة الأكاديميين المتخصصين في الشئون المصرية واسمه الدكتور رالي شختر بعنوان «أهؤلاء هم شركاؤك يا إسرائيل؟» وأحب أن أنقل لكم بعضاً من أفكاره إذ يؤنب الكاتب أبناء جلدته علي حفاوتهم بعكاشة ويصفه بالمحتال والمثير للسخرية، وينتقد قبول السفير للدعوة وإعلانه عن استعداده لتكرار اللقاء. ويري الكاتب أن لقاء السفير بعكاشة لا يخدم العلاقات مع مصر ولا يعد خطوة دبلوماسية ناجحة لأنه أثار زوابع من الآراء السلبية تجاه تل أبيب ويري فيه شخصية غريبة ومثيرة للسخرية، «حتي لو كانت لديه تحرّكات بين النخبة العسكرية الحاكمة اليوم في مصر فهو بالتأكيد ليس ممثّلا لها أو ناطقا باسمها؛ في أفضل الأحوال هو بمثابة بالون اختبار أو كيس ملاكمة يهدف إلي قياس المزاج العام لدي الشعب». ويتساءل: «ما هي الفائدة التي ستحصل عليها دولة إسرائيل من التعاون مع شخص كهذا؟». ويقارن الكاتب بين عكاشة وبين الكاتب الراحل علي سالم فيقول: «ربما كانت ستبدو تلك الدعوة خطوة جميلة لو كانت فعلا خطوة شجاعة من قبل شخص استثنائي، مكافح من أجل السلام ومستعد للتضحية بمكانته الشخصية وربما أيضا المهنية من أجل تعزيز هدف يؤمن به.‎ ‎كان الكاتب المسرحي المصري المعروف علي سالم شخصية كهذه؛ فقد زار إسرائيل رغم معارضة زملائه الشديدة فدفع ثمنا باهظا علي ذلك».