محمد صلاح عبد المقصود
محمد صلاح عبد المقصود


الرعب القادم من الشرق "1"

بوابة أخبار اليوم

الأحد، 03 أكتوبر 2021 - 12:46 م

 

لا صوت يعلو فوق صوت مواجهة الصين في أمريكا، و لا يوجد في قمة الاهتمامات الأمريكية الاعلامية أو السياسية أو العلمية اليوم سوى ذاك البلد الذي يحمل فوق كتفيه سدس سكان الكوكب، الصخب الذي يحيط بالمشهد الاعلامي لم يمنع سماع صوت طبول الحرب التي بدأت تدق بشكل واضح في شرق الكرة الأرضية الأقصى.

و لا يملك باقي الكوكب سوى الدعاء بألا تكتب هذه المواجهة العنيفة نهايته، و تصبح في أفضل تقدير ايجابي مجموعة اشتباكات ثنائية محدودة، تنتهي بالوصول لحل وسط يسمح للجميع بإلتقاط الأنفاس هرباً من مصير بائس و مرعب، خاصة و أنه لا وسطاء و لا حمائم سلام تلوح في الأفق، و لا توجد حتى نوايا لتخفيف التوتر أو التراجع من الطرفين.

ضرورات المواجهة اليوم لدى الولايات المتحدة الأمريكية عديدة، قد لا تتعلق بالأساس بالتهديد الاقتصادي الشرس الذي تمثله الصين للدولة التي كانت تتحكم بالاشتراك مع السوفييت في إدارة شئون العالم أجمع منذ نهاية الحرب الثانية، ثم قادته بشكل منفرد تماماً منذ سقوط شريكها القديم مطلع تسعينات القرن الماضي، التهديد الأبرز اليوم أصبح من تبعات و نتائج هذه التهديد على الداخل الأمريكي، و الذي لا يمر بأفضل حالاته لأسباب عديدة.

طبيعة الحكم الفيدرالي الأمريكي تعتمد بالأساس على الاقتصاد القوي، و الذي يوفر لعدد كبير من الولايات السبب المنطقي للاستمرار في التحالف الفيدرالي الدولي الأبرز، فأمريكا دولة لا يجمع شعبها أو ولاياتها لون أو دين أو ثقافة أو عرق يمكن الركون عليهم في مواجهة الشدائد الاقتصادية أو الاجتماعية المختلفة، بل إن المنهج الامريكي قائم بالاساس على تخطي كل هذه الفوارق الديموغرافية بين سكانها تحت مظلة ما يعرف اليوم بـ "القيم الأمريكية".

بل إن الهدف الأسمى للامبراطورية الأمريكية في مرحلة الحكم الاحادي للكوكب كان نقل هذه القيم لباقي شعوب الأرض، و هو ما يعني أن غياب التأثير عن هذا الاقتصاد و تراجع الريادة الاقتصادية العالمية قد يلقي بظلال حالكة على الداخل الأمريكي، الذي لم يتعافى بعد من معركة بايدن – ترامب المفصلية في التاريخ الأمريكي الحديث، و من ثم على المشروع الأمريكي الكوني، ما يشكك في قدرة أمريكا على الاستمرار في تصدير هذا النموذج و هذه القيم.

بالنظر للتهديد الاقتصادي الصيني، نجد أن الجانب الأمريكي لم يغفل عنه تماماً في أي وقت من الأوقات السابقة، لكن أسلوب المواجهة تطور من اختلاق نزاعات عسكرية واسعة حول الدولة الصينية، و استهداف المجال الحيوي لأمنها القومي في الخمسينات و السيتينات، و ذلك عبر التواجد العسكري المباشر في أزمتي شبه الجزيرة الكورية و فيتنام، حتى و إن كان هذا التواجد ايديولوجياً في هذه المرحلة من أجل مواجهة المد الشيوعي في جنوب و شرق آسيا، إلا أن الصين كانت حاضرة في الذهن الأمريكي، و كانت نتيجة الحربين هي نتيجة مباشرة للمواجهة العسكرية بين الطرفين وقتها.

ثم انتقلت أمريكا الى مرحلة "الاستيعاب" مع بداية الثمانينات، و هي مرحلة حاولت فيها الادارات الأمريكية المتعاقبة السيطرة على الصين عن طريق الشراكات الاقتصادية التي تسفيد فيها الصين من تواجد الشركات الغربية الضخمة على أراضيها، و ما يتبع ذلك من امتلاك التكنولوجيا المتطورة و الخبرات النوعية النادرة، فيما تستفيد الولايات المتحدة من التسهيلات التي تمنحها الصين للمستثمرين الأجانب، فضلاً عن انخفاض التكاليف الناتج عن انخفاض أسعار الأيدي العاملة المدربة، و قرب الصين من مختلف الأسواق العالمية في قارات العالم القديم، فضلاً عن الحفاظ على البيئة و التخلص من عوادم حركة التصنيع المستمرة داخل أمريكا.

و رغم أن هذا الاستيعاب قد حقق للطرفين عدداً لا بأس به من المنافع، إلا أنه جائت الرياح بما لا تشتهي السفن الأمريكية، و بدا و كأن الصين قد عرفت الطريق و قررت أن تسير فيه بشكل منفرد، بدأت الشركات الصينية الناشئة وقتها في الاعتماد على أكبر حركة هندسة عكسية (Reverse Engineering) مكنتها من توفير الغالبية العظمى من المنتجات الأمريكية و الأوروبية بأسعار أقل كثيراً من أسعار المنتجات الأصلية!

بل و بدأ التنين الصيني يتمدد في جميع قارات العالم عبر هذه السلع التي قادت تسونامي تجاري بدأ في تسعينات القرن الماضي، و نتج عنه أكبر عملية احلال في التاريخ المعاصر، عبر احلال السلع الأمريكية و الأوروبية بالسلع الصينية، و التي كانت تمثل للشعوب الفقيرة الهدف الذي طال انتظاره، بالحصول على سلع العالم الأول بأسعار و قدرات العالم الثالث.

راهنت أمريكا على تراجع جودة هذه المنتجات، و على رفض الأسواق لها على المدى البعيد، لكن ما حدث كان العكس تماماً، حيث استطاعت الصين أن ترفع جودة منتجاتها مع الحفاظ على التنوع في الاسعار و المواصفات لتلبية احتياجات جميع الأذواق و الرغبات و القدرات الاقتصادية، و بدلاً من أن تصبح السلع الصينية هي سلع الفقراء، أصبحت سلعاً لجميع الفئات و المستويات الاجتماعية و الاقتصادية المختلفة.

حاولت امريكا و المعسكر الغربي اللجوء للقانون الدولي، و بدأت في تفعيل قوانين الملكية الفكرية للقضاء عى القرصنة الصينية المتزايدة، إلا أنه من جهة استطاعت الصين أن تتهرب من القانون عبر اجراء تعديلات شكلية على التصميمات المسروقة، و من جهة أخرى نجحت الصين بطريقة أو بأخرى في عرقلة اصدار عقوبات دولية ضدها.

إذا لجأنا للأرقام كي نترجم ما سبق عرضه من تسلسل تاريخي لهذا الصراع، فسنجد أن الناتج القومي الاجمالي للصين عام 1980 كان 191 مليار دولار، و ذلك بنصيب قدره 2% من الناتج الاجمالي العالمي البالغ وقتها 11.3 تريليون دولار، ليصبح بعد أربعين عام 14.7 تريليون دولار بنسبة 16.8% من الناتج الاجمالي العالمي البالغ 87.26 تريليون دولار!

على الجانب الأمريكي مثلاً، سنجد أن الناتج الاجمالي الأمريكي عام 1980 كان 2.8 تريليون دولار، بما قيمته 24.8% من الناتج الاجمالي العالمي، في حين أصبح الناتج القومي الاجمالي الامريكي 20.94 تريليون دولار عام 2020، و ذلك بنسبة 24% فقط من الناتج الاجمالي العالمي!

إن هذه الاحصائيات و غيرها كانت ناقوص الخطر الذي دق في العقل الأمريكي منذ بداية ولاية الرئيس الأمريكي السابق ترامب، و الذي يرى أن الصين هي التهديد الحقيقي و الخطر الكبير الذي أصبحت مواجهته واجباً قومياً أمريكياً لا يحتمل الابطاء أو التأجيل أو المجاملة، ربما يكون هذا هو توجه دولة أمريكية قبل أن يكون توجه رئيساً أو حزباً أو نظاماً، و هو ما يبرر تراجع الرئيس بايدن عن وعوده الانتخابية بانتهاج سياسة الحوار الهادئ مع الصين للوصول الى نتائج ترضي جميع الأطراف، و ميله للتحرك الخشن في هذا الملف.

أما فيما يخص الاستراتيجية التي يتبناها الرئيس بايدن، و أهدافها و أسبابها و توقيتها، هذا ما سنتناوله في مقالات أخرى قادمة بإذن الله.
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة