ريشة جمعة .. مشرط جراح
ريشة جمعة .. مشرط جراح


ريشة جمعة .. مشرط جراح

أخبار الأدب

الإثنين، 04 أكتوبر 2021 - 10:53 ص

 

كان طبيعيا أن يبدأ الكاريكاتير فى مصر سياسيا فكرا وموضوعا نظرا للظروف التى كانت تعيشها مصر فى تلك الفترة من احتلال، وفقر، وقصر فاسد، وتناحر بين الأحزاب، وهو مناخ جيد لصناعة الكاريكاتير السياسى الذى يغلب عليه الخطابية والاهتمام بالرمز، وأحيانا التصريح بالرمزية كما فعل سانتيس الرسام الاسبانى على صفحات مجلة «الكشكول» وهى المجلة التى كانت تمول من بعض الرجال المحسوبيين على القصر لتشويه صورة زعيم الأمة سعد زغلول، فراحت المجلة تنتقد سياسة الوفد أسبوعيا من عام 1924 وحتى 1931. وتراجعت الفكرة الاجتماعية على حساب الكاريكاتير السياسى، وكان نجومه الاسبانى سانتيس على صفحات مجلة «الكشكول» والتركى على رفقى، والأرمنى صاروخان الذى حصل بعد ذلك على الجنسية المصرية بعد ثورة 1952.
 
وظل الكاريكاتير السياسى البطل حتى جاء جيل ثورة 52 (صلاح جاهين ـ بهجورى ـ حجازى ـ رجائى) وتحول شكل الكاريكاتير إلى التخلص من الكثير من الخطوط والاهتمام بالرمزية والتأكيد على خفة دم الشعب المصرى بالأفكار الاجتماعية التى هى فى صميم المشكلة السياسية، وحاول هذا الجيل التأكيد على أن الحديث عن الأزمات الاجتماعية، من البيروقراطية أو أزمات العيش والبطالة، هى كلها أفكار سياسية.
 
تعود المتلقى المصرى والعربى على الشكل الجديد للكاريكاتير، ومضى هذا الجيل فى الترسيخ لمدرسة الكاريكاتير فى العصر الحديث، 
ومهد الطريق الى الجيل الثالث من رسامى الكاريكاتير (جمعة ـ تاج ـ رؤوف ـ سمير ـ اللباد ـ محسن ـ بطراوى) كوكبة شبابية يسعى كل منهم لصنع أسلوب خاص، البعض التزم بالتقليد الحرفى حتى تخلص منه سريعا، والبعض راح إلى فكرة التجريب حتى الوصول إلى الأسلوب الذى يرتاح إليه 
والبعض فكر فى الاجتهاد الشخصى.. فكان الفنان جمعة، وهو طالب (قفشه) الأستاذ البرت مسيحة مدرس اللغة الانجليزية يرسم أثناء الشرح على كشكول الدرس رسومات يسخر فيها من الجميع، ووسط حالة الرعب للتلميذ جمعة ابتسم الأستاذ وتحول من رجل ضخم الجثة إلى شخص هادئ وجد راحة باله فى تلميذه، ودعاه إلى منزله وأهداه كتابا عن الكاريكاتير باللغة الانجليزية، وقدمه إلى مدرسة الكاريكاتير مجلة «روزاليوسف» ليطلع على أعماله الفنان بهجت عثمان ويثنى عليها، وكانت أول أعماله المنشورة فى 1958 شهر رمضان 
وهو مازال طالبا بكلية التجارة جامعة فؤاد الأول، ولكن لإحساس خاص يملكه جمعة أحس أن عليه أن يبذل الوقت والجهد أكثر فانقطع لبعض الوقت يراقب أكثر ويصنع الاسكتشات ويرسم الناس والأحياء ويصنع حالة من الخطوط الخاصة ويرتكن إلى خطوط للبورترية ماركة جمعة فقط.

وعندما استراح الفنان داخله إلى خطوطه عاد مرة أخرى إلى بيته مجلة «روزاليوسف» ليلتقى بأستاذ آخر هو الفنان ناجى كامل والذى يعتبره الأستاذ الحقيقى له.. وعنده التقى حسن فؤاد، صياد النجوم الماهر، ويكتشف موهبته لينشر بعده صفحتين البورترية والفكره السياسية، وتنطلق موهبته الحقيقية ويصنع لنفسة الأسلوب الخاص، والريشة التى تعرف مداد الحبر، وحجم الورقة البيضاء، وصناعة الكتلة داخل
 المساحة، لتنفجر فكرة قد تؤدى بصاحبها إلى السجن فى ظل أنظمة لم تكن تدرك معنى المعارضة، وهى الناصية التى كان يرتاح إليها جمعة، لا يقف إلا على ناصية المعارضة بتوجه يسارى يتفق مع انتمائه السياسى، وهو الناصرى الهوى، حتى عندما رسم فى جريدة «الوفد» كان يمثل اليسار داخل اليمين، وهى التجربة التى قال عنها «عندما عرض على العمل فى جريدة «الوفد» عام 90 ترددت كثيراً وظللت شهرين حتى أعطيهم الموافقة على العمل، وكنت أعمل فى الجريدة التى كانت تحترم توجهاتى السياسية، واستشرت أكثر من صديق من رسامى الكاريكاتير، وقال لى حجازى يا جمعة نحن مسئولين عن التاريخ وليس الجغرافيا، بمعنى أن التاريخ اليومى هو مهمتنا أى ما يحدث، والمكان ليس مسئوليتنا. أما الفنان زهدى فقال لى رسام الكاريكاتير يحتاج إلى نافذة يطل منها كل يوم وهذا ما تمثله الجريده اليومية”

ولأنه فنان حقيقى ظل يرسم الكاريكاتير فى كل الجرائد المعارضة بانتمائه الفكرى وليس بهوى الجريدة، فعندما غيرت جريدة «الشعب» من توجهها السياسى تركها جمعة فورا ليرسم بـ”الأهالى”.. يرسم ما يتفق مع فكره وحالته الوجدانية لأنه يصنع موقفا وليس تاجر شنطة، حتى فى اختلافه مع النظام الذى ضيق على رسومه بعد مواقفه السياسية من اتفاقية كامب ديفيد، أو ربما الاختلاف مع رئيس تحرير جاء من منظومة فكرية مختلفة.

 اختار جمعة الرسم للطفل فى مجلة «ماجد» لمدة ثلاث سنوات كاملة يرتاح فيها المحارب داخله، ويشحن بطارية الصمود التى ظلت تنبض وتشعر وتحس لم يترك عشقة الكاريكاتير ولكنه اختار زاوية أخرى.
 
لا يختلف عن الخط المستقيم فى رسومه فهو خطوطه لا تختلف ولا يختلف عنها.. هكذا كان مفتاح الفنان زهدى فى قراءة أعمال جمعة فى مقدمته الرائعة عنه «لكل فنان منهجه فى ترتيب مفاجآته وبها يتشكل أسلوبه الخاص فى التعبير الكاريكاتيرى، وهذا المنهج لا يأتى من فراغ، وبعيدا عن الخصائص التى تتحدد بالتفاعل بين شخصية الفنان والبيئة التى ينشأ ويتواجد فيها فمن هذه الخصائص وليس بدونها يمكن التعرف على فكر الفنان وبالتالى فلسفته. تبقى كلمه الصفة البارزة عند جمعة أنه يمتلك حسا فنيا راقيا، كما يمتلك قدرا لا بأس به من شجاعة المحاولة بجرأة واستقلالية، وهو فى الغالب يعتمد على اعتقاد وثقة فيما يتمتع به من فطرة سليمة، فرسومه تبدو كما أنه يعتمد على إبرازها ممزوجة بقدر من التلقائية الفطرية».
 
وشهادة الفنان زهدى تبقى كما تبقى ورقة البردى شاهدة على أنه هنا كانت حياة، وأن البشر عرفوا الحضارة من أرض النيل، وأن السخرية والرسوم كانت مع الإنسان الأول، وأن رسوم جمعة حافظة للتطور السياسى المصرى والعربى والعالمى تنقل وجهة نظرنا العربية تجاه ممارسات الأنظمة القمعية فى العالم
 وتبقى رسومه عن القضية الفلسطينية سهم نافذ إلى قلب زعماء الصهيونية فهو صاحب اللوحة الشهيرة التى رسم فيها كل رؤساء إسرائيل يحمل كل واحد منهم مذبحة شهيرة، حتى من يحاول منهم التمسك بالسلام المزعوم خلعت ريشته ورقة التوت وبانت عورته وكشفت زيف الإدعاء الكاذب.. واستطاعت ريشته فضح المزاعم من خلال رسوماته التى تنشر فى أكثر من 112 جريدة أمريكية و5 أوروبية و5 أسيوية.
  
ولم يكن للفنان جمعة الذى رحل عن عالمنا قبل أيام طقوسا خاصة، فلم يكن له صومعه خاصة ولكن صومعته الناس والبشر فهو حالة اجتماعية، يعشق العمل الجماعى، وقد ظل يحلم مع الفنان زهدى بحلم الجمعية المصرية للكاريكاتير وكان له نشاط وافر فيها، لا يشغله عمله الخاص عن العمل الاجتماعى، كان هو الأقرب لكل الأجيال يعرف ويعرف أعمالهم، يعرف هواة الفن ومحترفيه، يتحدث عنهم بحب. والبعض كان ينزعج من نصائحه بضرورة أن يرسم كل فنان ما يناسب جيله، وهو هنا يقصد أن الفنان هو الأقرب الى مشاكل جيله.

 

وجمعة كان صاحب شخصية محارب، لقد وقف وحده يحارب توغل الفنان لورى الصهيونى الذى كان يحاول أن يرسم فى الصحف المصرية مدعيا أنه مناصر للقضية العربية. ووقد جمع رسوماته فى كتاب «عالم ساخن جدا» يضم أجمل  الرسوم السياسية التى للعين رؤيتها، فكرة وتنفيذا. وفى كتابه الثانى «4 حكومات ومعارضة» يلخص مسيرة حكومات مرت على مصر، ويكشف، بكل هدوء وصخب فى الوقت نفسه، كيف تسعى كل حكومة إلى تثبيت الكرسى، وذلك فى قالب ساخر يملك مشرط الجراح الماهر الذى يعرف موطن الجرح، ولا يعرف الزيف ولا أنصاف الحلول، واضح ابيض نقى.. صاحب ريشة خاصة، وحالة عبرت بدقة عن ضمير وطن.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة