في خطابه الطويل الذي أطل به الرئيس عبد الفتاح السيسي ليدشن الرؤية الاستراتيجية لمصر بعد عقد ونصف تقريباً من الآن، بشرنا الرئيس بخطة شبه متكاملة قائمة علي التنمية المستدامة تهدف في الأساس إلي تحسين جودة حياة المصريين والوصول بها إلي المستوي اللائق الذي يستحقه الوطن والمواطن.
الخطة طموح وبلا شك فقد وضعتها مجموعة متميزة، تضم خبراء في كافة التخصصات وآلاف الشباب كما أكد د. أشرف العربي وزير التخطيط لصياغة وثيقة ترسم صورة مصر المستقبل التي نحلم بها. وفي اعتقادي أنه لو نفذت الاستراتيجية بحذافيرها كما قدمها الخبراء وبدأب صادق فسيكون الشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم الخامسة والأربعين فضلاً عن المواليد الجدد هم أكثر من يحظي بثمارها، لأن الأحياء من المواطنين ممن تجاوزوا هذه السن سيكونون في سن التقاعد ولذلك ستكون فرصتهم الزمنية في الاستمتاع بنتاج هذه الاستراتيجية أقصر. ولا ضير في هذا، المهم أن نطمئن إلي مستقبل الأجيال القادمة وإلي أن يعيشوا حياة أفضل مما عاشها الآباء والأجداد عسي هؤلاء أن يدركوا في شيخوختهم نذراً من ثمار هذه التنمية. لكني كنت أتمني أن أجد ولو رقما مستهدفا واحدا في هذه الاستراتيجية أو جدولا زمنيا لمراحل تنفيذها بحيث لا تقتصر وحسب علي العناوين الكبري ورءوس الموضوعات أو النص علي الأهداف والتطلعات المدونة بلغة بليغة دونما آليات للتنفيذ.
أعلم بأنه يصعب تحديد أرقام في الاستراتيجيات الكبري متوسطة المدي مثل خطتنا هذه، التي تجمع - حسب اعتراف وزير التخطيط - بين الواقع والحلم. لكن كان من الممكن مثلاً الإشارة إلي حلم أن يكون هناك مكان لكل طفل مصري في مدارس التعليم الأساسي. وأن تكون لدينا «كذا ألف» مدرسة لهذا المستوي من التعليم بحلول عام 2030. كما كنت أتمني أن أجد في هذه الاستراتيجية حلماً ينص علي تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء. قد يقول قائل إن التنمية المستدامة ستحقق الرخاء المطلوب وتوفر الموارد التي تسمح لنا بالاستيراد، ولا عيب في ذلك فكثير من الدول المتقدمة تفعلها. لكن المشكلة أننا طالما اعتمدنا علي الاستيراد لكفاية مقومات الحياة اليومية فسوف ننفق ما يتحقق من التنمية المأمولة علي بطوننا ونظل مجتمعاً استهلاكياً معيلاً (بفتح الميم).
كنت أتمني أن ترتبط هذه الخطة التي نشرتها «الأخبار» أمس أيضاً برؤية واضحة حول بعد آخر مهم هو البعد السكاني في ظل ما يمكن وصفه «بالانفجار» الذي نعاني منه الآن ولا يوجد في الأفق ما يبشرنا بوجود تصور ولو كان عاماً للتحكم بالزيادة الهائلة في السكان وكبحها. ولو استمرت المعدلات السكانية في تضخمها الحالي فإن نصيب الفرد في التنمية سيقل كثيراً. ولو اعتمدنا علي الثروة البشرية باعتبارها أحد المكونات الرئيسية للتنمية المستدامة كما فعلت دول أخري كالصين مثلاً فإن هذا ينقلنا إلي ضرورة بناء الإنسان.
لقد وعدنا الرئيس بأنه سيظل يبني في هذا البلد طوال حياته - أطال الله بقاءه - أو مدة رئاسته. لكن البناء لا يقتصر علي العمران والتشييد، فقد يكون بناء الإنسان علي نفس القدر من الأهمية وربما يفوقها. للحق لم تتجاهل الخطة هذا الجانب وقد تناولته في الجزء الخاص بالبعد الاجتماعي وتحديداً في محاورها السادس والسابع والثامن المتعلقة بالصحة، التعليم والتدريب، والثقافة.
هنا لي وقفتان؛ فقد غابت - أولاً - كلمة «الديمقراطية» تماماً عن النص علي الرغم من أهميتها باعتبارها ركيزة أساسية في البناء الفكري للإنسان المصري، تؤثر في وعيه بحقوقه وواجباته وفي سلوكه العام وفي إيجابية أدائه. الأهم أن وجودها كان سيدل علي إيمان حقيقي للنظام الحاكم بها وضمانة لعدم العصف بأية منجزات أو تعويق لأية أهداف.
أما الوقفة الثانية فتأتي مع العبارة الأولي التي تناولت مشروعات التعليم قبل الجامعي ونصت علي: «تبني استراتيجية للاستثمار في التعليم، واستحداث مصادر التمويل علي مستوي الوزارة والمدرسة». وهي عبارة تثير الريبة والقلق أكثر مما تطمئن علي مستقبل التعليم. مفهوم طبعا أن المدرسة المقصودة هي المدرسة الحكومية، الأمر الذي يطيح في مضمونه بمجانية التعليم ويوحي بالميل نحو خصخصته، أو علي أقل تقدير بإضافة أعباء علي الطلاب وأهاليهم دون النظر لدي قدرتهم المادية، إذ لم يذكر النص المنشور حق الفقراء وغير القادرين في تعليم لائق مثلما كان الأمر في المحور الخاص بالصحة. هنا يحق لنا أن نتساءل عن طبيعة البعد الاجتماعي المقصود في التعليم لنؤكد علي حتمية أخذه في الاعتبار عند بناء الإنسان المصري.