هالة فؤاد
يتـامى الطـلاق
الثلاثاء، 05 أكتوبر 2021 - 09:47 ص
هالة فؤاد
رجعت الأم لبيت أهلها بعدما وقع يمين الطلاق عليها، لم يتم الأمر بهدوء كعادة ما يحدث فى كثير من بيوتنا فى مثل هذه الأحوال، تعالت صرخات الزوج بكل اللعنات، بادلته الزوجة سبابا بسباب، انهال عليها الزوج بضربات مبرحة، لم تحل الدماء التى سالت من وجهها دون مقاومة شرسة بكل ما أوتيت من قوة.
تعالت صرخات الأطفال الخمس مستجدية توقف ذلك المشهد الحزين، لم يرق لحالهم أى منهما، بل زادتها عنادا وقسوة ورغبة أكبر فى مزيد من التنكيل والانتقام.
ضاعت توسلات الصغار بعدما ابتلعتها صرخات الغضب المنطلقة بشراسة من حناجر الكبار، ليطبق الصمت المقبض بعدما امتدت يد الأب مقبضة بقوته الخشنة على يد الأم ليخرجها بعنوة من البيت ثم يصفعه بقوة وراءها بينما يواصل سيل سبابه المهين.
لم يكن خروجها كافيا لكبح جماح غضبه ولم تحل عيون الصغار دون استمرار جنونه الأعمى ورغبته فى الانتقام وما إن وقعت عيناه عليهم حتى انهال عليهم ضربا مثلما فعل بأمهم ثم طردهم وأمرهم باللحاق بها.
لم يكن بيت أهل الأم بعيدا وسرعان ما طرق الأطفال الباب آملين فى أمان بات مفتقدا وسكينة باتت أقرب للمستحيل، توسلت عيونهم الصغيرة بقلب أم كان يوما رحيما عليهم، لكنه بات فى تلك اللحظة مثل حجر بل أشد قسوة ، طردتهم الأم فى محاولة لرد كيد الأب، ليصبح الشارع مأوى لهم لولا قلوب الجيران الرحيمة التى حاولت التدخل لتليين قلوب أى من الوالدين .
سطور حزينة قرأتها مثل غيرى فى صفحة الحوادث لكن أوقن أن آلام وقعها لم يشعر بها مثلما شعرت من آلام.
ليست الشفقة وحدها هى التى تملكتنى بينما أتابع مصير الأطفال الحزين لكنه الألم الذى تجرعته وعادت مرارته تداهمنى بينما تعيدنى حكايتهم لنفس مصيرى وإن اختلفت التفاصيل.
تفتحت عينى على الدنيا لأجد نفسى وحيدا، بعيدا عن أمى، لا أعيش معها، تركتنى صغيرا لم أكمل عامى الأول، واكتفت بزيارة سريعة قصيرة كلما سمحت ظروفها، قلت تدريجيا بعدما أنجبت توءمين، مرت فترة طويلة قبل أن تأتينى بصحبة وليديها وليتها ما فعلت.
وليتها خرجت من حياتى ورحمتنى من تلك الزيارات المدمرة، كنت أقارن رغما عنى بين ذلك الاهتمام والحب والحنو البالغ الذى تمطره أمى لولديها بينما لاترهق نفسها بمنحنى جزءا من ذلك الاهتمام.
شعور بالنفور تجاه أمى بدأ يزداد كلما ازداد شعورى بالرفض الذى تعاملنى به رغم حرصها على ألا يظهر ما تكنه لى من رفض لكنها فشلت فى النهاية ليس بحكمى فقط بل بشهادة جدتى لأمى التى طالما حذرتها من تلك القسوة وذلك الإهمال. تسللت كلماتها المحذرة إلى سمعى رغما عنها ولم يكن ما سمعته إلا صدى ما يجول فى نفسى وحاولت تجاوزه وتكذيبه.
كبرت ولم أعرف معنى حنان الأم ولا طعم حضنها ولا دفء ضمتها ولا عذوبة كلماتها ولاحنو صوتها ولامؤازرة دعواتها ولا طبطبة يدها مهونة على جراحى وألمى ولا صوت ضحكتها مجلجلة مشاركة لى فرحى.
عشت يتيما وأمى على قيد الحياة، ولم يكن علاقتى بأبى أفضل حالا بل كانت أسوأ بكثير من تلك العلاقة الجافة بأمى وإن جاهدت لتخفف من وقعها لكن محاولاتها المصطنعة كانت تأتى دوما بعكس ما تصبو إليه .أما أبى فلم يكلف نفسه عناء التصنع الكاذب فكان صريحا لحد القسوة.
اكتفى فى البداية بالتزاماته المادية وإن أدركت فيما بعد أنها شحيحة لا تفى بكل ماكنت أحتاجه، لم يكن يتردد على زيارتى كثيرا فلم تكن النفوس قد هدأت بعد وقوع الطلاق مثلما أخبرتنى جدتى، لكن الأمر لم يتغير كثيرا بعد مرور سنوات على انفصالهما، واعتدت ألا أراه إلا مرتين أوثلاثا فى السنة ، كانت زيارته لاتختلف كثيرا عن زيارة أمى، نفس الإحساس بالنفور كأننى لست من صلبه ونفس الإحساس بالغيرة القاتلة التى تدمرنى بينما أقارن حالى بحال أولاده من زوجته الثانية لم يكن يصطحبهم معه لكن فى الدقائق المحدودة التى يضطر أن يقضيها معى لاتنقطع مكالماتهم اللحوح التى يتلقاها بصدر رحب بينما لايرهق نفسه أبدا فى منحى جزءا ولو ضئيلا من فيض ذلك الحنان الطاغى.
ماذا جنيت لأشعر أننى لعنة أمى وخطيئة أبى ؟ ماذا اقترفت من ذنوب كى أكفر عنها بذلك الرفض المقيت الذى يكنه والدى لى !! ما هو ذنبى لأعيش يتيما ووالدى على قيد الحياة !! ما الذى فعلته ليكون جزائى دوامة من الغيرة القاتلة تنهش فيما تبقى لى من روحى لامقارنة بأقرانى وإنما بأشقائى وشقيقاتى من أمى وأبى الذين ينعمون بحنان الأم وعطف الأب بينما أحرم أنا منه؟ لماذا يتمتعون بكل ماهو طيب من رغد العيش بينما أحرم أنا منه !! كل تفاصيل حياتهم تختلف كثيرا عنى ، أكلهم ،شربهم، ملابسهم، النوادى التى يترددون عليها ، أماكن الترفيه، المصايف، مستوى التعليم والمدارس الدولية التى يتلقون تعليمهم فيها.
ما الذى جنيته كى تكون حياتى أكثر شقاء وقسوة وجفاء؟ وما الذى فعلته كى أعيش مرفوضا منبوذا مكروها من أقرب قلبين من المفترض أن يكونا الأكثر رحمة وحنوا لى فى دنيا لا تقل قسوة ونفورا وقسوة من قلبيهما ؟!
لصاحب هذه الكلمات أقول :
تجربة قاسية تلك التى مرت بك، وامتحان عسير ذلك الذى خضته، وابتلاء عظيم ذلك الذى اختصه الله بك ، لكن دوما مع كل تجربة قاسية تخرج نفوسنا أكثرقوة ومع كل امتحان عسير نخوضه خبرة نكتسبها ومع كل ابتلاء منحة لا ندرك قيمتها إلا فيما بعد.
ومحنتك لاتنفرد فيها وحدك وإنما يشاركك فيها كثيرون ممن قادهم حظهم لنفس المصير، انفصال الوالدين وتفضيل كل منهما حياة بعيدة عن الآخر، والمشكلة بالطبع لا تقع فى قرار الانفصال لكن المأساة أن كلا الطرفين يتعنت فى تعامله مع الطرف الآخر ويتعمد اتخاذ كل قرار وخطوة تكون أقرب للانتقام وللأسف يدفع الأبناء ثمنا لذلك الانتقام وذلك التعنت وتلك الحرب المستعرة رغم انفصال الطرفين.
يفتقد كثير من الأزواج للأسف الحكمة والعقل والأهم الرحمة والعدل ومثلما كانت حياتهما سجلا حافلا بالخلاف والقسوة والمشاحنات تستمر حربهما المستعرة ولا يوقفها الطلاق والانفصال الصريح، ولاتمنعها مصلحة صغير يدفع من عمره وحياته وشعوره ثمن تلك المشاحنات، بل تستمر بلا رحمة لتصل إلى حد التخلى عن المسئولية بحجة أن الآخر أولى بتحملها.
تطحن النفوس القاسية نفوس فلذات الأكباد بلا رحمة ويطغى صوت عنادها على صوت الرحمة فتضن بأرق المشاعر فتتركه فريسة للصد والنفور والرفض.
رغم قسوة التجربة إلا أن يقينى أنك لن تخرج منها إلا أقوى، فلا تدع تلك المشاعر السلبية تؤثر عليك، ثق فى نفسك وقدراتك على اجتياز الصعاب. انفض غبار الإحباط والشعور بالرفض عن نفسك وازرع الأمل فى مستقبل أكثر إشراقا ورحمة، وثق أن يوما ما سيهبك الله قلبا يعوضك كل سنوات الشقاء والحرمان والقسوة، قلبا يمنحك كل حنان سنوات مضت وسنوات أخرى تأتى، لن يتخلى عنك الله فثق فى عدالته ورحمته التى ستظلك حتما بها بينما لن تغفل عينه وعدالته ورحمته وقصاصه أيضا ممن تخلى عنك ولم يراع حقوقك ولم يؤد واجبه نحوك.
هون على نفسك وثق أن قلبا حنونا فى انتظارك يعوضك غلظة القلوب القاسية، فصبر جميل والله دوما مع الصابرين.