أعتقد أن المفكر الكبير د. جلال أمين بحاجة إلي تقديم جزء ثان من كتابه القيم -ماذا حدث للمصريين؟-، والذي رصد فيه تطور المجتمع المصري عبر نصف قرن، فما شهدته البلاد من تحولات وتغيرات خلال السنوات الخمس الأخيرة ربما يفوق في عمق تأثيره ما شهدته طوال خمسين عاما.
ولعل إشارة الرئيس عبد الفتاح السيسي في خطابه أمام مجلس النواب مؤخرا إلي ضرورة إعادة بناء الشخصية المصرية لم تأت من فراغ، فمصر طوال تاريخها دولة نهرية مركزية، تحتاج إلي سلطة قوية عادلة فعالة تستطيع إدارة شئون المجتمع بكفاءة وعدالة وتحمي قيمه الأساسية.
ولا يخفي علي كثير ممن يهتمون بمتابعة وتحليل واقع المجتمع المصري، أن قيما عديدة وسمات أساسية لهذا المجتمع قد شهدت تحولا عميقا وغريبا أحيانا، في مقدمتها تلك الطبيعة العنيفة التي باتت تغلف كثيرا من أفعالنا ومواقفنا، فتراجع التسامح لصالح الانفعالية والحدة والانحياز للرؤية ذات الاتجاه الواحد.
ولم تعد قيم العلم والعمل هي معيار الترقي والصعود الاجتماعي، بل حلت قيم الانتهازية والفهلوة مكانها، وتحول المجتمع من منتج للقيمة إلي مستهلك شره لموارده، وبدلا من العمل لحل الأزمات، صارت هناك فئات تحترف استغلال تلك الأزمات لتتكسب منها وتحول حاجة الناس إلي ثروة في جيوبها، فانتعشت أعمال السمسرة والوساطة في كل شيء تمكن هؤلاء المستغلون من تحصين وجودهم، وتحويل الأزمات من أمور طارئة إلي أمراض مزمنة للحفاظ علي مصالحهم وتعظيم مكاسبهم.
تحول آخر كبير يثير الحزن، ويتعلق بملف كبير وخطير ألا وهو الفساد، فاللافت هو ذلك التواطؤ المجتمعي الغريب مع الأمر، فلم يعد الفاسدون يتخفون، وبات الناس يعتبرون وجود الفساد أمرا واقعا وقدرا محتوما وليس جريمة تستحق العقاب، بل وأحيانا باتوا يستنكرون من يحاول فضح هذا الفساد والتصدي له، وهكذا تحولت الايجابية إلي وصمة، وصار الأنقياء أغبياء (!)
ومن بين ما عانته مصر في السنوات الأخيرة ضعف قدرة الدولة علي تطبيق القانون، فكثرت الانحرافات، وغاب الحساب والعقاب، وتصدر أصحاب الصوت العالي والنفوذ المشهد، وانزوي أصحاب العقل والعلم.
لذلك لا أمل في بناء أو إصلاح دون مواجهة صارمة لكل مظاهر العشوائية والفساد في مجتمعنا، وعندما تستعيد الدولة قدرتها علي الفعل الحاسم وتحقيق العدل، ستستعيد الشخصية المصرية قيمها الأساسية التي طمستها سنوات العشوائية والفوضي.