«سنظل نتعلم منه.. وسنتفق أو نختلف مع بعض ما قال أو كتب.. لكنه سيبقي الأستاذ».
من الصعب علينا أن نتلقي في أربعة وعشرين ساعة خبرين عن رحيل اثنين من الرموز القليلة التي كنا نشعر في وجودهما معنا بشئ من الفخر والاطمئنان.. كنا نعتز بتاريخ كل منهما وعلمه ورصيده الهائل من الوطنية والحب للوطن.. والأداء الرائع علي كل المستويات.
الدكتور بطرس بطرس غالي.. موسوعة السياسة الدولية.. درسها لطلابه في الجامعة.. وكتبها لقرائه في مجلة السياسة الدولية.. ومارسها وزيرا محترفا ومحترما من كل العالم الذي اختاره بعد ذلك لأرفع المناصب الدولية سكرتيرا عاما للأمم المتحدة.. وكانت مواقفه في كل المناصب تنبع من ضميره الوطني دون النظر إلي التوافقات الدولية حتي أغضب القطب الأوحد والأقوي الولايات المتحدة وتابعتها إسرائيل في تقريره عن مذبحة « قانا «.. فحشدوا ضده وأزاحوه من المنصب بعد فترة واحدة وهو أمر غير مسبوق.
وواصل الدكتور غالي أداءه في منظمة الدول الفرانكوفونية ليبهر العالم بأدائه.. وعلي المستوي المحلي ترأس المجلس القومي لحقوق الإنسان.. وحتي آخر أيامه وقد تجاوز التسعين عاما كان يمارس نشاطه كشاب في العشرين يقرأ ويكتب ويحاضر ولم يبخل بعلمه علي أحد.. كان غاية في الأدب والهدوء.. يحترم كل رأي ويرد عليه بمنطق.. لم ينفعل يوما.. ولم يخرج من فمه إلا الكلام الطيب.. رحمه الله بقدر ما أعطي لوطنه ولتلاميذه من الدبلوماسيين العظماء.
وبعد ساعات من رحيل الدكتور غالي.. تلقينا خبر رحيل الأستاذ محمد حسنين هيكل.. وهو الذي استحق لقب الأستاذ بعد تاريخ حافل في عالم الصحافة والسياسة لم يحقق أحد ربما في التاريخ كله ما حققه الأستاذ.. علي مدي ما يقرب من ثلاثة أرباع.. القرن كان هيكل مخبرا صحفيا دءوبا.. صاحب أكبر عدد من الانفرادات بفضل قربه من صناع الأخبار في مصر والعالم.. وكان مجددا باستمرار في أسلوبه وعرضه وعناوينه.. وكان يخاطب كل الناس علي اختلاف مستوياتهم.. فكان الزعماء والعامة ينتظرون كتاباته كما لم ينتظروا كاتبا آخر.
الأستاذ كان تاريخا.. كما كان يصنع التاريخ.. وكان كل من امتهن الصحافة والكتابة يحسدونه علي ذلك.. حتي الذين اختلفوا معه في السنوات الأخيرة كانوا يتمنون لو نالوا بعضا من شهرته وموهبته.. أو بعضا من علاقاته وتجاربه أو ممن عرفهم والتقي بهم.. أو حتي قليلا من إبداعاته الصحفية والسياسية وكتبه التي كانت الأكثر مبيعا رغم ارتفاع أسعارها.. فقد كان الصحفي الوحيد الذي يشتري الناشرون كتاباته بالكلمة.. وكان الوحيد الذي كانت تطبع كتبه بكل لغات العالم قبل أن تطبع في مصر.
كان لي شرف لقاء الأستاذ أكثر من مرة في مناسبات مختلفة.. ومثلي مثل كل زملائي وأبناء جيلي كنا مبهورين بشخصيته وحضوره الطاغي وعقله الحاضر دائما وثقافته الواسعة بلا حدود.. وتلقيه كل كلمة بابتسامة.. كان دائما شغوفا بسماع كل رأي وكل تعليق حتي لو كان مختلفا معه.. كان مؤمنا دائما بالشباب ويري فيهم الأمل.
نحن الجيل الذي تعلم قراءة الصحف علي كلماته عندما كان بائع الصحف يمر علي المنازل ينادي «أهرام.. هيكل «.. كان الموعد كل جمعة مع مقاله « بصراحة « الذي كنا نعرف منه ما لم نكن نعرفه من كاتب آخر.. وتعلمنا منه ما كنا لا نتعلمه من أحد غيره. ثم كان هو من استقبلنا مجموعة من الدفعة الأولي لكلية الإعلام رشحها أستاذنا القدير الراحل جلال الدين الحمامصي عندما بدأنا أول خطوة للتدريب في جريدة الأهرام.. ثم كانت هناك لقاءات أخري مع مجموعات.. مهما كانت اللقاءات قليلة إلا أن انبهارنا بالأستاذ حتي ولو كان عن بعد لم ينقطع.. بل كان يزداد حتي لو اختلف البعض منا معه.. كلنا كان يتمني أن يصبح في مكانه ومكانته.. لكننا ولا أحد آخر وصل إلي أول درجة في سلم عظمته ونجاحه وشهرته واحترام العالم كله له.
الأستاذ هيكل نموذج لا يتكرر.. ومن الصعب أن يتكرر.. ونحن - وهو في رحاب الله - سنظل نتعلم منه.. وسنتفق أو نختلف مع بعض ما قال أو كتب.. لكنه سيبقي الأستاذ