حرب أكتوبر
نصرة لبلدنا.. بسم الله
الخميس، 07 أكتوبر 2021 - 09:10 ص
علاء عبد الهادى
عندما وقعت النكسة - ولا نكسة إلا نكستنا فى 67- كنت دون الخامسة بعدة شهور، لم تحتفظ ذاكرتى بمشاهد عن أجواء الحزن وكسرة النفس التى كانت فى كل بيت، لم تحتفظ حتى بمشاهد مواساة أمى لأمهات من القرية فقدن رجالهن «على الجبهة» أثناء انسحاب قواتنا، لكنى متخيل حال أمى، كانت مثل بقية النسوة فى قريتنا، لابد أن تجامل صاحبة الابتلاء بارتداء الأسود، والنحيب، ولا مانع من الصويت، ومن ينفلت حزنها من عقاله، قد تلطم، وتهيل التراب على رأسها.
وعت ذاكرتى واحتفظت بمشاهد تبعات النكسة، وحرب الإستنزاف، وإن كنت لم أعرف هذا المصطلح الا عندما كبرت، فى كفر ميت سراج لا سبيل لمتابعة الأخبار إلا من خلال راديو تليمصر خشب.. كان يضعه عم الحاج السيد البراوى البقال فى مكان ظاهر فوق فاترينة الحلاوة الطحينية، يتحلق حوله رجال وشباب القرية لسماع نشرة الأخبار، ومعرفة أخبار الجبهة : الزعيم عبد الناصر يؤكد أن ما أخذ بالقوة لن يسترد بغير القوة.. مصر تعيد بناء قواتها المسلحة.. تواصل قواتنا المسلحة أعمالها خلف خطوط العدو، وتكبده خسائر فادحة فى المعدات والأفراد.. كانت تعجبنى موسيقى نشرة الأخبار فى الثانية والنصف ظهراً، أشعر بنشوة تسرى فى جسمى وأنا اسمعها.. الراديو وسيلة أهل الكفر لمعرفة الأخبار ولسماع قرآن المغرب بصوت الشيخ محمد رفعت وبالذات فى أيام رمضان، يجلس الرجال على المصطبة حتى إذا انطلق مدفع الإفطار يهرع كل منهم إلى داره، معرفة الأخبار كان لها سبيل آخر، الجريدة التى كان يشتريها أى «أفندى» من الكفر عندما ينزل البندر، كان عددهم مازال قليلا، وكان الجرنال، يتنقل من دار الى دار، لا مانع من قراءته ثانى أو حتى ثالث وربما رابع يوم.
تعى ذاكرتى جيداً بدايات تبعات «النكسة» ثم حرب الإستنزاف، مع تعمد اسرائيل قصف واستهداف مدن القناة، لم أع معنى أو تفاصيل الصورة وقتها، ولكن فوجئت ذات يوم اننا مطالبون بترك مدرستنا القريبة من دارنا الى مدرسة أخرى فى الجهة المقابلة من الكفر، لأن فصول مدرستنا ستتحول إلى سكن للمهجّرين!
لفظة جديدة على أذنى لم يعها عقلى الصغير.. هؤلاء سكان مدن القناة، أجبروا على ترك بيوتهم وراءهم والنزوح إلى كل محافظات مصر هرباً من المدفعية الإسرائيلية التى كانت تستهدفهم، ردا على ضربات الجيش المصرى التى أوجعتهم فى معركة رأس العش، وعمقت جراحهم بإغراق إيلات فخر البحرية الإسرائيلية، وبالفعل انتقلنا بين عشية وضحاها للمدرسة الجديدة، وتركنا خلفنا فصولنا للسكان الجدد الذين بقوا فى المدرسة حتى انتهت الحرب، وعاد المهجرين بعد ذلك بسنوات ليست قليلة الى بيوتهم التى كانت قد تحولت الى أطلال، اندمج أهل القناة مع أهل الكفر، ولكنهم لم يتزاوجوا، لا أنسى يوم مات فيه أحد هؤلاء المهجرون، فى أول أسبوع لاستقرارهم.. الموت علينا حق، ولكن كانت أحزانهم مضاعفة، أحزان البعد عن البيت، والحى والشارع، والآن الموت والدفن فى أرض اعتبروها غريبة !.
ذات صباح جمعنا ناظر المدرسة فى الطابور، وطلب منا جميعا أن نستمع الى إرشادات فى غاية الأهمية، نلتزم بتطبيقها وننقلها الى أهلنا، ارشادات تتعلق بكيفية الإحتماء من القنابل الإسرائيلية.
ولكن ماذا تعنى قنبلة؟ لم اكن قد شاهدت التليفزيون بعد، رأيت ماعرفت بعد ذلك انه شاشة سينما، عندما جاءت إلى حوش المدرسة سيارة حكومة عليها ميكرفون، وأنزلوا منها أجهزة وعلقوا قماشة بيضاء كبيرة غطت الجدار الرئيسى للمدرسة بارتفاع ثلاثة أدوار، وجلسنا بعد انتهاء اليوم الدراسى عندما حل الظلام لنشاهد الجان والعفاريت يتحركون أمامنا، يتكلمون كما نتكلم، بل ويرقصون ويغنون، نتسرب بالقرب من الجدار فى محاولة لمعرفة من أين يأتون وإلى أين يذهبون من شىء يسمونه شاشة، ولكن دون جدوى.. ماذا بقى كى تقوم القيامة؟
قالوا لى ان التليفزيون مثل الشاشة التى شاهدتها فى المدرسة ولكن أصغر، ويوضع فى البيوت، وستجد فيه من يتحدث ويتكلم كأنه معك فى الدوار !
لم يع عقلى كنه القنبلة، عرفت أن اليهود الأشرار – نخلط دائما بين لفظة اليهود والإسرائيليين وحتى الصهيونيين – يريدون طردنا من أرضنا تماما كما طردوا المهجرين الذين سكنوا مدرستى.
كنت أقف أول الصف ليس لأننى تلميذ متفوق ولكن لقصر قامتى، حظى أنى وقفت فى مواجهة الناظر الذى اعتلى منصة أمامى مباشرة، فلم ار غير كرشه الذى يتقدم جسمه، حذرنا الناظر من التقاط اى قلم أو ساعة أو راديو، أو ولاعة، أو اى شىء تجده فى الطريق، «الطيارات» الإسرائيلية تلقيها تمويها لتنفجر فى وجه من يلمسها» !
وطلب منا فى حالة سماع صافرات الإنذار الاحتماء بالأرض والبحث عن حفرة تفاديا للقنابل التى تلقيها الطائرات الإسرائيلية أثناء الغارات التى تستهدف محافظات الدلتا.
تناولت يومها وجبتى المدرسية: رغيف فينو هش طازج جميل، رائحته لازالت تختزنها ذاكرتى إلى اليوم، وقطعة جبنة «مثلثات» لم أكن أحبها كنت أعتقد انها قطعة صابون، وقطعة من العجوة المهروسة. وما إن انتهيت من
أكلها حتى دوت صافرات الإنذار معلنة بدء غارة إسرائيلية، كاد قلبى الصغير أن يتوقف، بالكاد وصلت إلى حوش المدرسة وألقيت وجهى على الأرض، وصدرى يكاد ينغلق من كثرة التراب الذى استنشقته مع أنفاسى المتلاحقة، تسرب ريقى من فمى المفتوح وتحول الى طينة، وابتلت المريلة بنقاط خانتنى من شدة خوفى من القنبلة التى كنت أعتقد انها تشبه عجلة السيارة تصيب أى رأس يرتفع عن الأرض واكتشف بعد ذلك أن ما حدث كان تجربة!
رحلت عن قريتى إلى مدينة شبين الكوم المجاورة، حيث أغلب الشبابيك فيها زجاج، ولكن لماذا يدهنونه باللون الأزرق ويضعون عليه شريطا لاصقا، ولماذا يبنون جدران أمام مدخل العمارات الكبيرة ؟عرفت أن كل هذا بسبب الطيران الإسرائيلى الذى يخترق عمداً كسر حاجز الصوت، ليكسر زجاج البيوت، ومعه يحطم هامة المصريين وينال من عزيمتهم باسترداد الأرض ومسح العار.
ومات عبد الناصر، ومشيت فى جنازته صغيرا دون أن أدرى، مصر كلها كانت جنازة كبيرة فى كل مدينة وقرية ونجع، خرجوا يبكون فراق ناصر الذى لم ينصرهم كما وعد فى 67 ولم يلق اسرائيل فى البحر،بل هى التى ألقتنا فى جب نحتاج إلى عقود لنخرج منه.
فى فقرة الصحافة فى طابور الصباح بمدرسة خالد بن الوليد سمعت خبر إسقاط اسرائيل لطائرة مدنية فوق سيناء وان كل من فيها ماتوا ومنهم الإذاعية سلوى حجازى، كانت أول مرة ألتفت فيها الى اسم سيناء، ومن بعدها بدأ الإسم يتكرر كثيراً، واعتدت سماع أخبار تتحدث عن أعمال إبرار تقوم بها قواتنا المسلحة خلف خطوط العدو فى عمق سيناء المحتلة.
نحن الآن فى أكتوبر 1973، انتقلت للصف السادس الإبتدائى، وكانت فى ذلك الوقت لها «شنة ورنة»، وفى منتصف يوم ٦ أكتوبر وقع ما يشبه الزلزال فى حى البر الشرقى فى مدينة شبين الكوم الهادئة، خرج الناس إلى الشرفات، والشوارع صراخ، يختلط مع تكبير.
عبرنا قناة السويس، وقواتنا تقاتل الآن فى سيناء!
شارك والدى الوقور غيره من سكان حينا الهادىء صخب فرحة البيان الأول بعبور قواتنا المسلحة..أبى يقفز ويرقص ويغنى.. الشيخ على – كما كان يناديه أهل قريته تقديراً واحتراماً – يرقص؟
ولكن لماذا تحول فرح أبى بعد قليل إلى قلق ولماذا أراه الآن يقضم أظافره ؟
يتابع البيانات عبر شاشة التليفزيون الذى اشتريناه حديثا وينتقل منه الى الراديو، يأخذ وقتا طويلا فى محاولة ضبط المؤشر على صوت اذاعة يتحدث مذيعوها بلهجة لم أعتدها، عرفت فيما بعد انه كان يحاول سماع هيئة الإذاعة البريطانية واذاعة مونت كارلو.
قلق والدى كان له ما يبرره، ولم يكن حالة خاصة به، سمعت جارنا الشيخ سليمان يشارك أبى مخاوفه، ويدعو الله أن يصدقوا هذه المرة، ولا تكن هذه البيانات مثل سابقتها.
نلت شرف أن ألقى فقرة الصحافة فى أول يوم نعود فيه إلى مدارسنا بعد تعليق الدراسة بسبب الحرب، شعرت بنشوة تسرى فى عروقى، وأنا أنطق اسم سيناء فى قطعة تعبير عبر ميكرفون اذاعة المدرسة، اقتبست أغلبها من جريدة الأخبار.. دخل مدرس اللغة العربية أول حصة، وكتب فى أعلى منتصف السبورة «تعبير» وراح يحدثنا عن عظمة نصر أكتوبر، وطلب من كل منا أن نكتب موضوع التعبير عن النصر، ودخل بعده مدرس الرسم، ليطلب منا أن نرسم لوحة من وحى حرب أكتوبر، اكتسبت مهارة فى رسم جنزير الدبابة، بعد أن علمنى المدرس طريقة بسيطة لذلك.ومن يومها وأن أستمتع بأغانى عبد الحليم الوطنية نفس استمتاعى بأغانيه العاطفية وما إن أتذكر أكتوبر حتى اردد : عاش اللى قال عدوا القناة
نصرة لبلدنا.. بسم الله بسم الله.. بايدين ولادنا.. بسم الله باسم الله.
ما أشبه اليوم بالبارحة.