حرب أكتوبر
حرب أكتوبر


نصرة‭ ‬لبلدنا‭.. ‬بسم‭ ‬الله‭ ‬

أخبار الأدب

الخميس، 07 أكتوبر 2021 - 09:10 ص

 

علاء‭ ‬عبد‭ ‬الهادى

عندما‭ ‬وقعت‭ ‬النكسة‭ - ‬ولا‭ ‬نكسة‭ ‬إلا‭ ‬نكستنا‭ ‬فى‭ ‬‭ ‬67-‭ ‬كنت‭ ‬دون‭ ‬الخامسة‭ ‬بعدة‭ ‬شهور،‭ ‬لم‭ ‬تحتفظ‭ ‬ذاكرتى‭ ‬بمشاهد‭ ‬عن‭ ‬أجواء‭ ‬الحزن‭ ‬وكسرة‭ ‬النفس‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬بيت،‭ ‬لم‭ ‬تحتفظ‭ ‬حتى‭ ‬بمشاهد‭ ‬مواساة‭ ‬أمى‭ ‬لأمهات‭ ‬من‭ ‬القرية‭ ‬فقدن‭ ‬رجالهن‭ ‬‮«‬على‭ ‬الجبهة‮»‬‭ ‬أثناء‭ ‬انسحاب‭ ‬قواتنا،‭ ‬لكنى‭ ‬متخيل‭ ‬حال‭ ‬أمى،‭ ‬كانت‭ ‬مثل‭ ‬بقية‭ ‬النسوة‭ ‬فى‭ ‬قريتنا،‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تجامل‭ ‬صاحبة‭ ‬الابتلاء‭ ‬بارتداء‭ ‬الأسود،‭ ‬والنحيب،‭ ‬ولا‭ ‬مانع‭ ‬من‭ ‬الصويت،‭ ‬ومن‭ ‬ينفلت‭ ‬حزنها‭ ‬من‭ ‬عقاله،‭ ‬قد‭ ‬تلطم،‭ ‬وتهيل‭ ‬التراب‭ ‬على‭ ‬رأسها‭.‬

وعت‭ ‬ذاكرتى‭ ‬واحتفظت‭ ‬بمشاهد‭ ‬تبعات‭ ‬النكسة،‭ ‬وحرب‭ ‬الإستنزاف،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬لم‭ ‬أعرف‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬الا‭ ‬عندما‭ ‬كبرت،‭ ‬فى‭ ‬كفر‭ ‬ميت‭ ‬سراج‭ ‬لا‭ ‬سبيل‭ ‬لمتابعة‭ ‬الأخبار‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬راديو‭ ‬تليمصر‭ ‬خشب‭.. ‬كان‭ ‬يضعه‭ ‬عم‭ ‬الحاج‭ ‬السيد‭ ‬البراوى‭ ‬البقال‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬ظاهر‭ ‬فوق‭ ‬فاترينة‭ ‬الحلاوة‭ ‬الطحينية،‭ ‬يتحلق‭ ‬حوله‭ ‬رجال‭ ‬وشباب‭ ‬القرية‭ ‬لسماع‭ ‬نشرة‭ ‬الأخبار،‭ ‬ومعرفة‭ ‬أخبار‭ ‬الجبهة‭ : ‬الزعيم‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬أخذ‭ ‬بالقوة‭ ‬لن‭ ‬يسترد‭ ‬بغير‭ ‬القوة‭.‬‭. ‬مصر‭ ‬تعيد‭ ‬بناء‭ ‬قواتها‭ ‬المسلحة‭.. ‬تواصل‭ ‬قواتنا‭ ‬المسلحة‭ ‬أعمالها‭ ‬خلف‭ ‬خطوط‭ ‬العدو،‭ ‬وتكبده‭ ‬خسائر‭ ‬فادحة‭ ‬فى‭ ‬المعدات‭ ‬والأفراد‭.. ‬كانت‭ ‬تعجبنى‭ ‬موسيقى‭ ‬نشرة‭ ‬الأخبار‭ ‬فى‭ ‬الثانية‭ ‬والنصف‭ ‬ظهراً،‭ ‬أشعر‭ ‬بنشوة‭ ‬تسرى‭ ‬فى‭ ‬جسمى‭ ‬وأنا‭ ‬اسمعها‭.. ‬الراديو‭ ‬وسيلة‭ ‬أهل‭ ‬الكفر‭ ‬لمعرفة‭ ‬الأخبار‭ ‬ولسماع‭ ‬قرآن‭ ‬المغرب‭ ‬بصوت‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬رفعت‭ ‬وبالذات‭ ‬فى‭ ‬أيام‭ ‬رمضان،‭ ‬يجلس‭ ‬الرجال‭ ‬على‭ ‬المصطبة‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬انطلق‭ ‬مدفع‭ ‬الإفطار‭ ‬يهرع‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬إلى‭ ‬داره،‭ ‬معرفة‭ ‬الأخبار‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬سبيل‭ ‬آخر،‭ ‬الجريدة‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬يشتريها‭ ‬أى‭ ‬‮«‬أفندى‮»‬‭ ‬من‭ ‬الكفر‭ ‬عندما‭ ‬ينزل‭ ‬البندر،‭ ‬كان‭ ‬عددهم‭ ‬مازال‭ ‬قليلا،‭ ‬وكان‭ ‬الجرنال،‭ ‬يتنقل‭ ‬من‭ ‬دار‭ ‬الى‭ ‬دار،‭ ‬لا‭ ‬مانع‭ ‬من‭ ‬قراءته‭ ‬ثانى‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬ثالث‭ ‬وربما‭ ‬رابع‭ ‬يوم‭.‬

تعى‭ ‬ذاكرتى‭ ‬جيداً‭ ‬بدايات‭ ‬تبعات‭ ‬‮«‬النكسة‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬حرب‭ ‬الإستنزاف،‭ ‬مع‭ ‬تعمد‭ ‬اسرائيل‭ ‬قصف‭ ‬واستهداف‭ ‬مدن‭ ‬القناة،‭ ‬لم‭ ‬أع‭ ‬معنى‭ ‬أو‭ ‬تفاصيل‭ ‬الصورة‭ ‬وقتها،‭ ‬ولكن‭ ‬فوجئت‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬اننا‭ ‬مطالبون‭ ‬بترك‭ ‬مدرستنا‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬دارنا‭ ‬الى‭ ‬مدرسة‭ ‬أخرى‭ ‬فى‭ ‬الجهة‭ ‬المقابلة‭ ‬من‭ ‬الكفر،‭ ‬لأن‭ ‬فصول‭ ‬مدرستنا‭ ‬ستتحول‭ ‬إلى‭ ‬سكن‭ ‬للمهجّرين‭!‬

لفظة‭ ‬جديدة‭ ‬على‭ ‬أذنى‭ ‬لم‭ ‬يعها‭ ‬عقلى‭ ‬الصغير‭.. ‬هؤلاء‭ ‬سكان‭ ‬مدن‭ ‬القناة،‭ ‬أجبروا‭ ‬على‭ ‬ترك‭ ‬بيوتهم‭ ‬وراءهم‭ ‬والنزوح‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬محافظات‭ ‬مصر‭ ‬هرباً‭ ‬من‭ ‬المدفعية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تستهدفهم،‭ ‬ردا‭ ‬على‭ ‬ضربات‭ ‬الجيش‭ ‬المصرى‭ ‬التى‭ ‬أوجعتهم‭ ‬فى‭ ‬معركة‭ ‬رأس‭ ‬العش،‭ ‬وعمقت‭ ‬جراحهم‭ ‬بإغراق‭ ‬إيلات‭ ‬فخر‭ ‬البحرية‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬وبالفعل‭ ‬انتقلنا‭ ‬بين‭ ‬عشية‭ ‬وضحاها‭ ‬للمدرسة‭ ‬الجديدة،‭ ‬وتركنا‭ ‬خلفنا‭ ‬فصولنا‭ ‬للسكان‭ ‬الجدد‭ ‬الذين‭ ‬بقوا‭ ‬فى‭ ‬المدرسة‭ ‬حتى‭ ‬انتهت‭ ‬الحرب،‭ ‬وعاد‭ ‬المهجرين‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بسنوات‭ ‬ليست‭ ‬قليلة‭ ‬الى‭ ‬بيوتهم‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬تحولت‭ ‬الى‭ ‬أطلال،‭ ‬اندمج‭ ‬أهل‭ ‬القناة‭ ‬مع‭ ‬أهل‭ ‬الكفر،‭ ‬ولكنهم‭ ‬لم‭ ‬يتزاوجوا،‭ ‬لا‭ ‬أنسى‭ ‬يوم‭ ‬مات‭ ‬فيه‭ ‬أحد‭ ‬هؤلاء‭ ‬المهجرون،‭ ‬فى‭ ‬أول‭ ‬أسبوع‭ ‬لاستقرارهم‭.. ‬الموت‭ ‬علينا‭ ‬حق،‭ ‬ولكن‭ ‬كانت‭ ‬أحزانهم‭ ‬مضاعفة،‭ ‬أحزان‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬البيت،‭ ‬والحى‭ ‬والشارع،‭ ‬والآن‭ ‬الموت‭ ‬والدفن‭ ‬فى‭ ‬أرض‭ ‬اعتبروها‭ ‬غريبة‭ !. ‬

ذات‭ ‬صباح‭ ‬جمعنا‭ ‬ناظر‭ ‬المدرسة‭ ‬فى‭ ‬الطابور،‭ ‬وطلب‭ ‬منا‭ ‬جميعا‭ ‬أن‭ ‬نستمع‭ ‬الى‭ ‬إرشادات‭ ‬فى‭ ‬غاية‭ ‬الأهمية،‭ ‬نلتزم‭ ‬بتطبيقها‭ ‬وننقلها‭ ‬الى‭ ‬أهلنا،‭ ‬ارشادات‭ ‬تتعلق‭ ‬بكيفية‭ ‬الإحتماء‭ ‬من‭ ‬القنابل‭ ‬الإسرائيلية‭.‬

‏‭ ‬ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬تعنى‭ ‬قنبلة؟‭ ‬لم‭ ‬اكن‭ ‬قد‭ ‬شاهدت‭ ‬التليفزيون‭ ‬بعد،‭ ‬رأيت‭ ‬ماعرفت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬انه‭ ‬شاشة‭ ‬سينما،‭ ‬عندما‭ ‬جاءت‭ ‬إلى‭ ‬حوش‭ ‬المدرسة‭ ‬سيارة‭ ‬حكومة‭ ‬عليها‭ ‬ميكرفون،‭ ‬وأنزلوا‭ ‬منها‭ ‬أجهزة‭ ‬وعلقوا‭ ‬قماشة‭ ‬بيضاء‭ ‬كبيرة‭ ‬غطت‭ ‬الجدار‭ ‬الرئيسى‭ ‬للمدرسة‭ ‬بارتفاع‭ ‬ثلاثة‭ ‬أدوار،‭ ‬وجلسنا‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬اليوم‭ ‬الدراسى‭ ‬عندما‭ ‬حل‭ ‬الظلام‭ ‬لنشاهد‭ ‬الجان‭ ‬والعفاريت‭ ‬يتحركون‭ ‬أمامنا،‭ ‬يتكلمون‭ ‬كما‭ ‬نتكلم،‭ ‬بل‭ ‬ويرقصون‭ ‬ويغنون،‭ ‬نتسرب‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬الجدار‭ ‬فى‭ ‬محاولة‭ ‬لمعرفة‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬يأتون‭ ‬وإلى‭ ‬أين‭ ‬يذهبون‭ ‬من‭ ‬شىء‭ ‬يسمونه‭ ‬شاشة،‭ ‬ولكن‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭.. ‬ماذا‭ ‬بقى‭ ‬كى‭ ‬تقوم‭ ‬القيامة؟

قالوا‭ ‬لى‭ ‬ان‭ ‬التليفزيون‭ ‬مثل‭ ‬الشاشة‭ ‬التى‭ ‬شاهدتها‭ ‬فى‭ ‬المدرسة‭ ‬ولكن‭ ‬أصغر،‭ ‬ويوضع‭ ‬فى‭ ‬البيوت،‭ ‬وستجد‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬يتحدث‭ ‬ويتكلم‭ ‬كأنه‭ ‬معك‭ ‬فى‭ ‬الدوار‭ !‬

لم‭ ‬يع‭ ‬عقلى‭ ‬كنه‭ ‬القنبلة،‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬اليهود‭ ‬الأشرار‭ ‬–‭ ‬نخلط‭ ‬دائما‭ ‬بين‭ ‬لفظة‭ ‬اليهود‭ ‬والإسرائيليين‭ ‬وحتى‭ ‬الصهيونيين‭ ‬–‭ ‬يريدون‭ ‬طردنا‭ ‬من‭ ‬أرضنا‭ ‬تماما‭ ‬كما‭ ‬طردوا‭ ‬المهجرين‭ ‬الذين‭ ‬سكنوا‭ ‬مدرستى‭.‬

كنت‭ ‬أقف‭ ‬أول‭ ‬الصف‭ ‬ليس‭ ‬لأننى‭ ‬تلميذ‭ ‬متفوق‭ ‬ولكن‭ ‬لقصر‭ ‬قامتى،‭ ‬حظى‭ ‬أنى‭ ‬وقفت‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬الناظر‭ ‬الذى‭ ‬اعتلى‭ ‬منصة‭ ‬أمامى‭ ‬مباشرة،‭ ‬فلم‭ ‬ار‭ ‬غير‭ ‬كرشه‭ ‬الذى‭ ‬يتقدم‭ ‬جسمه،‭ ‬حذرنا‭ ‬الناظر‭ ‬من‭ ‬التقاط‭ ‬اى‭ ‬قلم‭ ‬أو‭ ‬ساعة‭ ‬أو‭ ‬راديو،‭ ‬أو‭ ‬ولاعة،‭ ‬أو‭ ‬اى‭ ‬شىء‭ ‬تجده‭ ‬فى‭ ‬الطريق،‭ ‬‮«‬الطيارات‮»‬‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬تلقيها‭ ‬تمويها‭ ‬لتنفجر‭ ‬فى‭ ‬وجه‭ ‬من‭ ‬يلمسها‮»‬‭ !‬

وطلب‭ ‬منا‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬سماع‭ ‬صافرات‭ ‬الإنذار‭ ‬الاحتماء‭ ‬بالأرض‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬حفرة‭ ‬تفاديا‭ ‬للقنابل‭ ‬التى‭ ‬تلقيها‭ ‬الطائرات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬أثناء‭ ‬الغارات‭ ‬التى‭ ‬تستهدف‭ ‬محافظات‭ ‬الدلتا‭.‬

تناولت‭ ‬يومها‭ ‬وجبتى‭ ‬المدرسية‭: ‬رغيف‭ ‬فينو‭ ‬هش‭ ‬طازج‭ ‬جميل،‭ ‬رائحته‭ ‬لازالت‭ ‬تختزنها‭ ‬ذاكرتى‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬وقطعة‭ ‬جبنة‭ ‬‮«‬مثلثات‮»‬‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أحبها‭ ‬كنت‭ ‬أعتقد‭ ‬انها‭ ‬قطعة‭ ‬صابون،‭ ‬وقطعة‭ ‬من‭ ‬العجوة‭ ‬المهروسة‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬انتهيت‭ ‬من‭

‬أكلها‭ ‬حتى‭ ‬دوت‭ ‬صافرات‭ ‬الإنذار‭ ‬معلنة‭ ‬بدء‭ ‬غارة‭ ‬إسرائيلية،‭ ‬كاد‭ ‬قلبى‭ ‬الصغير‭ ‬أن‭ ‬يتوقف،‭ ‬بالكاد‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬حوش‭ ‬المدرسة‭ ‬وألقيت‭ ‬وجهى‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬وصدرى‭ ‬يكاد‭ ‬ينغلق‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬التراب‭ ‬الذى‭ ‬استنشقته‭ ‬مع‭ ‬أنفاسى‭ ‬المتلاحقة،‭ ‬تسرب‭ ‬ريقى‭ ‬من‭ ‬فمى‭ ‬المفتوح‭ ‬وتحول‭ ‬الى‭ ‬طينة،‭ ‬وابتلت‭ ‬المريلة‭ ‬بنقاط‭ ‬خانتنى‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬خوفى‭ ‬من‭ ‬القنبلة‭ ‬التى‭ ‬كنت‭ ‬أعتقد‭ ‬انها‭ ‬تشبه‭ ‬عجلة‭ ‬السيارة‭ ‬تصيب‭ ‬أى‭ ‬رأس‭ ‬يرتفع‭ ‬عن‭ ‬الأرض‭ ‬واكتشف‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭  ‬كان‭ ‬تجربة‭!‬

رحلت‭ ‬عن‭ ‬قريتى‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬شبين‭ ‬الكوم‭ ‬المجاورة،‭ ‬حيث‭ ‬أغلب‭ ‬الشبابيك‭ ‬فيها‭ ‬زجاج،‭ ‬ولكن‭ ‬لماذا‭ ‬يدهنونه‭ ‬باللون‭ ‬الأزرق‭ ‬ويضعون‭ ‬عليه‭ ‬شريطا‭ ‬لاصقا،‭ ‬ولماذا‭ ‬يبنون‭ ‬جدران‭ ‬أمام‭ ‬مدخل‭ ‬العمارات‭ ‬الكبيرة‭ ‬؟عرفت‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬بسبب‭ ‬الطيران‭ ‬الإسرائيلى‭ ‬الذى‭ ‬يخترق‭ ‬عمداً‭ ‬كسر‭ ‬حاجز‭ ‬الصوت،‭ ‬ليكسر‭ ‬زجاج‭ ‬البيوت،‭ ‬ومعه‭ ‬يحطم‭ ‬هامة‭ ‬المصريين‭ ‬وينال‭ ‬من‭ ‬عزيمتهم‭ ‬باسترداد‭ ‬الأرض‭ ‬ومسح‭ ‬العار‭.‬

ومات‭ ‬عبد‭ ‬الناصر،‭ ‬ومشيت‭ ‬فى‭ ‬جنازته‭ ‬صغيرا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أدرى،‭ ‬مصر‭ ‬كلها‭ ‬كانت‭ ‬جنازة‭ ‬كبيرة‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مدينة‭ ‬وقرية‭ ‬ونجع،‭ ‬خرجوا‭ ‬يبكون‭ ‬فراق‭ ‬ناصر‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬ينصرهم‭ ‬كما‭ ‬وعد‭ ‬فى‭ ‬67‭ ‬ولم‭ ‬يلق‭ ‬اسرائيل‭ ‬فى‭ ‬البحر،بل‭ ‬هى‭ ‬التى‭ ‬ألقتنا‭ ‬فى‭ ‬جب‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬عقود‭ ‬لنخرج‭ ‬منه‭.‬

فى‭ ‬فقرة‭ ‬الصحافة‭ ‬فى‭ ‬طابور‭ ‬الصباح‭ ‬بمدرسة‭ ‬خالد‭ ‬بن‭ ‬الوليد‭ ‬سمعت‭ ‬خبر‭ ‬إسقاط‭ ‬اسرائيل‭ ‬لطائرة‭ ‬مدنية‭ ‬فوق‭ ‬سيناء‭ ‬وان‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬فيها‭ ‬ماتوا‭ ‬ومنهم‭ ‬الإذاعية‭ ‬سلوى‭ ‬حجازى،‭ ‬كانت‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬ألتفت‭ ‬فيها‭ ‬الى‭ ‬اسم‭ ‬سيناء،‭ ‬ومن‭ ‬بعدها‭ ‬بدأ‭ ‬الإسم‭ ‬يتكرر‭ ‬كثيراً،‭ ‬واعتدت‭ ‬سماع‭ ‬أخبار‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬أعمال‭ ‬إبرار‭ ‬تقوم‭ ‬بها‭ ‬قواتنا‭ ‬المسلحة‭ ‬خلف‭ ‬خطوط‭ ‬العدو‭ ‬فى‭ ‬عمق‭ ‬سيناء‭ ‬المحتلة‭.‬

نحن‭ ‬الآن‭ ‬فى‭ ‬أكتوبر‭ ‬1973،‭ ‬انتقلت‭ ‬للصف‭ ‬السادس‭ ‬الإبتدائى،‭ ‬وكانت‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬لها‭ ‬‮«‬شنة‭ ‬ورنة‮»‬،‭ ‬وفى‭ ‬منتصف‭ ‬يوم‭ ‬‮٦‬‭ ‬أكتوبر‭ ‬وقع‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الزلزال‭ ‬فى‭ ‬حى‭ ‬البر‭ ‬الشرقى‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬شبين‭ ‬الكوم‭ ‬الهادئة،‭ ‬خرج‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬الشرفات،‭ ‬والشوارع‭ ‬صراخ،‭ ‬يختلط‭ ‬مع‭ ‬تكبير‭.‬

عبرنا‭ ‬قناة‭ ‬السويس،‭ ‬وقواتنا‭ ‬تقاتل‭ ‬الآن‭ ‬فى‭ ‬سيناء‭!‬

شارك‭ ‬والدى‭ ‬الوقور‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬حينا‭ ‬الهادىء‭ ‬صخب‭ ‬فرحة‭ ‬البيان‭ ‬الأول‭ ‬بعبور‭ ‬قواتنا‭ ‬المسلحة‭..‬أبى‭ ‬يقفز‭ ‬ويرقص‭ ‬ويغنى‭.. ‬الشيخ‭ ‬على‭ ‬–‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يناديه‭ ‬أهل‭ ‬قريته‭ ‬تقديراً‭ ‬واحتراماً‭ ‬–‭ ‬يرقص؟‭ ‬

ولكن‭ ‬لماذا‭ ‬تحول‭ ‬فرح‭ ‬أبى‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭ ‬إلى‭ ‬قلق‭ ‬ولماذا‭ ‬أراه‭ ‬الآن‭ ‬يقضم‭  ‬أظافره‭ ‬؟‭ ‬

يتابع‭ ‬البيانات‭ ‬عبر‭ ‬شاشة‭ ‬التليفزيون‭ ‬الذى‭ ‬اشتريناه‭ ‬حديثا‭ ‬وينتقل‭ ‬منه‭ ‬الى‭ ‬الراديو،‭ ‬يأخذ‭ ‬وقتا‭ ‬طويلا‭ ‬فى‭ ‬محاولة‭ ‬ضبط‭ ‬المؤشر‭ ‬على‭ ‬صوت‭ ‬اذاعة‭ ‬يتحدث‭ ‬مذيعوها‭ ‬بلهجة‭ ‬لم‭ ‬أعتدها،‭ ‬عرفت‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬يحاول‭ ‬سماع‭ ‬هيئة‭ ‬الإذاعة‭ ‬البريطانية‭ ‬واذاعة‭ ‬مونت‭ ‬كارلو‭.‬

قلق‭ ‬والدى‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬يبرره،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬حالة‭ ‬خاصة‭ ‬به،‭ ‬سمعت‭ ‬جارنا‭ ‬الشيخ‭ ‬سليمان‭ ‬يشارك‭ ‬أبى‭ ‬مخاوفه،‭ ‬ويدعو‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يصدقوا‭ ‬هذه‭ ‬المرة،‭ ‬ولا‭ ‬تكن‭ ‬هذه‭ ‬البيانات‭ ‬مثل‭ ‬سابقتها‭.‬

نلت‭ ‬شرف‭ ‬أن‭ ‬ألقى‭ ‬فقرة‭ ‬الصحافة‭ ‬فى‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬نعود‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬مدارسنا‭ ‬بعد‭ ‬تعليق‭ ‬الدراسة‭ ‬بسبب‭ ‬الحرب،‭ ‬شعرت‭ ‬بنشوة‭ ‬تسرى‭ ‬فى‭ ‬عروقى،‭ ‬وأنا‭ ‬أنطق‭ ‬اسم‭ ‬سيناء‭ ‬فى‭ ‬قطعة‭ ‬تعبير‭ ‬عبر‭ ‬ميكرفون‭ ‬اذاعة‭ ‬المدرسة،‭ ‬اقتبست‭ ‬أغلبها‭ ‬من‭ ‬جريدة‭ ‬الأخبار‭.. ‬دخل‭ ‬مدرس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬أول‭ ‬حصة،‭ ‬وكتب‭ ‬فى‭ ‬أعلى‭ ‬منتصف‭ ‬السبورة‭ ‬‮«‬تعبير‮»‬‭ ‬وراح‭ ‬يحدثنا‭ ‬عن‭ ‬عظمة‭ ‬نصر‭ ‬أكتوبر،‭ ‬وطلب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬أن‭ ‬نكتب‭ ‬موضوع‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬النصر،‭ ‬ودخل‭ ‬بعده‭ ‬مدرس‭ ‬الرسم،‭ ‬ليطلب‭ ‬منا‭ ‬أن‭ ‬نرسم‭ ‬لوحة‭ ‬من‭ ‬وحى‭ ‬حرب‭ ‬أكتوبر،‭ ‬اكتسبت‭ ‬مهارة‭ ‬فى‭ ‬رسم‭ ‬جنزير‭ ‬الدبابة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬علمنى‭ ‬المدرس‭ ‬طريقة‭ ‬بسيطة‭ ‬لذلك‭.‬ومن‭ ‬يومها‭ ‬وأن‭ ‬أستمتع‭ ‬بأغانى‭ ‬عبد‭ ‬الحليم‭ ‬الوطنية‭ ‬نفس‭ ‬استمتاعى‭ ‬بأغانيه‭ ‬العاطفية‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬أتذكر‭ ‬أكتوبر‭ ‬حتى‭ ‬اردد‭ : ‬عاش‭ ‬اللى‭ ‬قال‭ ‬عدوا‭ ‬القناة‭ ‬

نصرة‭ ‬لبلدنا‭.. ‬بسم‭ ‬الله‭ ‬بسم‭ ‬الله‭..  ‬بايدين‭ ‬ولادنا‭.. ‬بسم‭ ‬الله‭ ‬باسم‭ ‬الله‭.‬

ما‭ ‬أشبه‭ ‬اليوم‭ ‬بالبارحة‭.‬

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة