إحساس صعب أن تعيش بجسدك في مكان، بينما روحك تهيم بعيدا.. أن تستيقظ كل صباح علي بعد آلاف الكيلو مترات عن وطنك.. تعيش كل تفاصيل حياتك التي تشتاق إليها، لكنك تدرك أنك لن تستطيع استعادتها إلا لبضعة أيام ربما بعد عام كامل أو يزيد.
احساس قاسٍ أن تجد نفسك غريبا بين غرباء، فمهما طالت سنوات غربتك، ستظل تلك المساحة من الاحساس موجودة، ربما تتفاوت من شخص لآخر ومن وقت لآخر، لكنك لن تستطيع يوما التخلص منها، سواء كنت مغتربا لظروف العمل، أو حتي كنت ممن اختاروا الهجرة الدائمة، ستجد نفسك تكابد تلك المشاعر كل صباح، تحلم كل دقيقة باليوم الذي تعود فيه إلي رحاب الوطن، وتقضي الساعات الطوال تفكر في قرار العودة.
في الغربة.. ستجلس بالساعات أمام شاشات القنوات، حتي ترتيب القنوات في جهاز الاستقبال بمنزلك هو تقريبا نفس الترتيب في بيتك القديم.. تجد نفسك أحيانا أقرب إلي الوطن ممن يعيشون علي أرضه، تتألم حينما يقع له مكروه، وتكاد تطير فرحا عندما يمن الله عليه بلحظة سعادة، وكأن تلك الغربة ما أبعدتك إلا لتقربك من الوطن، وتنقي إحساسك به، فيتحول كل ما كنت تضيق به إلي شوق، وكل ما كنت تألفه إلي ذكري محببة، وكل الوجوه التي لم تكن تدرك قيمة قربك منها إلي حلم بعيد تحن لعودتك إليه.
في الغربة.. قد تبهرك في البداية الشوارع النظيفة، والحياة المنظمة، وأحيانا المظاهر الفارهة لكل ما يحيط بك، لكنك سرعان ما ستواجه ذلك الاحساس العنيف بأن كل ما تراه مجرد حياة بلاستيكية، باقة زهور صناعية، شكلها جميل، لكنها بلا حياة، ساعتها ستشتاق إلي مذاق طعام أمك، ولمة الأهل، وجلسات الأصدقاء، إلي الشوارع المزدحمة التي كنت تضيق بها، لكنك في غمرة حنينك ستكتشف أنك في الغربة دائما وحدك، وحتي عندما تتحدث إلي الأهل والأصدقاء تجد الكلمات تضيق بما تشعر به، وكلما طالت سنوات غربتك قصرت دقائق مكالمتك !
في الغربة.. ستجد عالما غير ذلك الذي كنت تعرفه، تقابل أشتاتا من البشر من كل البلدان، منهم من تألفه سريعا وكأنك تربيت معه، ومنهم من تقضي بصحبته سنوات لكن احساسك به لا يتجاوز شعورك براكب في مقعد مجاور بالطائرة، كل ما سيجمعك به هو مدة الرحلة!
ستعرف في الغربة عربا يعشقون مصر ويشتاقون لزيارتها أكثر - للأسف الشديد- من مصريين تربوا من خيرها، لكن أفكارهم بدلت مشاعرهم، وأفسدت مواقفهم السياسية ثوابتهم الانسانية (!)
ربما يري البعض في هذه الكلمات مبالغة عاطفية، بل وربما يتمني البعض الآخر أن يكون له نصيب من تلك الغربة، خاصة في ظل ما عانته مصر خلال السنوات الماضية، وأنا لا ألوم كل هؤلاء، بل اعترف بأن تلك الظروف كانت أيضا سببا لسفري وآلاف آخرين، بل وأعترف أيضا أن بلادنا، بعد كل ما واجهته، ليست علي الحال الذي نتمناه لها ونحلم به، لكن أيضا الغربة ليست الحل، بل هي معاناة إضافية وقلق دائم، راحة مؤقتة - مهما طالت - بثمن فادح!
لن أقول لك : «احمد ربنا أننا لسنا مثل سوريا أو العراق»، لكنني سأقول لك أنظر لعيني أبناء سوريا والعراق وحتي فلسطين، وهم يتحدثون عن الوطن، لتدرك تلك النعمة التي ينبغي أن نحمد الله عليها كثيرا، فعلي الأقل لدينا وطن نشتاق إليه، ولا تكلفنا العودة إليه سوي تذكرة سفر، بينما قد يدفع آخرون حياتهم ثمنا لتلك العودة.