تربيت علي صوت أم كلثوم وحفظت أغانيها قبل أن أعي معني الموسيقي أو أتذوقها.. لا أدري متي تسرب عشق صوتها إلي نفسي ولكني ارتبطت بها في طفولتي وصباي.. حيث كان الراديو ينافس التليفزيون بقنواته الإثنتين وينتهي الإرسال في منتصف الليل.. كانت أمي - رحمها الله - تستهل يومها بإذاعة القرآن الكريم ثم تنتقل إلي البرنامج العام لتسمع (كلمتين وبس) و(الي ربات البيوت) وننصت ونحن أطفال إلي حدوتة (أبلة فضيلة) بما تحوي من حكايات أخلاقية بأسلوبها السهل الممتنع.. وفي الخامسة مساء يبدأ بث إذاعة أم كلثوم بأغنية طويلة من إحدي حفلاتها وخلال المقدمة الموسيقية كنا نتنافس أنا وأخوتي علي من يميز الأغنية أولا قبل بدايتها ومع صوتها القوي العذب تنساب أغنياتها الرائعة يعقبها محمد عبد الوهاب ثم باقي المطربين في ترتيب معين وأخيرا تختتم الإذاعة بأغنية أخري لأم كلثوم فكيف لحبها ألا يتسلل إلي نفسي ونفوس الملايين من عشاقها.. وللأسف لم ألحق بزمن حفلاتها الشهرية لكني شاهدت تسجيلاتها ورأيت الاحترام في أسمي معانيه فمعجبوها من البلاد العربية يأتون بالطائرات لحضور حفلها والرجال يرتدون السترات الكاملة وترتدي النساء ملابس السهرة والمجوهرات.. والجمهور جلوس يستمعون في صمت تام ويتمايلون مع الأنغام.. لا واقف بينهم ولا أحد يجرؤ علي إطلاق صفارة إعجاب ولا الصعود إلي المسرح رغم عدم وجود بودي جارد لحمايتها.. مشاهدتها وهي تغني متعة فلها طقوس خاصة في حفلاتها ما بين فستان محتشم وأنيق ومنديلها الحريري الشهير، تجلس لحين انتهاء المقدمة الموسيقية وغالبا ما يصفق الجمهور ليستعيد عزف المقدمة ومع انتهاء كل مقطع يصفق الجمهور لكي تعيد غناءه وعندما تستجيب يصفقون شاكرين لها فتغنيه بأسلوب مختلف وتزيد من تجويده.. بدأت وهي طفلة بتلاوة القرآن الكريم وهو أكبر مدرسة لتدريب الأصوات وصعدت سلم المجد بروية وحوربت من أنصاف المواهب واستطاعت بإصرارها وذكائها أن تصل إلي القمة في الوطن العربي كله.. وهي من جعلت جمهورها - حتي من الأميين - يغنون القصائد بالفصحي غنت نهج البردة وأراك عصي الدمع وهذه ليلتي وغيرها، أما دورها الوطني فلم يقتصر علي أغاني الثورة فبعد هزيمة 1967 أحيت حفلات لصالح المجهود الحربي في بلاد العالم وتبرعت بمجوهراتها لتشجع المصريات علي التبرع.. أم كلثوم ليست مطربة معجزة فقط بل هي شخصية وطنية عرفت كيف تحب مصر وبعد مرور 41 عاما علي وفاتها لازال صوتها يشدو محلقا في أجواء الخلود.