الرئيســــان بايدن وماكرون فى قمـــة الناتــــو
بعد إعلان واشنطن التحالف الثلاثى «أوكوس» .. أوروبا تبحر وحدها
السبت، 09 أكتوبر 2021 - 11:02 ص
دينا توفيق
صدمة هزت قصر الإليزيه، غضب فرنسى ورد فعل يعلن عن إعادة حسابات ومحاولة للتوازن من جديد.. اتفاقات خلف الكواليس واستبعاد شركاء.. حلفاء أمس وفقدان للثقة اليوم.. ضرب وتجاهل للمصالح.. استدعاء للسفراء لأول مرة
. تداعيات خطيرة ليس على فرنسا وحدها بل على الاتحاد الأوروبى بأكمله، عقب إعلان الولايات المتحدة وبريطانيا فى منتصف الشهر الماضى عن الشراكة الاستراتيجية الجديدة مع أستراليا باتفاقية دفاعية "أوكوس" لبناء غواصات تعمل بالطاقة النووية، وانسحبت الأخيرة على إثرها من عقد كبير مع فرنسا لتصنيع غواصات تقليدية تعمل بالديزل والكهرباء.
الخلاف كبير، كما ظهر من قرار باريس سحب سفيرها من واشنطن وكانبيرا، وتصريحات وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، الذى وصف الصفقة بـاطعنة فى الظهرب، وتشكل اسلوكًا غير مقبول بين من يعدون من المفترض حلفاء وشركاء. أدت أوكوس إلى إنهاء مفاجئ لصفقة الغواصات التى وقعتها أستراليا مع فرنسا عام 2016، بقيمة 65.6 مليار دولار، ما خلق حالة من الارتباك بإبعاد فرنسا والاتحاد الأوروبى عن منطقة المحيطين الهندى والهادي. ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى تكلف فيها المكائد الأمريكية باريس ثمناً باهظاً بحسب كلام لودريان، ففى عام 2015 اضطرت فرنسا إلى تعويض روسيا عندما أخفقت فى تسليم سفينتين هجوميتين برمائيتين من طراز ميسترال بعد أن ضغطت واشنطن على باريس لإلغاء الصفقة.
والآن هناك محاولات أمريكية أسترالية لامتصاص الغضب الفرنسى ومساعٍ لتهدئة الموقف، حيث أجرى الرئيس الأمريكى اجو بايدنب اتصالًا هاتفيًا مع نظيره الفرنسى اإيمانويل ماكرونب، على إثره أعادت باريس سفيرها إلى واشنطن. كما أعلن وزير الخارجية الفرنسى عن لقاء مرتقب مع نظيره الأمريكى اأنتونى بلينكنب. فى إدارة بايدن، تهدف الولايات المتحدة إلى تأمين المحيطين الهندى والهادى من خلال التوافق مع الديمقراطيات ذات التفكير المتشابه والتجمعات الإقليمية متعددة الأطراف.
كما يمكن القول إن الاتفاقية تمثل خطوة أخرى فى تقليص واشنطن لمشاركتها فى شئون الأمن والدفاع الأوروبية، التى بدأت أثناء إدارة الرئيس ادونالد ترامبب مع تركيزها على اأمريكا أولاًب وتقليل الالتزام تجاه الناتو؛ ومع ذلك، يمكن أيضًا ملاحظة بوادر تحول أوسع نحو منطقة المحيطين الهندى والهادى على عكس أوروبا خلال إدارة الرئيس اباراك أوباماب، لذا فإن أوكوس ما هى إلا استمرار لهذه السياسة.
وتحاول فرنسا حشد حلفاء الاتحاد الأوروبى وراء مساعيها لمزيد من السيادة الأوروبية بعد أن تعرضت للإذلال بسبب الاتفاقية الدفاعية. يريد الأوروبيون- وخاصة الفرنسيين- من واشنطن أن توضح قرارها بالتحالف مع أستراليا والمملكة المتحدة، فالاتفاقية تعد شراكة عميقة بين القوى التقنية الرائدة التى يمكن أن تشكل القرن الحادى والعشرين وتكون بمثابة نموذج لتحالفات الولايات المتحدة فى المحيطين الهندى والهادي، من خلال توسيع التعاون فى المجالات الناشئة الجديدة مثل الفضاء الإلكترونى والذكاء الاصطناعى وتقنيات الكم، ما يعزز مكانة أستراليا فى منطقة المحيطين لردع توسع الصين؛ ولهذا على الاتحاد الأوروبى أن يقرر كيفية التعامل مع المنطقة.
فيما ظهر عدم ارتياح القوى الأوروبية بشأن التحالف بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى على حساب القوى الأنجلو-إمبريالية. كانت فرنسا وألمانيا تتألم بالفعل بشأن انسحاب الناتو المتسرع من أفغانستان وتضخيم الدعوات لتشكيل قوة عسكرية أوروبية يمكنها العمل بشكل مستقل عن الولايات المتحدة، ويتضح الآن أنه لم يتم فقط إجراء أى محاولة لإدراج فرنسا فى الاتفاقية الأمنية، بل تآمر المحور الأنجلو القديم لإبقاء الرئيس الفرنسى فى الظلام
. ذكرت صحيفة التلجراف أنه تم الاتفاق على اأوكوسب خلال قمة مجموعة السبع G7 فى يونيو الماضى فى اكورنوالب البريطانية، لكن ماكرون الذى كان حاضرًا أيضًا لم يكن على دراية بما كان يحدث خلف ظهره، حيث إن المناقشات السرية بشأنها استمرت فى الولايات المتحدة لأشهر قبل الإعلان عنها، دون علم باريس.
وتعتبر فرنسا قوة فى المحيط الهادي، على عكس بريطانيا، وأقرب جار شرقى هام لكانبيرا بوجود أرخبيل كاليدونيا الجديد الواقع فى جنوب المحيط وتحت السيادة الفرنسية. وأستراليا بحاجة إلى الفرنسيين لتأمين اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي؛ الاتفاقية التى لديها القدرة على فتح سوق للمصدرين الأستراليين لما يقرب من 450 مليون شخص، بإجمالى ناتج محلى يزيد على 15 تريليون دولار
. وفى السنوات الأخيرة، ضغطت فرنسا بشدة على أوروبا للاستثمار فى أستراليا؛ حيث اختار ماكرون سيدنى عام 2018 كموقع لإطلاق الاستراتيجية الفرنسية لمنطقة المحيطين الهندى والهادي. وقال مسئولون فى بروكسل لشبكة CNN الإخبارية الأمريكية إن توقيت الإعلان عن التحالف الدفاعى الجديد كان سيئا، حيث كان من المقرر أن يقدم الممثل الأعلى للشئون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبى استراتيجيته الخاصة لمنطقة المحيطين وقت الإعلان عن أوكوس، مما أعطى انطباعا بأن الاتحاد لا يؤخذ على محمل الجد باعتباره لاعبا جيوسياسيا.
ومع ذلك، فهذه أيضًا لحظة مخاطرة بالنسبة للفرنسيين قبل توليهم رئاسة الاتحاد عام 2022، والتى كانوا يرغبون فى استخدامها لتعزيز الحكم الذاتى الاستراتيجى الأوروبى وتعزيز التركيز على منطقة المحيطين. وأعرب رئيس المجلس الأوروبى اتشارلز ميشيلب عن إحباطه من حليف أوروبا الأمريكى على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة الحالية فى نيويورك. فيما يجادل البعض بأن هذا التطور يجب أن يمثل نهاية جهود الحكم الذاتى الاستراتيجى الأوروبي، إذا كانت تعنى الانفصال عن الولايات المتحدة، وفقًا لرئيسة مكتب المجلس الأوروبى للعلاقات الخارجية تارا فارما.
وقد دفع الانسحاب الأمريكى من أفغانستان العلاقات بين الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة إلى المطالبة بتنفيذ الحكم الذاتى الاستراتيجى الأوروبي، حيث لم يتشاور الرئيس بايدن مع الحلفاء الأوروبيين بشأن قراره فى أبريل الماضى بسحب القوات. والآن مع استراتيجية الهند والمحيط الهادى التى تم إطلاقها حديثًا، ينظر الاتحاد الأوروبى فى إطلاق االبوابة العالميةب لمواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI). وهذا ما يفسر سبب قول العديد من المراقبين فى باريس إن الأحداث الأخيرة ستمهد الطريق الآن لمزيد من الحكم الذاتى الاستراتيجى الأوروبي.
فإن إعلانا عن الاتفاقية مع أستراليا لا يمكن إلا أن يعزز وجهة نظر الإليزيه بأن الاتحاد الأوروبى يحتاج إلى الدفاع عن مصالحه فى منطقة الهند والهادي.
وتختلف استراتيجية الاتحاد الأوروبى فى التعامل مع الصين عن الولايات المتحدة فى اتجاه رئيسى واحد؛ حيث يسعى الاتحاد إلى التعاون مع العملاق الآسيوي، ويعتبره شريكًا اقتصاديًا واستراتيجيًا. ويعتقد مسئولو بروكسل أنه من خلال التجارة والعمل معه، لا يمكنهم فقط الاعتماد على بكين لإصلاح سياساتهم المتعلقة بالطاقة، ولكن أيضًا لمنح الاتحاد فرصة للعب دور جيوسياسى واضح ومهم. وإن حققت أوروبا هذا، فسوف تنظر إليها واشنطن على أنها أكثر محورية من الناحية الاستراتيجية والدفاعية، ما قد يسفر شراكة جديدة أعمق.
ولا شك أن واشنطن ستهدف إلى بناء أساس أكثر صلابة وأوسع لاستراتيجيتها فى المحيطين مع اكتمال اتفاقية اأوكوسب بقمة اكوادب، التى تجمع أمريكا وأستراليا واليابان والهند. ومع ذلك، فإن قدرة أستراليا على تشغيل هذه الأصول الدفاعية القوية والمكلفة ستخضع دائمًا لحق النقض الأمريكي، مما يعنى أن البرنامج بأكمله سيؤدى حتمًا إلى تكامل تشغيلى أعمق مع الولايات المتحدة. لا شك أن كانبيرا تتنازل عن درجة عالية من سيادتها. وبعبارة أخرى، تعد أوكوس رهانًا أستراليًا كبيرًا على سياسات البيت الأبيض، والأهم، كما أشار الباحث الأسترالى اهيو وايتب، إلى أن التحالف امليء بالمخاطرب، لأنه يغير الطريقة التى تقترب بها أستراليا من المنطقة؛ ففى التنافس المتصاعد بين واشنطن وبكين، تقف كانبيرا إلى جانب الولايات المتحدة وتراهن على أنها ستفوز بهذه المنافسة، لكن الحقيقة هى أنه عند النظر إلى الأمام 10 أو 20 عامًا، لا يمكن توقع نجاح الأمريكيين فى تحجيم النفوذ الصين.
وتدعو استراتيجية الاتحاد الأوروبى إلى تعميق تعاون الاتحاد مع الشركاء فى منطقة المحيطين الهندى والهادى للاستجابة للديناميكيات الناشئة التى تؤثر على الاستقرار الإقليمي. وهنا تكمن الصعوبة، وفقًا لرئيسة مكتب المجلس الأوروبى للعلاقات الخارجية، لا تزال أوروبا لديها انهج متناقضب تجاه بكين يأتى من الاختلافات العميقة بين الدول الأعضاء حول كيفية التعامل مع الصين. ويشجع المجلس الاتحاد الأوروبى على العمل مع الشركاء الرئيسيين فى المنطقة، مثل اليابان وكوريا الجنوبية؛ البلدان التى رحبت بأوكوس فور الإعلان عنها؛ وكأنها بالنسبة لهم ترحيبًا بعودة واشنطن. لذا يجب على الأوروبيين مناقشة تنفيذ استراتيجيتهم فى المحيطين مع هؤلاء الشركاء الإقليميين، لأنهم أكثر اعتمادًا على الصين اقتصاديًا وأقرب جغرافيًا.
ومرة أخرى، يجد الاتحاد الأوروبى نفسه فى خيار؛ لا يزال القادة الفرنسيون غاضبين، لكن باريس لا تزال أيضًا العاصمة الأوروبية الأكثر طموحًا من حيث أجندة سياستها الخارجية. لقد دفعت من أجل أجندة الاتحاد الأوروبى للمحيطين فى وقت مبكر من عام 2018 وتعتبر نفسها لاعباً فى المنطقة، وهى تتفهم المخاوف التى يراها الشركاء الآخرون فى المنطقة فيما يتعلق بأنشطة الصين، الاقتصادية والعسكرية. ولكى تمضى الأمور قدمًا، ينتظر الفرنسيون تفسيرًا من الولايات المتحدة حول نهجها. لكن يبقى الأوروبيون على الاستعداد لمواجهة الصين مع الولايات المتحدة وإعادة تعريف الشراكة عبر الأطلسي؛ خاصة إذا كانت ستصبح أساسًا لنظام عالمى جديد. ومن ناحية أخرى، يجب على واشنطن أن تنحنى للخلف لوجود قدرٍ كبير من القواسم المشتركة مع الأوروبيين وللحفاظ على سلامة الرابطة عبر الأطلسى وتشكيل جبهة موحدة من الديمقراطيات للتعامل مع صعود الصين.