إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

سكتة فيس بوك.. و «ندّاهة» التاريخ

إيهاب الحضري

الخميس، 14 أكتوبر 2021 - 06:31 م

 

جلستُ فى مواجهة زوجتى وابني. الصمتُ هو بطل اللحظة، كل منا يرفع الهاتف ويمنّى نفسه بأن الروح قد عادت للأجهزة الميّتة، لم نتبادل سوى كلمات قليلة، بعد أن أصبحت الثرثرة الإلكترونية محور حياتنا.

عبيد الإنترنت


الاثنين:


فقدتُ الاتصال بالعالم.

شبكة الإنترنت أعلنتْ تمرّدها فتوقف نبض أجهزة المحمول والكمبيوتر عن التواصل.

الاتصال بالشركة التى تتحكم فى مصائرنا لا يجدي، فقد صدّرت لنا رسالة بأن هناك أعمال إصلاح فى بعض المناطق، ورفضت الرسائل الصوتية الجامدة تسليمنا إلى أى موظف بشرى نُفرغ فى أذنيه طاقتنا الانفعالية!

اقتنعتُ بأن فى الأمر مؤامرة تستهدفنى شخصيا، عندما استعصتْ علىّ الشبكة الأخرى، التى تُسيطر على إنترنت هاتفى المحمول. فجأة أصبح هو الآخر يمنحنى خدمات مُتقطّعة، ولسان حاله يقول: «هو ده اللى عندنا لو عاجبك»! 


جلستُ فى مواجهة زوجتى وابني. الصمتُ هو بطل اللحظة، كل منا يرفع الهاتف ويمنّى نفسه بأن الروح قد عادت للأجهزة الميّتة، لم نتبادل سوى كلمات قليلة، بعد أن أصبحت الثرثرة الإلكترونية محور حياتنا.

هذا ما اكتشفه العالم بعد سكتة «فيس بوك» وأعوانه من التطبيقات الشقيقة! غير أن المشكلة تكون أقل وطأة عندما يعانى منها العالم كله، لأن المنتظرين على الجانب الآخر يدركون أننا «فى الهوا سوا».

أما انقطاع الخدمة عن بيتنا فقط، فيجعلنا نشعر بالعُزلة بينما ينعم الآخرون بحُرّية التواصل.

نحن أمام عالم جديد يُعيد تشكيل مفاهيمه، فالعُزلة قد تحدث وأنت بين بشر من لحمك ودمك، والحرية أن تملك حق تقرير مصيرك فى التواصل مع آخرين قد لا تعلم حتى ملامحهم.

وفى سبيل ذلك نُصبح جميعا مُستعدين للتنازل عن خصوصيتنا، بمنح بياناتنا صاغرين إلى مؤسسات عملاقة، تتوالى فضائحها علنا ويتتابع رضوخنا لاحتلالها عقولنا، دون أن نُفكر فى الثورة عليها رغم أحاديثنا المُتكررة عن الحُريات الفردية. 


أفقتُ على كلمات مُستنكرة أطلقها ابني، بعد محاولة فاشلة جديدة للاتصال بالشركة.

اكتشفتُ أننى أضعتُ وقتا طويلا فى تفكير فلسفى لا محل له من الإعراب. جنة الإنترنت هى الأهم حاليا ولتذهب الخصوصية إلى الجحيم!

لجأتُ إلى مُنقذى فى هذه الأحوال، الصديق أحمد عباس. عرفتُه منذ سنوات كصحفى متميز يغطى وزارة الاتصالات، وفاجأنى بروايته المخطوطة «مرسولة» قبل أن تأخذ طريقها للنشر.

لسبب ما، رأى أن وجهة نظرى فى عمله قد تكون مفيدة، وعندما صدرت الرواية تابعتُ احتفاء الكثيرين بها عن بُعْد، ولم يقم بإهدائى نسخة ربما لأنه لم يستجب لملاحظاتى القليلة التى أخبرتُه بها! علا صوت ابنى من جديد: «مفيش واسطة»؟

طردتُ انسياب أفكارى المُزمن، ودون أن أتفوه بكلمة واحدة طلبتُ عباس فى وقت متأخر. فى اليوم التالى عادتْ الخدمة عقب ثلاثة أيام من التمرد، وبعد ساعتين انقطعت من جديد!


من يعرف يحيى حقي؟!


الأربعاء:


من منكم يعرف يحيى حقي؟ سؤال طرحتُه فجأة بعد أن قاطعتُ المُتحدثة على المنصة، وظهرتْ علامات الاستنكار على وجوه معظم الحاضرين. طمأنتُهم أن هناك فئة مُحددة يستهدفها السؤال، تضم عددا من الكُتّاب صغار السن.

بعد ثوان أدرك الحاضرون المغزى من تساؤلي، فقد صمت الشباب، ورفعت واحدة منهم فقط يدها مؤكدة أنها تعرفه لكنها لم تقرأ أعماله الأدبية!


أعتقد أننى الوحيد الذى لم أشعر بالمفاجأة، فعبْر سنوات تابعتُ ظاهرة غريبة، تتمثّل فى إقبال عدد كبير من طلاب المدارس والجامعات على الكتابة. وفتحتْ لهم منصات التواصل فضاءاتها كى ينشروا أى شيء وكل شيء. وحصدوا نقرات إعجاب وتعليقات تتجاوز الآلاف، مما أعطى انطباعا  بأننا أمام جيل جديد من القرّاء، يردّ للكتب أيام مجدها، غير أن هذا الانطباع كاذب للأسف، فما يحدث مجرد ردود أفعال إلكترونية، تتوقف عند حدود الكتاب الورقي، فيظل يعانى الوحدة إلا من بعض كبار السن، ظلوا أوفياء له! 


بعض الكُتّاب الجدد لم يكتفوا بالمنصات، وسعوا لنشر أعمالهم فى كتب ورقية، وكسبتْ دور النشر الكثير من ورائهم، بحصولها على مقابل مادى قبل النشر، وإصدار عدد محدود من النسخ يأخذها صاحب العمل ليعيش فرحته بعض الوقت. لا تهتم هذه الدور بالمضمون، وغالبا يكون هزيلا على مستوى الأفكار والتناول، وعدد الأخطاء فيه يتجاوز بكثير عدد الكلمات والعبارات الصحيحة لغويا.


الغريب أن هذه النوعية من الكُتّاب لا يقرأون سوى أعمال الإثارة والرُعب، التى أصبح مؤلفوها نجوما تنتظرهم طوابير القُراء فى حفلات التوقيع، مما يعنى سيطرة نوع مُحدّد من الكتابات، لا يتجاوزها من يقرأونها ويظنون أنهم دخلوا عبرها مجال الثقافة والأدب، وتظل المشكلة الكبرى فى رد الفعل، حيث يعتقد الشباب أن هذا هو الإبداع، ولأنه سهل تنفتح شهيتهم للكتابة، فيكون الناتج مسخا من مسخ!


مصنع الأكاذيب


كانت الندوة التى طرحتُ فيها سؤال البداية مُخصصة لمناقشة المجموعة القصصية «مصنع الأكاذيب»، تضم أعمالا لأربعين كاتبا وكاتبة، إبداعات بعضهم تُنبىء بموهبة حقيقية. الأخطاء واردة خاصة أن عددا لا يُستهان به منهم يكتب القصة لأول مرة، لكن بالتأكيد لا أحد يبدأ كبيرا، ودور الناقد الحقيقى أن يلتقط موهبة قد لا ينتبه إليها الكثيرون، مررتُ بهذه التجربة فى سنوات دراستى الجامعية، فقد كان بيننا مبدعون بارعون، لكنهم توقفوا عن تطوير أنفسهم أو انسحبوا، بينما لمع آخرون بعد ذلك رغم أنهم كانوا أقل فى المستوى، لمجرد أنهم حرصوا على تطوير أنفسهم.

استفزتْ قصص المجموعة الزميل الدكتور محمود عطية الذى حضر ندوة صالون سالمينا الثقافي، إلا أننى أرى أن هناك فرصة حقيقية لنحو عشرة من هؤلاء الكُتّاب.

أؤيده فى أن معظم قصص المجموعة تدور فى فلك بدايات القصة القصيرة قبل عشرات السنين، لكنى مقتنع فى المقابل أن الموهبة الحقيقية قادرة على صناعة المعجزات، وأنه لا يجوز الحكم عليها من أول ندوة.


جريمة فى حق التاريخ!


الثلاثاء:


أغادر مبنى الجريدة بعد يوم عمل شاق. تمضى السيارة باتجاه حى العجوزة.

زحام معتاد منذ بدء الدراسة رغم أن الوقت متأخر نسبيا.

لا يمنعنى الإرهاق من الالتزام بموعد ارتبطت به، خاصة إذا كان سبب اللقاء محورا لاهتمامي. أصل متأخرا بعض الشيء، وأختار مقعدا يُتيح لى فرصة الإحاطة بالمشهد كله.


اتأمل الوجوه محاولا اصطياد استنتاجات تجيب عن تساؤلاتي، الاهتمام يتبدى فى عيون الحاضرين مثلما حدث قبلها بأيام. اليوم، كان الغالبية منهم يدورون فى فلك مرحلتى العُمرية أو يكبرونني، مع وجود محدود للشباب.

فى المرة السابقة كان الوضع معكوسا، فالشباب هم المُسيطرون على القاعة. الرابط المشترك الوحيد بين الحدثين أن محور كل منهما رواية تدور فى أجواء تاريخية.


 فى السنوات الأخيرة شغلتنى المفارقة. الكثيرون لا يفضلون مقررات التاريخ، باعتبارها مواد طاردة للاهتمام، لكن الغريب أن الروايات والكتب التى تستلهم الأحداث التاريخية أصبحت الأكثر مبيعا، مما يؤكد أن العيب ليس فى التاريخ بل فى أسلوب تقديمه.

فى سنوات دراستى كثيرا ما شعرتُ بأن يوم استلام الكُتب أشبه بالعيد، بمجرد عودتى للبيت ألتقط كتاب التاريخ وأبدأ قراءته، أنتهى منه فى بضع جلسات، قصصه ممتعة إذا تجاهلنا التواريخ الكثيرة التى ينبغى أن نحفظها، والنتيجة المنطقية فى نهاية العام أن درجاتى فى هذه المادة هى الأقل رغم حبى لها.

إنها آفة التلقين التى تُجبرنا على الحفظ، وتعتبره معيارا وحيدا للتفوق!


أنتبه للإعلامى الصديق أحمد يوسف يعلن أننى المتحدث، لأستعرض وجهة نظرى فى رواية «الحملة».

كتبها جرّاح قلب اجتذبه عالم الأدب، هو الدكتور تامر عز الدين. بعد عدة مجموعات قصصية قرّر خوض مغامرة الرواية، أخطاء التجربة الأولى قليلة، لم تمنعنى من التهام العمل الذى اختلق سياقا شعبيا، يملأ فراغات تاريخ رسمى سجّل أحداث الحملة الفرنسية.

فعل ذلك ببراعة عبر خلق مسارات خيالية تلتحم بالحقائق، فيعتقد القارىء المُتخصص أن هذا هو ما جرى على أرض الواقع فعليا، بينما يشعر غير المتخصص أنه انتقل إلى الماضى عبر الحروف والكلمات.

أُدرك ببساطة أن المؤلف درس تاريخ الجبرتى جيدا، واختار منه أحداثا تنتظر من الخيال أن يملأ فجواتها.

وهكذا مضت روايته لتُقدم واقعا افتراضيا دون أن تنتهك حقائق التاريخ. 


قبلها بأيام لبّيت دعوة صديقى الكاتب الصحفى طارق الطاهر رئيس تحرير أخبار الأدب السابق، لحضور منتدى الثقافة والإبداع الذى يُشرف عليه، ويُنظّمه صندوق التنمية الثقافية، ونجح الطاهر عبر عدة لقاءات فى جعله صالونا مهما لتميّز الموضوعات التى يُناقشها.

فى تلك الليلة كان يُكرّم الكاتبة الدكتورة ريم بسيوني، التى يبدو أن ندّاهة التاريخ اجتذبتها هى الأخرى. رغم تعدّد إبداعاتها كانت روايتها «أولاد الناس» التى تدور فى حقبة المماليك بطلة اللقاء.

ومصطلح أولاد الناس يختلف عن المفهوم المعاصر له، حيث أشار فى تلك الحقبة البعيدة إلى المواطنين الذين أفرزهم زواج المماليك بالمصريات.

ركزتُ فى تعقيبى على جريمة ارتكبتها المقررات الدراسية، بجعل الطُلّاب ينفرون من التاريخ حتى ظنّنا أنه هو المتهم، بينما العيب فى الوسيلة.


بعد أن عدتُ من ندوة الدكتور تامر، سعدتُ بخبر فاجأتْ به الدكتورة ريم قراءها، وهو صدور روايتها الجديدة  «القطائع» التى تدور فى زمن الدولة الطولونية.

وزادت سعادتى عندما قرأتْ تعليقات لمتابعيها، تؤكد أن شراء الرواية يتم عبر الحجْز المُسْبق.

خرجتُ من الليلتين مُبتهجا بأن الإبداع يردّ للتاريخ اعتباره، وأتمنى أن ينتهز واضعو مناهجنا الفرصة ليصححوا خطايا الماضي..

التى هى أخطاؤهم بالأساس.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة