المبدع والناقد وبينهما جائزة الدولة التقديرية
المبدع والناقد وبينهما جائزة الدولة التقديرية


مذكرات محمد سلماوي.. حضور الوطن في سيرة الذات

الأخبار

الأحد، 17 أكتوبر 2021 - 05:41 م

المفكر الكبير والناقد القدير د.سعيد توفيق الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة وأستاذ الفلسفة بآداب القاهرة خصنا بهذا المقال النقدى الذي يلقى فيه الأضواء على مذكرات الأديب والكاتب المسرحي الكبير محمد سلماوى فى جزئها الثانيئ.

  يومًا ما سألت صديقى المرحوم جمال الغيطاني: من أين يأتى كل هذا الفيض فى الكتابة؟ كنت أتحدث عن فيض الحكى فى دفاتره فى التدوين التى بدأت فى التسعينيات ولم تنته حتى وفاته، قال لي: لا تنس يا صديقى أن تجربتى فى الحياة كانت واسعة طويلة.

عرفت ذلك أيضًا فى الصديق الذى تعرفت عليه خلال السنوات الأخيرة: محمد سلماوي. عرفته أديبًا من طراز رفيع، والأدب الرفيع عندى هو الأدب الذى ينبع من ثقافة عميقة ومن تجربة حياة عريضة: الثقافة الواسعة وتجربة الحياة العريضة هما الوقود الذى يُبقى جذوة الإبداع مشتعلة دائمًا لدى الأديب والفنان والمفكر، تجلى هذا بوضوح فى إبداعات سلماوى المسرحية مثلما تجلى فى مذكراته التى صدر الجزء الأول منها بعنوان «يومًا أو بعض يوم»، ثم فى الجزء الثانى بعنوان «العصف والريحان».

الذائقة الأدبية تتجلى حتى ابتداءً من عنوان مذكراته، والعنوان الأخير مستمد من لغة القرآن نفسها؛ بل إن هذه الذائقة تتجلى بشكل أكثر عمقًا فى بناء العمل ذاته، فلقد اعتدنا أن نجد الساسة والمشاهير يكتبون مذكراتهم، وربما وجد العامة فى هذه المذكرات نوعًا من التشويق الناجم عن التعرف على حكايات وأسرار مستورة؛ ولكننا فى هذا العمل نجد التشويق نابعًا من الطريقة التى كُتِب بها نعم هناك كشف عن أسرار وخفايا من قبيل الكشف عن أحداث حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل التى كشف عنها سلماوى من دون أن يسلط الضوء على شخصه، رغم أنه الشخص الذى اختاره نجيب محفوظ كى يلقى كلمته فى هذا المحفل العالمى للجائزة، ونعم نجد هناك تسلسلًا زمنيًّا لأحداث السيرة الشخصية من مواقف وذكريات على نحو ما هو معهود فى كتابة المذكرات.

ولكن هذا العمل هو شيء آخر مختلف عن طرائق كتابة المذكرات التقليدية: هناك تصوير أدبى لكل مرحلة يبدأ بقصة أو حكاية، ويكون مدعومًا بالصور التى تجسد الحالة أو الحدث ولهذا السبب، فإننى بمقدورى القول بأن هذا العمل هو نوع من فن الكتابة الذى تتمازج فيه كتابة المذكرات مع فن السيرة الذاتية، وبين هذين النوعين من الكتابة فروق معلومة؛ ولكن سلماوى يكسر هذه الفروق أو الحدود فى فن الكتابة، لا ينشغل سلماوى برصد الأحداث والمواقف الشخصية التى تخصه كما جرت فى تسلسلها الزمني، بل إنه يوثق كثيرًا من الأحداث التى تتعلق بتاريخ الوطن حتى من خلال الوظائف الرسمية والشرفية التى تولاها، ومن خلال ثورة يناير وما تلاها من محاولات هيمنة الإخوان على مؤسسات الدولة، ثم من خلال مشاركته فى لجنة تأسيس دستور البلاد، ولهذا فإننا كثيرًا ما نجد ذات المؤلف تتوارى تواضعًا لمصلحة تصوير الأحداث الكبرى فى تاريخ مصر المعاصر التى كان مشاركًا فيها أحيانًا أو مراقبًا لها أحيانًا أخرى.

هذا الكتاب هو سرد أدبى لتاريخ حافل بهموم شخص المؤلف وهموم الوطن، تتخلله لحظات قصيرة ينعم فيها المؤلف بالحديث عن أشياء حميمية تبعث فى نفسه السلوى والعزاء، وذلك من قبيل الاستمتاع بنعمة أحفاده فى حياته، ولكن هذه الحالة من التطلع إلى السلوى والعزاء وطلب الراحة بعد شقاء الحياة، هى حالة تبلغ ذروتها فى آخر فصول الكتاب بعنوان «دهشور»، ودهشور هى محل البيت الريفى الذى يأوى إليه ليتأمل حياته ويتطلع إلى أن ينعم بالراحة من شقاء الحياة وروتين الوظيفة والتزاماتها التى تجعل المرء مربوطًا بعجلة تشبه عجلة الساقية التى تدور بلا توقف، ولذلك فإن سلماوى فى هذا الفصل الأخير يبدو أنه قد تحرر من الالتزام بقيود الوقائع التى تُروى، فحلق فى عالم التأملات الوجودية من خلال لغة وصور أدبية بليغة تنتهى باسترجاع المصدر الذى ينبع منه عنوان الكتاب: «فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام، والحب ذو العصف والريحان. فبأى آلاء ربكما تكذبان.»

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة