الأحد، 31 أكتوبر 2021 - 11:20 ص

قراءة‭:‬ ‬أحمد‭ ‬الجمَّال

لم يكن الكاتب الراحل الأستاذ جميل عارف مجرد صحفى عادى فى آخرساعة، فإلى جانب تميزه فى عمله وأسلوبه الرشيق فى الكتابة، كان يتمتع بقلب كبير، ففى عام 1955 وحين علم بمرض قردة صغيرة اسمها ادليلةب فى حديقة الحيوان بالجيزة، قرر أن يتبناها، خصوصاً أنها من نوع االأورنجتانجب النادر وهو أقرب الحيوانات إلى الإنسان بعد الغوريلا، وكان عارف يسعى لإجراء تجربة يثبت من خلالها أن بإمكان دليلة أن تتصرف مثل بنى البشر بعد أن تتجاوز محنة المرض.

وتحت عنوان دليلة تنجو من الموت بأعجوبة، نشرت المجلة تقريراً على لسان محررها جميل عارف، مدعوماً بصور للقردة الصغيرة التى أثارت ردود فعل عالمية فى ذلك الوقت، واستقبلت الهدايا من أمريكا وتلقت عرضاً للتمثيل فى أحد الأفلام السينمائية.. التفاصيل نعيد نشرها بتصرف فى السطور التالية:

مرضت دليلة القردة التى تبناها محرر فى آخرساعة، وظل أطباء حديقة الحيوان بالجيزة ساهرين إلى جانبها يسعفونها بالعلاج حتى زال عنها الخطر.. وبقى الأب (جميل عارف) تساوره المخاوف بسبب مرضها.. كان قلقاً، وكان يخشى أن تموت ابنته بالتبنى.

تربية آدمية!

إن موتها كان يعنى أن تفشل تجربته.. تجربة تبنى قردة الأورنجتانج أقرب الحيوانات إلى الإنسان بعد الغوريلا، وكان موتها يعنى أيضاً أن تضيع فرصة الإشراف على تربيتها تربية آدمية.. وأنقذ أطباء حديقة الحيوان حياة دليلة، وبدأ الأب يسجل أول تباشير نجاح تجربته.. إنه يروى قصة الأيام الحرجة التى عاشتها ابنته بالتبنى، والمتاعب التى واجهها بسبب هذه التجربة المثيرة.

لا أعرف لماذا أثارت هذه التجربة اهتمام الكثيرين، ولا أعرف أيضاً لماذا أثارت ضدى ثائرة الأطباء البيطريين.. لقد سمعت منهم تعليقات كثيرة، وكتب إلى أحدُهم وهو طبيب بيطرى يشغل منصباً كبيراً فى المصلحة البيطرية بوزارة الزراعة، أراد أن يشكك فى إمكان نجاح هذه التجربة.

قال إن القرد حيوان، ومهما بلغ من درجة الرقى وعُومل معاملة آدمية فإنه لا يمكن أن يتصرف كآدمى، ونسى الطبيب البيطرى الكبير أن الشمبانزى هو الآخر حيوان من فصيلة القرد الراقية، وهو أقل مرتبة فى الرقى من الأورنجتانج، ومع ذلك نجحت حديقة الحيوان بلندن فى تدريبه على ركوب الدرّاجة وشرب الشاى بعد الظهر واللعب مع الأطفال الصغار.

وأنا لا أهدف إلى أن أدرب ادليلةب على أن تفعل ما يفعله الشمبانزى فى حديقة لندن.. إن هذه العملية يمكن أن يقوم بها االقرادتيةب الذين يملأون الشوارع، وأن يدربوها على النشل وسرقة نقود المتفرجين، ولكنى أسعى وراء ما هو أهم.. أريد أن أتتبع مدى تطوُّر نموها الذهنى، وما إذا كانت تستطيع أن تتصرف، وأن تفكر بتفكير الآدميين!

السينما تطرق أبوابها

وليس الأطباء البيطريون وحدهم الذين أبدوا اهتماماً بهذه التجربة، فقد عرضت بعض الشركات أن تستغل ادليلةب فى الدعاية لأعمالها.. اتصل بى مدير الدعاية فى شركة تبيع اللبن المجفف الذى يتغذى به الأطفال، وعرض على أن يهدى إلى دليلة عدة علب من منتجات شركته حتى يستغل هذه الهدية فى الدعاية لألبانه.

ومدير شركة عالمية للطيران بعث من نيويورك إلى القاهرة مجموعة من لعب الأطفال، وكلَّف اثنين من أجمل مضيفات شركته بأن تقدماها هدية منه إلى دليلة.. وأحد المنتجين السينمائيين المعروفين أيضاً سألنا عمّا إذا كان يمكنه أن يتعاقد مع ادليلةب ليظهرها فى أحد الأفلام التى قرَّر أن ينتجها فى الموسم المقبل.. ولكن دليلة ما تزال صغيرة، ولا تصلح فى الوقت الحاضر للتمثيل فى الأفلام السينمائية.

وقد أثارت التجربة اهتمام حدائق الحيوان فى الخارج، حيث طار إلى القاهرة الدكتور نشاط مستعلى أستاذ علم الحيوان فى جامعة طهران ليتعرف على حالة ادليلةب، وقال إن اعبلةب الأورنجتانج الأم هى أول أنثى تلد مولوداً فى حياة الأسر (يقصد داخل أسوار الحديقة)، وطلب موافاته فى طهران بتقارير أسبوعية عن تطورات التجربة.

إن حديقة الحيوان بالجيزة تبحث عن بيت يناسب ادليلةب فى حياتها الجديدة، وأنا عازم عندما تجد هذا البيت أن أزوده بمجموعة من لعب الأطفال، وفى هذا البيت تبدأ أولى مراحل التجربة مع الأورنجتانج الطفلة.

مواعيد الرضعة

إنها لا تزال صغيرة، وقد انتهت عملية الاستعداد للتجربة.. منعت من رضاعة أمها، وبُدئ فى تغذيتها بنفس الألبان المجففة التى يتغذى بها الأطفال الصغار.. إنها تتغذى فى كل يوم بثلاث رضعات، واحدة فى السابعة والنصف صباحاً، والثانية عند الظهر، والثالثة فى الخامسة مساء، وبين كل رضعة وأخرى يقوم أحد أطباء الحديقة بالكشف عن صحتها وتسجيل تطورات نموها فى سجل خاص.

ويقول أول التقارير التى أُعِدَت عنها إن وزنها لم يزد عند ولادتها فى يوم 8 يوليو الماضى على الرطلين، وفى يوم 22 أغسطس عندما بلغ عمرها 44 يوماً سجل وزنها ثلاثة أرطال، وفى الأسبوع الماضى فى يوم 16 سبتمبر أصبح وزنها ثلاثة أرطال ونصف الرطل.

مغص نصف الليل

لقد بدأت ادليلةب تتعرف على كل الذين حولها.. الشاويش حسن جمعة الذى يبحث لها فى كل يوم عن طفل صغير من بين الأطفال الذين يحومون حول بيتها ليقوم لها بدور المرضعة، والدكتور حسن حافظ كبير الإخصائيين بالحديقة، فقد أصبحت ادليلةب أهم الحيوانات كلها فى نظره، ومنذ عدة أسابيع كان نائماً فى بيته عندما أبلغه عامل تليفون الحديقة أن ادليلةب تشكو من مغص حاد.

واستقل الدكتور حسن حافظ سيارة تاكسى بعد منتصف الليل وعاد إلى الحديقة ليسعف ادليلةب بالكمون وماء الشعير الذى يتناوله الأطفال الصغار عندما يصابون بالمغص.

أما الدكتور كمال الدين نجاتى، فهو مكلف بأن يتردد على بيت ادليلةب ثلاث مرات فى كل يوم ليعد لها االرضعةب الصناعية، ويرفض الدكتور نجاتى أن يقدم إليها اللبن إلا بعد أن يعقم زجاجة الرضاعة فى جهاز خاص يثبته إلى جانب قفصها.

بينما أصبح الشاغل اليوم للدكتور إبراهيم حماد وكيل الحديقة هو أن يسبق الدكتور حافظ فى تسجيل ملاحظاته عن تطوُّر حياة ادليلةب حتى يتقدم إلى الجامعة برسالة تؤهله للحصول على درجة الدكتوراه.

إن التجربة تسير سريعاً نحو النتائج المرجـــــوة منهــــا، وأنا مــــؤمــــن بإمكــان نجاحها، ويؤمن بها أيضاً كل أطباء حديقة الحيوان، وإن كانوا من الأطباء البيطريين.

***

تُظهِّر الصور المنشورة مع التقرير أصدقاء ادليلةب من الأطفال المترددين على حديقة الحيوان، وهم فى حالة سعادة ويتسابقون على إرضاعها، وكــــذلك عنــــاية واهتمــــام الأطبـــــــــاء البيطريين وأساتذة علم الحيوان بالجامعات المصرية، بالقردة الصغيرة بعـــدما قــــرر مجلس إدارة الجمعية المصــرية لعلـــــم الحيــــوان أن تسهم الجمعية فى تجربة ادليلةب، حيث أخذ الأطباء يتناوبون لتسجيل ملاحظاتهم بشأن الحالة الصحية لـادليلةب.

وفى إحدى الصور تظهر ادليلةب وهى متشبثة بطفل رفضت أن تتركه حتى يأخذها معه فى رياضتها اليومية فوق دراجته الصغيرة، وهذا الطفل هو ابن أستاذ فى كلية الزراعة بالجيزة يسكن بالقرب من حديقة الحيوان ويذهب الطفل إلى ادليلةب يومياً ليلعب معها.