سمير الجمل
سمير الجمل


يوميات الاخبار

الملكة إليزابيث فى مولد السيد البدوى

الأخبار

الأحد، 31 أكتوبر 2021 - 07:35 م

وبعد كل هذا العمر.. يأتى من يحتل مشاعرنا بقدمه ونبله وفروسيته وهدوئه البعيد مع أشد المنافسين والخصوم فما أجمل عفة اللسان وروعة الاتزان!

«يمكنك أن تحتل أرضى وبيتى.. لكنك لا تستطيع ابداً ان تحتل عقلى وقلبى» حكمة ادركها المستعمر وكل من اقترب من مصرنا.. فقد كانت تأخذ ما تريد من الغريب وتعطيه ما تريد.. وهو يحكم قبضته عليها وينهب مواردها وخيراتها ويسلط عليها سلاحه وجواسيسه ولغته وثقافته.. وكما دخلوها.. خرجوا منها.. وهى كعهدها مرفوعة الرأس.. شامخة الكبرياء.. لأنها محصنة بحضارة خالدة.. اختلط فيها التوحيد بالطب والفن والهندسة والفلك والعلوم.
وفى ملعب «الانفيلد» معقل ليفربول كان العجوز الذى زاد عمره على الثمانين يجلس فى المدرجات.. وعينه على ذلك الفتى الذى يتلاعب بالمشاعر والأرقام والشباك.. ويصطاد النجاح بموهبة لا تعتمد فقط على قدرات خارقة فى كرة القدم.. لكنها اخلاقيات السمو والتحضر والانسانية التى جعلت العديد من اطفال انجلترا يقلدون «مو» فى سجدته بعد كل هدف وهم لا يعرفون لماذا يفعلها.. لكن الامهات والاباء سألوا وعرفوا.. وبعضهم راح يقرأ ويفتش فى معنى الاسلام الذى يحتضن الجميع ويؤمن بكل الرسل ولا يفرق بين أحد منهم.
الجنرال العجوز يبتسم بينه وبين نفسه ويهمس الى جاره فى المدرجات الذى يصغره بأكثر من ثلاثين سنة:
هل تعرف يا ديفيد.. لقد استعمرت انجلترا أرض مصر لاكثر من ٨٠ عاماً.. ولكنها ابداً ما استطاعت ان تفرض انجليزيتها على المصريين بل العكس الكثير من الجنود وأنا منهم تعلمنا الكثير من اللغة العربية وعاداتهم وتقاليدهم وعدد لا بأس به استقر به المقام فى بلاد الفراعنة واصبحت له اسرة هناك وبعد كل هذا العمر.. يأتى من يحتل مشاعرنا بقدمه ونبله وفروسيته وهدوئه البعيد مع اشد المنافسين والخصوم فما اجمل عفة اللسان وروعة الاتزان!
الجنرال الانجليزى العجوز «ماثيو» لا يعرف ان الارض فى مصر بتتكلم مصرى وعربى.. وأن الارض عندهم فى انجلترا بدأت مع الموجة «الصلاحية» لابن طنطا.. تعرف الابجدية وقال أحدهم: قريباً نرى الملكة اليزابيث تحضر مولد السيد البدوى وتعود إلى لندن بالحمص والحلاوة.. وصورة شخصية فى قرية نجريج تم التقاطها لها مع الحاج صلاح الأب والست اكرام الأم.. وقد أحسنا التربية فكان هذا الانتاج المصرى الذى جرى تصديره إلى العالم كله بامتياز.. اسرع من المصنوعات وافضل من المباحثات.. واقوى من الدعايات والدبلوماسيات. والكاتبة الانجليزية «جوان رولينج» تقول: «إذا كنت تريد ان ترى المقياس الحقيقى للرجل فراقب كيف يعامل من هم أقل منه شأنا وليس كيف يتعامل مع المساوين له».
العهد الأول
عندما جاءت فرصة الاحتراف فى سويسرا.. بعد أن أغلقت الاندية الكبرى ابوابها فى وجهه بحجة انه صغير السن صغير الحجم كانت نقطة التحول.. وفى الطائرة نظر من النافذة  وهو فى الارتفاع.. ومعالم البلد تصغر وتكاد تتلاشى.. وسأل نفسه: هل يمكننى ان احمل هذه الارض بداخلى وأنا ابتعد عنها؟!.. هل أستطيع ان اكون سفيراً بلا سفارة ولا قنصلية؟!
 هل اتحمل قسوة أيام الاغتراب الأولى فى مناخ غير ما تعودت ولغة غير ما نطقت.. وثقافة وتقاليد غير ما عشت وعرفت وتعودت!
هل أتلاشى اخطاء من ركبوا الطائرات قبلى وذهبوا الى اوروبا فى انديتها المختلفة.. ولكنهم فشلوا فى العثور على «الباسورد».. أو كلمة السر التى تفتح لهم كل باب مغلق وكل كنز مخفى..
يا رب.. امنحنى قوة البصيرة حتى لا أغمض عينى عن اخطائى وألهمنى الصبر على مشقة العمل فى رحلة اثبات الوجود فلا يشغلنى شاغل.. ولا يصرفنى لهو.. ولا تأخذنى زخارف الاضواء ومفاتن المال.. وشياطين الشهرة والغرور.
وكانت الخطوة بعد أن تبدلت القروش القليلة التى كان يحصل عليها الشاب الصغير.. بعد رحلة الشقاء الأولى من الجبل الأخضر حيث نادى المقاولون إلى محطة مصر حيث الميكروباص أو القطار الذى يأخذه إلى طنطا ومنها إلى آخر.. يقطع به مسافة ٢٥ كيلو متراً.. فى زحمة المواصلات وتحت وطأة الحر والبرد.. ثم هناك رحلة أخرى مقدارها خمسة كيلو مترات.. غالبا وسيلة مواصلاتها الاقدام التى خرجت من التدريب فى النادى مرهقة متعبة تبحث عن الراحة بدلاً من البهدلة. ولما اشترى له الوالد جهاز محمول بسيطا يطمئن به على رحلة «حمادة» فى الصباح والمساء.. اتضح ان مفاجآت الطريق لن يسعفها ذلك الجهاز فقد طال انتظار الفتى ذات ليلة عند منطقة يعرفها أهالى بسيون اسمها «التنظيم».. وهو لا يرد على المكالمات التى كررها الاب حتى لعب ابليس بسوء ظنه فى دماغه وكادت الأم الطيبة تلعن الكرة وسنينها واشتعلت موجات الظنون وعربات الإسعاف تهرول على الطريق.. والليل ينتصف فى شتاء قارس ومؤلم ولما خابت الظنون.. واكتشف الحاج صلاح أن ولده اخذته تعسيلة من شدة الارهاق والتعب وهو الذى يقطع هذه الرحلة يومياً بين الذهاب والإياب حتى إذا بلغ باب البيت غلبه النعاس وهو يأكل استعداداً لتكرار المشوار فى ليلتها اتصل الاب بمدربه الكابتن الشيشينى واقسم عليه ان لم يجد نادى المقاولون حلاً لهذه المشكلة فإن ولده لن يرتدى الشورت والفانلة بعد اليوم.. حتى وإن نافس بيليه ومارادونا وميسى ورونالدو.. وكان الحل تقديراً لموهبة «محمد» ان ينام فى استراحة النادى بعد عذاب.. ومنها.. كانت الانطلاقة الى منتخبات الاشبال والشباب ثم إلى المنتخب الوطنى الأول.
أين المسجد
أول ما سأل فى بازل السويسرية: اين المسجد؟.. وذهب إلى هناك يلتمس البركة ويضع فى صندوق التبرعات ما يطهر به مرتبه الأول بالعملة الصعبة خارج الديار وحتى تحل عليه بركة دعاء الوالدين وهما يتسلمان الحوالات الأولى وبعد «بازل» وما فعله فى بطولة أوروبا امام تشيلسى.. نسى صفحة الاحتراف.. وعقد النية على ان يبدأ إلى ما هو ابعد وبرغم فرحته بالانتقال إلى النادى الانجليزى العريق بقدر ما اصابه الاحباط وهو يجلس على الخط يريد أن يقول لمدربه «مورينيو»: هل احضرتنى من بازل انتقاماً منى لانى سجلت فى فريقك ذهاباً وإياباً على طريقة الموظف الذى يتم ترقيته بشلوت إلى أعلى فى التخطيط والمتابعة وهو يعرف مقدماً أنه ليس هناك من تخطيط ولا متابعة؟!
وجاءت رحلة الاعارة والانقاذ إلى ايطاليا فى «فورنتينا» لكى يتطور الأداء وتتم عملية ضبط الزوايا واعادة التشحيم والصيانة وكأنها خطوة جديدة.. بنظرة جديدة ومنهج جديد وشخصية جديدة.. كل هذا والعين والقلب مع أهل قرية نجريج.. كلما زاد رزقه.. زاد العطاء لهم.. وهو يحقق قول الشاعر:
وإذا رزقت من النوافل ثروة.. فامنح عشيرتك الأدانى فضلها
فهل بالغت عندما كتبت ذات مرة إلى وزير التربية والتعليم اطالبه بتدريس قصة نجاح صلاح فى المدارس لانها تتجاوز الملعب إلى الحياة نفسها؟ وقد كانت الوزارة فيما مضى تضع على خلفية كراريس التلاميذ بعض النصائح الذهبية التى تبدو للبعض ساذجة.. لكنها اساسية وتربت عليها الأجيال القديمة.. اغسل يدك قبل الاكل وبعده.. والنظافة من الإيمان.. ولو اختصرنا قصة هذا الفتى الطنطاوى الذى تحول إلى دعاية عالمية مجانية لا تقدر بثمن.. كمصرى وعربى وأفريقى ومسلم لقلنا فى سطور قليلة انها الإيمان بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.. وألا ينظر إلى الخلف إلا لكى يتجنب تكرار الخطأ.. وكل نجاح عنده هو أشبه بقفزة على درجة أعلى من سلالم القمة.. متسلحا بالصبر والإرادة.. وقانونه فى هذا هو قانون العلماء.. الذين كلما عرفوا ازدادت رغبتهم فيما هو اكثر. وكأنهم فى كل لحظة يولدون من جديد مع نقطة ومن أول السطر.
وقد كان بيليه جوهرة البرازيل وقد انضم صغيرا إلى منتخب بلاده وعمره لم يتجاوز ١٧ عاما.. يذهب لاحضار العصائر لكباتن الفريق وقد بدأ حياته ماسحا للأحذية وهو لا يمتلك الحذاء فقد عاش حافيا تداعب اصابعه السمراء الصغيرة حجارة الأرض.. ويحلم بأن يتغير ويغير حال أسرته ومن حوله.. وقد كان عندما التقطه نادى سانتوس.. ومنه إلى المنتخب البرازيلى وسط فطاحل اللعبة.. وتحول إلى حديث الدنيا كلها بعد ان حقق مع فريقه كأس العالم عام ١٩٥٨ ثم يتكرر الانتصار مرات أخرى وتحول البرازيلى الفقير الكادح إلى أكبر سفراء بلاده.. وهناك من لم يسمع عنها قبل «بيليه» الذى كان نموذجا فى الاستقامة والحفاظ على صحته والوفاء والبر بأهله.. فدانت له الدنيا وما يزال يلمع فى ذاكرة الدنيا.
هكذا تأخذنا كرة القدم إلى بلدان لم نكن بالغيها إلا من خلالها نعرف الأماكن والناس.
وداخل المصعد فى جريدة الأهرام لاحظ الكاتب الكبير توفيق الحكيم ان هناك من يأخذ انظار الناس واهتمامهم.. وكانوا يحيطون بشخص ما.. وكان هو محمود الخطيب، وبسبب هذه اللقطة كتبت فى جريدة العربى الكويتية وقتها: ثقافة الأقدام تنتصر على ثقافة الأقلام.. لان الناس انشغلت بمحرز الأهداف.. عن فلسفة الحكيم.
وتكرر الأمر مع الكاتب محمد حسنين هيكل وكلنا نعرف نجوميته داخل مصر وخارجها.. لكن فى تلك السهرة التى جمعته مع صالح سليم.. عرف هذا الصحفى العملاق ان سحر الكرة اكبر من جبروت القلم مهما كان.
ونفس الشىء يحدث فى مهرجانات السينما عندما يصعد الوزير ثم الفنان وتكون الحفاوة بالاخير اعظم واكبر لان القوة الناعمة فى الفن والرياضة يمكن أن تقتحم كل مغلق وتتجاوز كل حدود.. وعندما طالب الرئيس السيسى وزارة الشباب بأن تطلق مشروعا يبحث عن الف محمد صلاح جديد.. كان ينظر بعين الحقيقة والواقعية. وعندما نقول بأن الفن الجاد هو أمن قومى لا نبالغ.. فهل يدهشك ما فعله ابن نجريج بنا وبالعالم من حولنا حتى بين هؤلاء الذين لا يعرفون الفارق بين الكرة والبطيخة.. الا الاستدارة.. يسألون الله له أن يديم عليه نعمة العقل فهى التى تحرك القدم إما إلى الجنة وإما إلى الجحيم..!!

 

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة