«التأييد الشعبي لحركة الضباط الأحرار هو الذي حول الحركة إلي ثورة.. وكانت هناك عدة أسباب كانت كافية لحدوث هذا التأييد»

أفخر بحق أنني من جيل ثورة يوليو 1952 التي احتفلنا أمس بالذكري الثالثة والستين لها.

أغلب من قاموا بتلك الثورة.. ومعظم من عاشوا تفاصيلها انتقلوا بالطبع إلي دار الحق.. مازال القليل منهم علي قيد الحياة يحتكر تأريخ التفاصيل وينسب لبعض أبطال المشهد الثوري أو لنفسه بعض ما حدث أو ما لم يحدث ليس لسبب إلا أن الله قد مد في أعمارهم. هكذا هو التاريخ دائما علي مر كل العصور.

لكنني عندما أحكي اليوم لأولادي وأحفادي يجب أن أكون موضوعيا حتي لو كنت متحيزا للثورة.. فالتحيز أو الإنحياز هو أن تناصر فكرة وتؤيد رأيا وتنضم تحت راية تختارها باقتناع.. أما الموضوعية فهي أن تتجرد من نفسك وأنت تستعرض أحداث التاريخ وتتقبل كل ما يخالفك الرأي.. فالتاريخ لا يقف ويجب ألا يتوقف عند حدود رأي واحد.

ثورة 23 يوليو 1952 كما أسماها مؤيدوها وهم غالبية الشعب المصري.. أو الانقلاب العسكري كما أسماها المعارضون لها، تمت بواسطة مجموعة من الضباط أطلقوا علي أنفسهم تنظيم الضباط الأحرار، الذي ظهر بعد حرب 1948 وضياع فلسطين.. بقيادة البكباشي ( المقدم ) جمال عبد الناصر وفي الثالث والعشرين من يوليو 1952 قام التنظيم بحركة مسلحة نجحت في السيطرة علي الأمور والمرافق الحيوية في البلاد وأذيع البيان الأول للثورة بصوت أنور السادات وفرض الجيش علي الملك في البداية التنازل عن العرش لولي عهده الأمير أحمد فؤاد ومغادرة البلاد في 26 يوليو 1952 وشكل مجلس وصاية علي العرش ولكن إدارة الأمور كانت في يد مجلس قيادة الثورة المشكل من 13 ضابطا كانوا هم مجلس قيادة الثورة واستمر الحال هكذا عاما كاملا ثم ألغيت الملكية وأعلنت الجمهورية في 1953.

التأييد الشعبي لحركة الضباط الأحرار هو الذي حول الحركة إلي ثورة.. وكانت هناك عدة أسباب كانت كافية لحدوث هذا التأييد.. منها: تجاهل الملك فاروق للأغلبية واعتماده علي أحزاب الأقلية وتغيير أربع وزارات في ستة أشهر.. وجود اضطراب أمني بالغ بسبب دموية جماعة الإخوان المسلمين التي اغتالت رئيسين للوزراء وعددا من القضاة والشخصيات العامة أعقبها اغتيال مؤسس ومرشد الجماعة نفسه.. ومنها أيضا قيام حرب فلسطين وتوريط الملك للبلاد فيها دون استعداد مناسب ثم الهزيمة.. فضلا عن انتشار معلومات عن وجود أسلحة فاسدة في صفوف الجيش المصري. وأهمها بالطبع وجود القوات البريطانية المحتلة لمصر والناهبة لمواردها وخيراتها.

كان لثورة يوليو ما يميزها عن ثورات ما بعد الحرب في أنها ثورة بيضاء لم ترق فيها الدماء. قام بها جيل جديد من الضباط والشبان وإن اختاروا لهم واجهة من كبار الضباط.. لأنه كان من طبيعة الحركات العسكرية أن يقوم بها قادة الجيوش وأصحاب الرتب الكبيرة... وكان تشكيل الضباط الأحرار ذا طبيعة خاصة لا تنفرد باتجاه معين ولا تنتمي لحزب سياسي واحد فلقد كانوا من مختلف الاتجاهات السياسية وهو ما فسر الاختلافات بينهم فيما بعد. وكان من أهم ما يميزها هو سرعة اكتسابها التأييد الشعبي الجارف من ملايين الفلاحين وطبقات الشعب العاملة الذين كانوا يعيشون حياة تتسم بالمرارة والمعاناة.

ألهمت الثورة كل حركات التحرر في كل الدول المحتلة.. ساند عبد الناصر حركات التحرر العالمي وحركات المد القومي العربي من أجل هدف الوحدة العربية فدخل في وحدة مع سوريا تعتبر الوحيدة من نوعها في تاريخ العرب المعاصر من عام 1958 إلي عام 1961 تاريخ الانفصال كما ساند جبهة التحرير في الجزائر وساند ثورة اليمن ضد الحكم الملكي بقوات عسكرية وصلت إلي حد أن الجيش المصري كان مشاركا فعليا في حرب اليمن.

ومن أجل تحقيق العدالة الاجتماعية قام عبد الناصر باختيار المنهج الاشتراكي في الحكم فقام بتأميم المصانع والشركات الكبري في عام 1961.. وكانت له انجازات واضحة في طريق تحقيق العدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية للعمال والفلاحين والمرأة . ولكن علي الجانب الآخر.. فلم تكن هناك مساحات لحرية الرأي أو تداول السلطة أو التعددية الحزبية وكانت الدولة البوليسية أو المخابراتية هي التي تسيطر علي مقاليد الأمور.

كان بناء السد العالي هو أهم معارك الثورة تحدي فيها عبد الناصر العالم كله.. ومن أجل بناء السد العالي أمم عبد الناصر قناة السويس في عيد الثورة الرابع في 1956 مما كان سببا في قيام اسرائيل بالتعاون مع فرنسا وبريطانيا بالهجوم علي مصر في الحرب التي اشتهرت بالعدوان الثلاثي.

وفي عام 1967 قامت اسرائيل بالهجوم علي مصر وسوريا والأردن وهزمت الجيوش العربية في تلك الحرب التي اشتهرت بالنكسة او حرب الأيام الستة واستولت علي سيناء والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة. وكانت هذه الهزيمة العسكرية هي الضربة الأولي التي أصابت جسد الثورة في مقتل.. ثم كانت الضربة الثانية وهي وفاة عبد الناصر نفسه في ظروف مفاجئة عام 1970 ..لينتهي عصر ثورة يوليو من وجهة النظر التاريخية.. وإن مازالت آثارها باقية إلي الآن.