جدل على هامش معرض فرانكفورت
جدل على هامش معرض فرانكفورت


جدل على هامش معرض «فرانكفورت» للكتاب بعد مقاطعة الكاتبة الألمانية «ياسمينا»

أخبار الأدب

الأحد، 07 نوفمبر 2021 - 05:50 م

أثار مقاطعة الكاتبة الألمانية من أصول أفريقية ياسمينا كونكه لمعرض فرانكفورت الدولي للكتاب فى دورته الأخيرة، نقاشًا واسعًا في ألمانيا حول حدود حرية التعبير ومتى تتوقف عن كونها حرية وتتحول إلى تحريض أو نشر للكراهية والعنف.

جاءت مقاطعة كونكه للمعرض كما ذكر موقع دويتشه فيلله على خلفية مشاركة دار النشر اليمينية «يونجه أوروبا» (أي أوروبا الفتية) فيه. 

تتمسك الكاتبة التي رفضت تقديم روايتها الأولى «القلب الأسود» ضمن فعاليات المعرض بأنه لا يوجد مكان بجوارها للنازيين 
وأنه من غير المعقول أن يُمنَحوا مساحة لتقديم أنفسهم وأفكارهم المتطرفة في حين يرد القائمون على المعرض بأن حرية التعبير مكفولة للجميع طالما أن الرأي لا ينتهك القانون خاصةً أن الأفكار لا تموت أو تنتهي بمجرد حظرها. 

والنقطة الأخيرة قد تكون صحيحة لكنها لا تعني منح منصة من المنصات الهامة لعرض أفكار هدّامة أو عنصرية ويبدو موقف كونكه منطقيًا بمعرفة أن صاحب الدار هو ناشط يميني متطرف يُدعى فيليب شتاين وهو أيضًا المتحدث الإعلامي لمنظمة يمينية اسمها «الأخوة الألمانية» كما أنه ينظم وفقًا لموقع دويتشه فيلله أيضًامشروع «واحد بالمائة من أجل وطننا» المناهض للاجئين الذي حظرت مواقع فيسبوك وإنستجرام ويوتيوب حساباته عليها بسبب تطرفه ونشره خطاب كراهية.

وبحسب كونكه فإن شتاين كتب مطالِبًا بترحيلها وبالتالي من حقها أن تخاف على سلامتها الشخصية ولا تجازف بحضور معرض يشارك فيه يمينيون ويحضره مؤيديون لهم.

ويبدو أن هذا الجدل لن ينتهي سريعًا فهو يتجدد من عام لآخر ويحتاج إلى تعمق فى التفكير وتكوين مواقف وآراء مركبة قادرة على استيعاب أبعاده كلها ومدركة لحقيقة أن الحظر والإلغاء ليس حلًا حاسمًا لكن أيضًا يجب أن تكون هناك آليات لحماية الفئات المستهدفة من هؤلاء اليمينيين.

من جهة أخرى يدفعنا هذا إلى استحضار ثقافة الإلغاء cancel culture الشائعة حاليًا فى الغرب والتي بموجبها يتم إلغاء كُتَّاب ومثقفين من الحياة العامة والضغط على دور النشر لمنع تعاقداتها معهم من جانب ناشطين ثقافيين ومدافعين عن الصوابية السياسية والتساؤل عن دورها فى ظل هذا الجدل الدائر حاليًا والمتعلق ليس فقط بأفراد لديهم آراء إشكالية أو غير صائبة سياسيًا بل بكيانات ومنظمات تنشر أفكارًا متطرفة وتجد لنفسها مكانًا فى أحد أهم معارض الكتب فى العالم.
م.ع

قادتنى‭ ‬عطلة‭ ‬قصيرة‭ ‬إلى‭ ‬تصفح‭ ‬طويل‭ ‬لصفحات‭ ‬مراجعات‭ ‬الكتب‭ ‬على‭ ‬فيسبوك،‭ ‬ولمحتُ‭ ‬حواراً‭ ‬مع‭ ‬كاتبة‭ ‬أميركية‭ ‬اسمها‭ ‬لور‭ ‬سيجال،‭ ‬وكانت‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التى‭ ‬أسمع‭ ‬فيها‭ ‬باسمها‭. ‬جذبتنى‭ ‬شجاعة‭ ‬العنوان‭ ‬المأخوذ‭ ‬من‭ ‬جُملة‭ ‬وردت‭ ‬فى‭ ‬اللقاء‭:‬‮»‬ سأواصل‭ ‬الكتابة‭ ‬بعد‭ ‬التسعين‮». ‬‭ ‬أُجرى‭ ‬معها‭ ‬حوار‭ ‬قصير‭ ‬عبر‭ ‬الهاتف‭ ‬بمناسبة‭ ‬صدور‭ ‬كتابها‭ ‬الأحدث  ‬‭ ‬The Journal I Did Not Keep‭  ‬الصادر‭ ‬مؤخراً‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬ميلفيل‭ ‬هاوس‭. ‬كان‭ ‬اللقاء‭ ‬شائقاً‭ ‬خفيفاً‭ ‬أوصلنى‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭. ‬

كتب : أحمد الزناتى
لور‭ ‬سيجال‭: ‬ سأواصل‭ ‬الكتابة‭ ‬بعد‭ ‬التسعين
وُلدت‭ ‬لور‭ ‬سيجال‭ ‬فى‭ ‬فيينا‭ ‬فى‭ ‬9‭ ‬مارس‭ ‬سنة‭ ‬1928‭. ‬وفى‭ ‬سنة‭ ‬1938‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬إنجلترا‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬آلاف‭ ‬أطفال‭ ‬اليهود‭ ‬الذين‭ ‬أُخرِجوا‭ ‬من‭ ‬ديارهم‭ ‬فى‭ ‬ألمانيا‭ ‬والنمسا‭ ‬وتشيكوسلوفاكيا‭ ‬بعد‭ ‬تولى‭ ‬الاشتراكيين‭ ‬القوميين‭ ‬سدة‭ ‬الحكم‭.  ‬
عاشت‭ ‬فى‭ ‬كنف‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬العائلات‭ ‬الراعية‭ ‬وتخرجت‭ ‬فى‭ ‬جامعة‭ ‬لندن‭ ‬وبعد‭ ‬إقامة‭ ‬قصيرة‭ ‬فى‭ ‬جمهورية‭ ‬الدومينيكان‭ ‬هاجرت‭ ‬بصحبة‭ ‬والدتها‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وتزوجت‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬المحرر‭ ‬الأدبى‭ ‬ديفيد‭ ‬سيجال‭ ‬وأنجبت‭ ‬منه‭ ‬طفلين‭ ‬وقد‭ ‬توفى‭ ‬الزوج‭ ‬فى‭ ‬عام‭ ‬1970‭ ‬.
 درَّســـت‭ ‬سيجال‭ ‬فى‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الكليات‭ ‬والجامعات‭ ‬الأميركية‭. ‬من‭ ‬بين‭ ‬أعمالها‭ ‬الروائية‭ ‬منازل‭ ‬أناس‭ ‬آخرين‭ (‬1964‭) ‬ولوسينيلا‭ (‬1976‭) ‬ومطبخ‭ ‬شكسبير‭ (‬2007‭) ‬كما‭ ‬نشرت‭ ‬بعض‭ ‬الترجمات‭ ‬
والعديد‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬للأطفال‭. ‬تكتب‭ ‬سيجال‭ ‬مقالات‭ ‬ومراجعات‭ ‬الكتب‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬مجلة‭ ‬نيويوركر‭ ‬
ومجلة‭ ‬نيويورك‭ ‬تايمز‭ ‬ونيو‭ ‬ريبابليك‭ ‬وهاربر‭ ‬وغيرها‭. ‬وهى‭ ‬الآن‭ ‬تعيش‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬نيويورك‭. ‬تمتد‭ ‬مسيرة‭ ‬سيجال‭ ‬المهنية‭ ‬نحو‭ ‬ستة‭ ‬عقود‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬كتابة‭ ‬مذكرات‭ ‬وترجمة‭ ‬وكتابة‭ ‬أدب‭ ‬أطفال‭. ‬
فى‭ ‬الحوار‭ ‬المٌشار‭ ‬إليه‭ ‬آنفاً‭ ‬لاحظتُ‭ ‬أن‭ ‬مادة‭ ‬سيجال‭ ‬خصبة‭ ‬غنية ‬تفيض‭ ‬بخفّة‭ ‬ظل‭ ‬واضحة،‭ ‬فهى‭ ‬تستمتع‭ ‬بدمج‭ ‬الحوارات‭ ‬والنِكات‭ ‬والفانتازيا‭ ‬أحيانًا‭ ‬فى‭ ‬نسيج‭ ‬قصصها،‭ ‬بل‭ ‬ودسّ‭ ‬الحكايات‭ ‬الخرافية‭ ‬والأساطير‭ ‬داخل‭ ‬النسيج‭ ‬السرى‭ ‬دون‭ ‬تمهيد‭ ‬مُسبق‭. ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تحمل‭ ‬معها‭ ‬شخوصها‭ ‬الروائية‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬إلى‭ ‬أخرى ‬فتتركها‭ ‬تشيخ‭ ‬وترتدى‭ ‬هويات‭ ‬مختلفة،‭ ‬وهى‭ ‬تقنية‭ ‬أثيرة‭ ‬لديها‭ ‬كما‭ ‬ظهرَ‭ ‬من‭ ‬صفحات‭ ‬الكتاب‭.‬
أما‭ ‬كتابها‭ ‬الصادر‭ ‬حديثاً‭ ‬فهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬يضم‭ ‬نصوصاً‭ ‬قصصية‭ ‬وغير‭ ‬قصصية‭ ‬لم‭ ‬تُنشر‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬مقتطفات‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬كتبت ‬والكتاب‭ ‬مؤلّف‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أبواب‭: ‬شذور‭ ‬من‭ ‬دفتر‭ ‬اليوميات‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬تحتفظ‭ ‬به‭ ‬كما‭ ‬يشير‭ ‬عنوان‭ ‬الكتاب‭ ‬وسأوضّح‭ ‬فيما‭ ‬يلى‭ ‬المقصود‭ ‬من‭ ‬العنوان‭ ‬وكتابات‭ ‬قصصية‭

‬وأخرى‭ ‬غير‭ ‬قصصية‭ ‬تضم‭ ‬نصوصاً‭ ‬سيرية‭ ‬حرة‭ ‬ومقالات‭ ‬ومذكرات‭. ‬للذاكرة‭ ‬وعلاقتها‭ ‬بالأدب‭ ‬نصيب‭ ‬الأسد‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬سجال،‭ ‬نقرأ‭ ‬فى‭ ‬مقدمة‭ ‬الكتاب‭:‬

 


‮«‬كان‭ ‬سبب‭ ‬انصرافى‭ ‬عن‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بدفتر‭ ‬يوميات‭ ‬هو‭ ‬افتراض‭ ‬مؤداه‭ ‬أن‭ ‬الذاكرة‭ ‬ستختار‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مفيداً،‭ ‬وبالتالى‭ ‬فما‭ ‬أسقطته‭ ‬ذاكرتى‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليستحق‭ ‬التذكُّر‭. ‬وكانت‭ ‬كلمة‭ ‬مفيد‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليَّ‭ ‬مرادفاً‭ ‬لكلمة ‭ ‬‮«نسخة‮»‬‭ ‬ أحتفظ‭ ‬بها‭ ‬فى‭ ‬الفناء‭ ‬الخلفى‭ ‬من‭ ‬رأسى‭ ‬لأجل‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عنها‭ ‬يوماً‭ ‬ما‭. ‬الذاكرة‭ ‬للكاتب‭ ‬هى‭ ‬بمثابة‭ ‬دفتر‭ ‬مسوّدات‮‬‭.«‬
>>>
الباب‭ ‬الأول‭  ‬مكوّن‭ ‬من‭ ‬فقرات‭ ‬متتالية‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬الفقرة‭ ‬الواحدة‭ ‬نصف‭ ‬صفحة‭ ‬على‭ ‬الأكثر،‭ ‬تستعيد‭ ‬فيها‭ ‬سيجال‭ ‬–‭ ‬بأعينٍ‭ ‬جديدة‭ ‬وربما‭ ‬بوعى‭ ‬اللحظة‭ ‬الراهنة‭- ‬ذكريات‭ ‬مضى‭ ‬عليها‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬خمسة‭ ‬عقود‭ ‬أو‭ ‬ستة،‭ ‬وكلها‭ ‬متصلة‭ ‬بعلاقتها‭ ‬بوالدتها‭ ‬السيدة ‭»‬فرانتسي»‬‭ ‬التى‭ ‬أهدتْ‭ ‬إليها‭ ‬الكتاب،‭ ‬وذكريات‭ ‬تهجيرها‭ ‬بمعرفةKindertrasport‭  ‬ (مفردة‭ ‬ألمانية‭ ‬تعنى‭ ‬إجلاء‭ ‬الأطفال‭ ‬وهو‭ ‬جهد‭ ‬إنقاذٍ‭ ‬منظم‭ ‬حدث‭ ‬خلال‭ ‬الأشهر‭ ‬التسعة‭ ‬السابقة‭ ‬لاندلاع‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬حيث‭ ‬استقبلت‭ ‬المملكة‭ ‬المتحدة‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬طفل‭ ‬غالبيتهم‭ ‬من‭ ‬اليهود‭ ‬من‭ ‬ألمانيا‭ ‬والنمسا‭ ‬وتشيكوسلوفاكيا‭ ‬وبولندا)‬،‭ ‬وفى‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬قصة‭ ‬كاملة‭ ‬تحمل‭ ‬العنوان‭ ‬نفسه ‭ ‬The Children’s Transport‭. ‬
سأسمح‭ ‬لنفسى‭ ‬بنقل‭ ‬الفقرتين‭ ‬التاليتيْن‭ ‬الكاشفتيْن‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬الكاتبة‭:‬
‮«‬لو‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬درس‭ ‬يمكننى‭ ‬تعلّمه‭ ‬من‭ ‬إخفاقات‭ ‬حياتى‭ ‬فإنى‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬التفكير‭ ‬فيمَ‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الإخفاق‭. ‬لم‭ ‬تذهب‭ ‬حياتى‭ ‬إلى‭ ‬بالوعة‭ ‬المجاري‭. ‬هناك‭ ‬أشياء‭ ‬أنجزتها‭ ‬وأخرى‭ ‬أخفقت‭ ‬فى‭ ‬إنجازها‭. ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬أننى‭ ‬غامرت‭ ‬بالقفز‭ ‬إلى‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬حافة‭ ‬حمام‭ ‬السباحة‭. ‬
يروق‭ ‬لى‭ ‬أن‭ ‬أسأل‭ ‬أصدقائى‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬أنهم‭ ‬ارتكبوا‭ ‬جريمة‭ ‬قتل‭ ‬وكانوا‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬أن‭ ‬يُنفذ‭ ‬فيهم‭ ‬حكم‭ ‬الإعدام،‭ ‬ماذا‭ ‬يودّون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬وجبتهم‭ ‬الأخيرة؟‭ ‬هذا‭ ‬سؤالى‭ ‬وجوابى‭ ‬التقليدى‭ ‬سيكون‭ ‬شريحة‭ ‬من‭ ‬الخبز‭ ‬مدهونة‭ ‬بقطعة‭ ‬من‭ ‬الزبدة،‭ ‬لكن‭ ‬الإجابة‭ ‬الحقيقية‭ ‬هى‭ ‬شريحة‭ ‬من‭ ‬الخبز‭ ‬الأسود‭ ‬الذى‭ ‬كانت‭ ‬تخبزه‭ ‬جدتى‭ ‬فى‭ ‬المطبخ‭ ‬خلف‭ ‬متجر‭ ‬الأغذية‭ ‬الجافة‭ ‬المملوك‭ ‬لجدي،‭ ‬فارنهاوس‭ ‬يوزيف‭ ‬شتيرن‭. ‬كان‭ ‬المتجر‭ ‬يقع‭ ‬فى‭ ‬الساحة‭ ‬الرئيسية‭ ‬لمدينة «‬فيشامِند‮‬‭ ‬Fischamend‭ «‬مدينة‭ ‬فى‭ ‬النمسا‭)‬،‭ ‬وصادَره‭ ‬الجنود‭ ‬الألمان‭ ‬فى‭ ‬أغسطس‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1938‮ ‬‭ ‬انتهى‭ ‬الاقتباس). ‬
أما‭ ‬الجزء‭ ‬الثانى‭ ‬فيضم‭ ‬مختارات‭ ‬قصصية‭ ‬لم‭ ‬تُنشر‭ ‬مسبقاً‭ ‬لسيجال،‭ ‬وهى‭ ‬تترواح‭ ‬بين‭ ‬قصص‭ ‬قصيرة‭ ‬إلى‭ ‬قصص‭ ‬متوسطة‭ ‬الطول‭ ‬تـصدرها‭ ‬أحياناً‭ ‬باقتباسات‭ ‬لمارسيل‭ ‬بروست‭ ‬ربما‭ ‬فى‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬الطابع‭ ‬النوستالجى‭ ‬للنصوص‭. ‬لاحظت‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬القصص‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬طابع‭ ‬الحوار،‭

‬بل‭ ‬إن‭ ‬بعضها‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬حوارات‭ ‬خالصة‭ ‬بين‭ ‬الشخوص‭ ‬الروائية،‭ ‬وأغلب‭ ‬الأبطال‭ ‬سيدات‭ ‬فى‭ ‬أواسط‭ ‬العمر‭ ‬أو‭ ‬تقدم‭ ‬بهن‭ ‬السن‭ ‬ويعانين‭ ‬الوحدة،‭ ‬لكنهن‭ ‬مؤمنات‭ ‬بأنفسهنّ،‭ ‬لم‭ ‬يفقدن‭ ‬الأمل‭ ‬فى‭

 

‬مواصلة‭ ‬العيش‭ ‬وقبول‭ ‬الدنيا‭ ‬بسخافاتها‭ ‬وسخافات‭ ‬بعض‭ ‬ساكنيها،‭ ‬وهى‭ ‬نقطة‭ ‬أعجبتنى‭ ‬فى‭ ‬منظور‭ ‬سيجال‭ ‬للحياة‭. ‬بطلات‭ ‬سيجال‭ ‬يشغلن‭ ‬أوقاتـهن‭ ‬بالاجتماع‭ ‬عند‭ ‬واحدة‭ ‬منهن‭ ‬والكلام‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬والكتابة‭ ‬ومشاكل‭ ‬الأبناء‭ ‬والمراهقة‭ ‬والطبيخ،‭ ‬إلخ،‭ ‬ولا‭ ‬تخلو‭ ‬الحوارات‭ ‬من‭ ‬حشر‭ ‬كلمات‭ ‬ألمانية‭ ‬مكتوبة‭ ‬بطريقة‭ ‬النُطق‭ ‬النمساوية‭ ‬المميّزة‭ ‬المثيرة‭ ‬للضحك‭ ‬أحياناً‭ ‬لمن‭ ‬يعرف‭ ‬طريقة‭ ‬نطق‭ ‬أهل‭ ‬النمسا‭. ‬

أما‭ ‬الباب‭ ‬الثالث‭ ‬والأخيرة‭ ‬فينقسم‭ ‬إلى‭ ‬مذكرات‭ ‬ومقالات‭. ‬من‭ ‬بين‭ ‬المقالات‭ ‬واحدة‭ ‬مطولة‭ ‬تحمل‭ ‬عنوان‭ ‬مشكلات‭ ‬تخيّل‭ ‬الماضي،‭ ‬أنقل‭ ‬منه‭ ‬الفقرات‭ ‬التالية‭:‬
‮«‬موضوع‭ ‬مقالتى‭ ‬هو‭ ‬كتابة‭ ‬القصة‭ ‬وبشكل‭ ‬أكثر‭ ‬تحديدًا‭ ‬كتابة‭ ‬القصة‭ ‬التى‭ ‬يكون‭ ‬موضوعها‭ ‬هو‭ ‬الذاكرة. ‬ ولو‭ ‬تحرّينا‭ ‬الدقة‭ ‬لقلنا‭ ‬كتابة‭ ‬القصة‭ ‬التى‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬ذكرى‭ ‬الهولوكوست‭ ‬موضوعاً‭ ‬لها‭. ‬لا‭ ‬أنوى‭ ‬هنا‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬نظرية‭ ‬الخيال‭ ‬أو‭ ‬طبيعة‭ ‬الذاكرة‭ ‬أو‭ ‬فكرة‭ ‬الهولوكوست‭. ‬لذلك،‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تبدو‭ ‬مقالتى‭ ‬لك‭ ‬مثل‭ ‬مقالة،‭ ‬ما‭ ‬تفعله‭ ‬المقالة‭ ‬هو‭ ‬صياغة‭ ‬مشكلة‭ ‬ومناقشتها‭ ‬حتى‭ ‬النهاية‭. ‬أود‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬أؤدى‭ ‬الدور‭ ‬الذى‭ ‬تؤديه‭ ‬القصة‭: ‬أن‭ ‬أريكم‭ ‬شيئاً،‭ ‬أن‭ ‬أبين‭ ‬كيف‭ ‬يعمل‭ ‬الخيال‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬الذاكرة‭ ‬موضوعه‭. ‬الخيال‭ ‬ينهض‭ ‬بالدور‭ ‬الذى‭ ‬ينهض‭ ‬به‭ ‬المسرح،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬أعماق‭ ‬عقلك‭. ‬وبينما‭ ‬تنطلق‭ ‬المقالة‭ ‬لمناقشة‭ ‬فكرته‭ ‬معكَ‭ ‬فإن‭ ‬الخيال‭ ‬ينشد‭ ‬عرضَ‭ ‬الفكرة‭ ‬داخل‭ ‬مُخيّلتكَ‭. ‬تسعى‭ ‬المقالة‭ ‬إلى‭ ‬شرح‭ ‬فكرة،‭ ‬بينما‭ ‬يسعى‭ ‬الخيال‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يخلق‭ ‬بداخلك‭ ‬فكرة،‭ ‬وأن‭ ‬يصنع‭ ‬فى‭ ‬أعماقك‭ ‬تجربة‭. ‬
طالما‭ ‬حاولت‭ ‬وصف‭ ‬آلية‭ ‬عمل‭ ‬الذاكرة‭. ‬لذا‭ ‬اقترحتُ‭ ‬على‭ ‬طلابى‭ ‬شيئاً،‭ ‬طلبت‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬يغلقوا‭ ‬أعينهم،‭ ‬وأن‭ ‬يحاولوا‭ ‬تذكّر‭ ‬ملامحي،‭ ‬وسألتهم‭ ‬إذا‭ ‬كانوا‭ ‬يتذكرون‭ ‬شكلي‭. ‬قلت‭ ‬لهم‭: ‬عندما‭ ‬تفتحون‭ ‬أعينكم‭ ‬ستغمركم‭ ‬دهشة‭ ‬بالغة‭ ‬بسبب‭ ‬مدى‭ ‬اختلاف‭ ‬صورتى‭ ‬فى‭ ‬الذاكرة‭ ‬عن‭ ‬صورتى‭ ‬الحقيقية‭. ‬السبب‭ ‬أن‭ ‬الخيال‭ ‬مصنوع‭ ‬من‭ ‬مادة‭ ‬خام‭ ‬مغايرة‭ ‬تماماً‭ ‬لمادة‭ ‬الأشياء‭ ‬المرئية‭ ‬فى‭ ‬الواقع‭. ‬الذاكرة‭ ‬شيء‭ ‬والواقع‭ ‬شيء‭ ‬آخـر‭ ‬تماماً‭.‬
تتشكّل‭ ‬أغلب‭ ‬رواياتى‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬قصة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬أراه‭ ‬بِدعة‭ ‬فقد‭ ‬سبقنى‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬ديكنز‭ ‬وهنرى‭ ‬جيمس‭. ‬تُـشكّل‭ ‬بعض‭ ‬الفصول‭ ‬وحدات‭ ‬سردية‭ ‬قابلة‭ ‬للنشر‭ ‬برأسها‭ ‬لأنها‭ ‬نُشِرت‭ ‬مسبقًا‭ ‬بشكل‭ ‬منفصل‭. ‬انتقيت‭ ‬الأجزاء‭ ‬المميزة،‭ ‬والفقرات‭ ‬التى‭ ‬كنت‭ ‬أوثرها‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭. ‬ فمثلًا‭ ‬من‭ ‬رواية ‭‬‮«‬أول‭ ‬أميركى‭ ‬لها‮»‬‭‬ انتقيت‭ ‬قطعة‭ ‬نثرية‭ ‬محورية‭ ‬حملت‭ ‬عنوان‭ ‬صيف،‭ ‬وكانت‭ ‬ترسم‭ ‬أبطالا‭ ‬يعيشون‭ ‬فترة‭ ‬عطلة‭ ‬الصيف‭ ‬معاً،‭ ‬اعتقدتُ‭ ‬أنها‭ ‬قطعة‭ ‬نثرية‭ ‬جيدة‭ ‬انتهى‭ ‬الاقتباس)‭.‬
أما‭ ‬الجزء‭ ‬المتواشج‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬ويحمل‭ ‬عنوان‭ ‬كيف‭ ‬تنضج‭ ‬فقد‭ ‬اخترتُ‭ ‬منه‭ ‬الفقرات‭ ‬التالية‭: ‬
‮«‬تقول‭ ‬صديقتى‭ ‬راعوث‭ ‬إن‭ ‬متعتنا‭ ‬هى‭ ‬أننا‭ ‬لم‭ ‬نمت‭ ‬بعد،‭ ‬لكنى‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬ملذات‭ ‬الحياة‭ ‬شيء‭ ‬إيجابي،‭ ‬إليكم‭ ‬فيما‭ ‬يلى‭ ‬عيّنة‭ ‬من‭ ‬ملذات‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬الصغيرة‭ ‬عندي‭. ‬سؤال‭: ‬كم‭ ‬عدد‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬تعرفهم‭ ‬ويمكنهم‭ ‬الاستلقاء‭ ‬فى‭ ‬السرير‭ ‬ومشاهدة‭ ‬شروق‭ ‬الشمس‭ ‬والبقاء‭ ‬فى‭ ‬أماكنهم‭ ‬حتى‭ ‬مشاهدة‭ ‬منظر‭ ‬الغروب؟‭ ‬أنا‭ ‬شخصياً‭ ‬لا‭ ‬أبقى‭ ‬فى‭ ‬السرير‭. ‬يعرف‭ ‬رفيقى‭ ‬على‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض‭ ‬ديفيد‭ ‬أننى‭ ‬أستيقظ‭ ‬سبع‭ ‬مرات‭ ‬فى‭ ‬الأسبوع‭. ‬أغادر‭ ‬الفراش،‭ ‬أرتدى‭ ‬ملابسى‭ ‬وأذهب‭ ‬إلى‭ ‬المطبخ‭ ‬لإعداد‭ ‬فنجان‭ ‬قهوة‭ ‬مـعــتبر،‭ ‬ثم‭ ‬أتناول‭ ‬شريحة‭ ‬توست‭ ‬مدهونة‭ ‬بزبدة،‭ ‬وأبتلع‭ ‬خلطة‭ ‬قوامها‭ ‬ثمانية‭ ‬أقراص‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شكل‭ ‬ولون‭ ‬وحجم‭ ‬الأرجح‭ ‬أنها‭ ‬تقصد‭ ‬أدوية‭ ‬وفيتامينات‭‬،‭ ‬ثم‭ ‬أفتح‭ ‬جهاز‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬وأواصل‭ ‬الكتابة‭ ‬لمدة‭ ‬خمس‭ ‬ساعات‭ ‬يومياً‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الأسبوع،‭ ‬أؤدى‭ ‬ذلك‭ ‬بالطريقة‭ ‬نفسها‭ ‬التى‭ ‬أتخيّل‭ ‬فيها‭ ‬الرياضيين‭ ‬يركضون‭ ‬ويسبحون‭ ‬ويتزلّجون،‭ ‬غايتى‭ ‬هى‭ ‬كيفية‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬الكلمات‭ ‬التى‭ ‬تمنح‭ ‬ما‭ ‬أقصده ‭‬‮«‬اسماً‭ ‬ومحلّ‭ ‬إقامة‮»‬‭‬ كما‭ ‬يقول‭ ‬شكسبير‭. ‬
على‭ ‬حوائط‭ ‬الغرف‭ ‬صورُ‭ ‬الأعزاء‭ ‬على‭ ‬القلب‭ ‬وصور‭ ‬جبال‭ ‬الألب‭ ‬النمساوية‭ ‬وهناك‭ ‬تمثال‭ ‬نصفى‭ ‬للقط‭ ‬المصرى‭ ‬‮«‬باستيت‮»‬‭‬ وبعض‭ ‬الضروريات‭ ‬الأخرى‭. ‬أحمل‭ ‬دائماً‭ ‬أعمال‭ ‬جين‭ ‬أوستن‭ ‬وكافكا‭ ‬والأخوين‭ ‬جريم‭ ‬ومارسيل‭ ‬بروست‭ ‬وشكسبير‭ ‬وتشيخوف‭ ‬وهنرى‭ ‬جيمس‭ ‬ونسخة‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس‭. ‬أستلقى‭ ‬على‭ ‬سريرى‭ ‬وأتناول‭ ‬الأطعمة‭ ‬غير‭ ‬الصحية‭. ‬سيأتى‭ ‬أطفالى‭ ‬من‭ ‬هارليم‭ ‬لتناول‭ ‬العشاء‭ ‬يوم‭ ‬الأحد،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬لدى‭ ‬حواراً‭ ‬لا‭ ‬ينقطع‭ ‬منذ‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬مع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬القدامى‭.‬
ولكن‭ ‬ينبغى‭ ‬ألا‭ ‬نخدع‭ ‬أنفسنا‭. ‬فالقول‭ ‬المأثور‭ ‬الشائع‭ ‬صحيح‭: ‬التقدم‭ ‬فى‭ ‬السن‭ ‬ليس‭ ‬للمخنثـين‭. ‬أجريتُ‭ ‬مؤخراً‭ ‬جراحة‭ ‬قلب‭ ‬مفتوح‭ ‬أعقبها‭ ‬أسبوعان‭ ‬قبيحان‭ ‬داخل‭ ‬مصحة‭ ‬للنقاهة‭. ‬دخلت‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬العمليات،‭ ‬كنت‭ ‬مسكونة‭ ‬بالرعب‭. ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬هى‭ ‬الحيلة؛‭ ‬أننى‭ ‬استمتعت‭ ‬بالتخدير‭. ‬كنت‭ ‬مستلقية‭ ‬على‭ ‬ظهرى‭ ‬فى‭ ‬غرفة‭ ‬العمليات،‭ ‬غِبت‭ ‬عن‭ ‬الوعى‭ ‬تماماً‭ ‬محاصرةً‭ ‬بعتمة‭ ‬سوداء،‭ ‬أسود‭ ‬مما‭ ‬كنت‭ ‬أتخيل‭. ‬بعدها‭ ‬مرّت‭ ‬بى‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬النشوة،‭ ‬ربما‭ ‬لو‭ ‬كنتُ‭ ‬أكثر‭ ‬شجاعة‭ ‬لجرّبتُ‭ ‬تناول‭ ‬عقار‭ ‬الـ‭ ‬LSD‭ ‬شعرتُ‭ ‬أننى‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬نفسى‭ ‬بينما‭ ‬أنا‭ ‬مستلقية‭ ‬على‭ ‬ظهرى‭ ‬فى‭ ‬غرفة‭ ‬غريبة‭ ‬عني‭ .‬كنت‭ ‬سعيدة‭. ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬مثيرة‭ ‬للاهتمام‭.‬
أنا‭ ‬عضوة‭ ‬فى‭ ‬مجموعة‭ ‬قراءة‭. ‬نقرأ‭ ‬الآن‭ ‬الأنساب‭ ‬المختارة‭ ‬لـجوته‭. ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬اطلعت‭ ‬على‭ ‬الأدب‭ ‬الألمانى‭ ‬فى‭ ‬المدرسة‭ ‬لكنى‭ ‬أعاود‭ ‬قرائته‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭. ‬أحبّ‭ ‬إعادة‭ ‬قراءة‭ ‬القديم‭ ‬لكن‭ ‬بعض‭ ‬أعضاء‭ ‬المجموعة‭ ‬يميلون‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬الأدب‭ ‬المعاصر‭. ‬نحن‭ ‬ثمانية‭ ‬أعضاء‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬يمكننى‭ ‬الآن‭ ‬القراءة‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬جهاز‭ ‬كيندل،‭ ‬لذلك‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬كتب‭ ‬متاحة‭ ‬بصيغة‭ ‬إلكترونية‭. ‬ثمة‭ ‬كـتب‭ ‬متاحة‭ ‬بصيغة‭ ‬إلكترونية،‭ ‬لكن‭ ‬كثيرًا‭ ‬منها‭ ‬غير‭ ‬متوفر‭. ‬دائماً‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬عملية‭ ‬اختيار‭ ‬الكتاب‭ ‬مسألة‭ ‬شاقة‮ (‬‭. ‬انتهى‭ ‬الاقتباس)‭. ‬
>>>
تعمدت‭ ‬انتقاء‭ ‬الفقرات‭ ‬السابقة‭ ‬للوقوف‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬الكاتبة‭ ‬الكلية‭ ‬للعالم‭ ‬،‭‬والتى‭ ‬لولاها‭ ‬لصارت‭ ‬سيجال‭ ‬كاتبة‭ ‬بارعة‭ ‬متميزّة،‭ ‬لكن ‬‮«‬منها‭ ‬الكثير‭ ‬فى‭ ‬دنيا‭ ‬الأدب‮‬‭.« ‬وعندى‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬اخترتُ‭ ‬تعليقان؛‭ ‬الأول‭ ‬متصل‭ ‬بكلام‭ ‬سيجال‭ ‬عن‭ ‬الذاكرة‭ ‬والخيال‭ ‬وعلاقتهما‭ ‬بالواقع‭.‬ قبل‭ ‬واحد‭ ‬وعشرين‭ ‬سنة‭ ‬فى‭ ‬أثناء‭ ‬تمهيدى‭ ‬الماجيستير‭ ‬سألَــنا‭ ‬المرحوم‭ ‬د‭ .‬مصطفى‭ ‬ماهر‭: ‬لماذا‭ ‬اتخذ‭ ‬جوتـه‭‬‮ «‬شعر‭ ‬وحقيقة»‬‭ ‬عنواناً‭ ‬لسيرته‭ ‬الذاتية؟‭ ‬لذنا‭ ‬جميعاً‭ ‬بالصمت‭ ‬فقال‭: ‬ابقوا‭ ‬قابلونى‭ ‬لو‭ ‬عرفتوا‭. ‬ثم‭ ‬أوضح‭: ‬لم‭ ‬يقصد‭ ‬جوته‭ ‬من‭ ‬العنوان‭ ‬أنه‭ ‬دسّ‭ ‬فى‭ ‬حياته‭ ‬عناصر‭ ‬مُنتحلة‭ ‬أو‭ ‬مـختلقة‭ ‬استناداً‭ ‬إلى‭ ‬كلمة‭ ‬شعر،‭ ‬وإنما‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يستكشف‭ ‬حقيقة‭ ‬حياته‭ ‬وأن‭ ‬يصفها‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أمامه‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬لإيجاد‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬إلا‭ ‬بأن‭ ‬يمنح‭ ‬الحقائق‭ ‬المتفرقة‭ ‬أو‭ ‬الواقع‭ ‬بتعبير‭ ‬سيجال‭ ‬شكلاً‭ ‬شعرياً‭ ‬أى‭ ‬شكلاً‭ ‬رمزياً‭ ‬متخيلاً،‭ ‬وكأن‭ ‬الشعر‭ ‬هنا‭ - ‬ وهو‭ ‬قرين‭ ‬الخيال‭- ‬سنارة‭ ‬يصيد‭ ‬بـها‭ ‬الكاتبُ‭ ‬سمكة‭ ‬الصدق‭ ‬بطُــعمٍ‭ ‬من‭ ‬الكذب‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬هاملت‭. ‬وأما‭ ‬الثانية‭ ‬وهى‭ ‬الأهم‭ ‬فى‭ ‬تقديرى‭ ‬فمتصلة‭ ‬بفكرة‭ ‬الشجاعة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوجود،‭ ‬أعنى‭ ‬شجاعة‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬العظيمة‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬الحياة‭.‬
فى‭ ‬عمله‭ ‬المترجم‭ ‬حديثاً‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬الكتب‭ ‬فى‭ ‬حياتى‭ ‬يقول‭ ‬الكاتب‭ ‬البريطانى‭ ‬المـُسلىّ‭ ‬كولن‭ ‬ويلسون ‭: ‬‮‬ «لقد‭ ‬بدا‭ ‬لى‭ ‬أن‭ ‬الحقيقة‭ ‬يُـرمز‭ ‬إليها‭ ‬فى‭ ‬ذيل‭ ‬الثعبان،‭ ‬للثعبان‭ ‬قوة‭ ‬هائلة‭ ‬على‭ ‬الضغط‭ ‬ولكن‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يستخدم‭ ‬قوّته‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ذيله‭ ‬ملفوفاً‭ ‬حول‭ ‬شيء‭ ‬صلب‭ ‬كجذع‭ ‬شجرة،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مرساته‭ ‬ثابتة‭ ‬مثل‭ ‬مرساة‭ ‬سفينة،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬استخدام‭ ‬قواه‭ ‬الحقيقية‮»‬‭.‬
بعبارة‭ ‬موجزة‭: ‬الشجاعة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوجود‭ ‬عنوان‭ ‬حياتها‭. ‬والتعبير‭ ‬السابق‭ ‬اقتبستُه‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬قصير‭ ‬بالاسم‭ ‬نفسه‭ ‬للفيلسوف‭ ‬واللاهوتى‭ ‬الوجودى‭ ‬الألمانى‭ ‬الكبير‭ ‬باول‭ ‬تيليش‭ )‬للكتاب‭ ‬ترجمة‭ ‬عربية‭ ‬ممتازة‭ ‬أنجزها‭ ‬الأستاذ‭ ‬كامل‭ ‬يوسف‭ ‬حسين)‭ ‬،‭ ‬شجاعة‭ ‬المرأة‭ ‬هنا‭ ‬هى‭ ‬تأكيد‭ ‬وجودها‭ ‬برغم‭ ‬ألوان‭ ‬الدمار‭ ‬والإحباط‭ ‬المحيطة‭ ‬بها،‭ ‬الإحباط‭ ‬الذى‭ ‬هو‭ ‬جزء‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬خبر‭ ‬الحياة‭ ‬اليومي‭.‬
أظن‭ ‬أن‭ ‬سيجال‭ ‬وجدَت‭ ‬الشجرة‭/‬المرفأ‭ ‬بحسب‭ ‬تعبير‭ ‬كولن‭ ‬ويلسون‭ ‬الذى‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تثبّت‭ ‬حوله‭ ‬مركز‭ ‬ثقلها‭ ‬وتستخدمه‭ ‬لشحذ‭ ‬بطارية‭ ‬الشجاعة‭ ‬لمواجهة‭ ‬الدنيا‭. ‬هى‭ ‬مفردة‭ ‬اسمها‭: ‬نعم‭ ‬أو‭ ‬القَبول‭.‬‮‬ «نعم‭ ‬وقلت‭ ‬نعم‭ ‬سأرضى‭ ‬نعم‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬اختتمَ‭ ‬جيمس‭ ‬جويس‭ ‬رواية‭ ‬يوليسيس‭ ‬بتأويل‭ ‬مفرط‭ ‬من‭ ‬عندى‭ ‬لقصد‭ ‬موللى‭ ‬بلوم‭. ‬
‏‭ ‬لور‭ ‬سيجال‭ ‬اكتشاف‭ ‬مثير‭ ‬للاهتمام،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الأدبى‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المنظور‭ ‬الذى‭ ‬ينبغى‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬الفنانُ‭ ‬أو‭ ‬الإنسان‭ ‬عموماً‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬الحياة‭. ‬فالمرأة‭ ‬الجميلة‭ ‬القوية‭ ‬المفعمة‭ ‬بروح‭ ‬الدعابة،‭ ‬البعيدة‭ ‬عن‭ ‬الاصطناع‭ ‬والتمثيل‭ ‬تقول‭ ‬وهى‭ ‬على‭ ‬أعتاب‭ ‬المئة‭ ‬إنها‭ ‬ستواصل‭ ‬الكتابة‭ ‬وستواصل‭ ‬الحياة،‭ ‬ستواصل‭ ‬الضحك‭ ‬وإلقاء‭ ‬النكات،‭ ‬لا‭ ‬بديل‭ ‬أمامها،‭ ‬الكوميديا‭ ‬​​والتراجيديا‭ ‬ضيفان‭ ‬متآمران‭ ‬على‭ ‬حياتـها‭ ‬اليومية،‭ ‬ضيفان‭ ‬مقيمان‭ ‬فى‭ ‬عقر‭ ‬دارها‭ ‬ولا‭ ‬بديل‭ ‬عن‭ ‬استقبال‭ ‬الضيفين‭ ‬كليهما‭ ‬بالقدر‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬القبول‭ ‬والترحيب‭. ‬
مثل‭ ‬سيجال‭ ‬عندى‭ ‬كمثل‭ ‬كلاريس‭ ‬ليسبكتور‭ ‬فى‭ ‬أدبها‭ ‬وحياتها‭. ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬ليسبكتور‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬حتى‭ ‬الرمق‭ ‬الأخير،‭ ‬فى‭ ‬اللحظات‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬السرطان‭ ‬ينهش‭ ‬فيها‭ ‬جسدها‭ ‬الرقيق‭ ‬واصلت‭ ‬تأليف‭ ‬روايتها‭ ‬الأخيرة‭ ‬ساعة‭ ‬النجمة،‭ ‬وهى‭ ‬الرواية‭ ‬التى‭ ‬استهلّتها‭ ‬بعبارة‭‬‮«‬‭ : ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فى‭ ‬العالم‭ ‬يبدأ‭ ‬بكلمة‭ ‬نعم‮»‬،‭ ‬كلا‭ ‬المرأتان‭ ‬العظيمتان‭ ‬–‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليَّ‭- ‬تجسيد‭ ‬حى‭ ‬لما‭ ‬يُطلق‭ ‬عليه‭ ‬La Femme Inspiratrice،‭ ‬الأنثى‭ ‬الملهِمة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تكتمل‭ ‬حياة‭ ‬مُبدع‭ ‬من‭ ‬دونها؛‭ ‬سلوى‭ ‬المجهولة‭ ‬عند‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬بدوي،‭ ‬ريجينا‭ ‬عند‭ ‬كيركجارد،‭ ‬تونى‭ ‬فولف‭ ‬عند‭ ‬يونج،‭ ‬ونظام‭ ‬الأصفهانى‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭.‬‮‬ «أيتها‭ ‬الأنثى‭ ‬الملهِمة‭ ‬أرينى‭ ‬الطريق» . ‬قالها‭ ‬فاوست‭ ‬وهو‭ ‬يتوب‭.‬
لم‭ ‬يتغير‭ ‬روتين‭ ‬سيجال‭ ‬فى‭ ‬سن‭ ‬الثالثة‭ ‬والتسعين،‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬إلا‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬شيئاً‭ ‬آخر‭ ‬تفعله،‭ ‬وهى‭ ‬عبارة‭ ‬كلاريس‭ ‬ليسبكتور‭ ‬نفسها‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬ساعة‭ ‬النجمة‭. ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬بعد‭ ‬فنجان‭ ‬القهوة‭ ‬المعتبر‭ ‬تشق‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬مكتبها‭ ‬وتجلس‭ ‬وإلى‭ ‬جوارها‭ ‬تمثال‭ ‬نصفى‭ ‬لـلقط‭ ‬‮«‬باستيت‮»‬،‭ ‬المعبود‭ ‬المصرى‭ ‬القديم،‭ ‬إله‭ ‬الخصوبة‭ ‬والحنان‭ ‬والحب‭. ‬لم‭ ‬تنس‭ ‬سيجال‭ ‬الضحك‭ ‬برغم‭ ‬ما‭ ‬ذاقته‭ ‬من‭ ‬ويلات‭ ‬الحرب‭ ‬والتهجـير‭ ‬والانفصال‭ ‬عن‭ ‬أمها‭ ‬ووفاة‭ ‬زوجها‭ ‬فى‭ ‬سن‭ ‬مبكرة‭ ‬ومتاعب‭ ‬صحية‭ ‬جـَمـّة‭ ‬كما‭ ‬قرأنا،‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬مواجهة‭ ‬مشكلات‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭.‬
‏‭ ‬ثمة‭ ‬عبارة‭ ‬أسرت‭ ‬انتباهى‭ ‬فى‭ ‬إحدى‭ ‬النصوص‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬فما‭ ‬يزال‭ ‬لدى‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الفضول‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬الاحتفال‭ ‬والضحك»‮ ‬‭.‬ربما‭ ‬أستطيع‭ ‬الآن‭ ‬تفهم‭ ‬سبب‭ ‬سخرية‭ ‬بيتر‭ ‬هاندكه‭ ‬اللاذعة‭ ‬فى‭ ‬حوار‭ ‬قديم‭ ‬من‭ ‬الكاتبات‭ ‬أشباه‭ ‬المثقفات،‭ ‬الطافحات‭ ‬بروح‭ ‬الكآبة‭ ‬والسوداية‭ ‬والادعاء،‭ ‬اللواتى‭ ‬لا‭ ‬يتوقفن‭ ‬عن‭ ‬الثرثرة‭ ‬و‭ ‬الـــbla‭..‬bla bla‭..‬‭ ‬والجأر‭ ‬بالشكوى‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬وأى‭ ‬شيء‭ ‬وهــنّ‭ ‬لا‭ ‬يحسنَّ‭ ‬أداء‭ ‬أى‭ ‬شيء‭. ‬
نقرأ‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬ذئب‭ ‬الأحراش‭ ‬لهيرمان‭ ‬هسّه‭ ‬العبارة‭ ‬التالية‭:‬‮‬ «أدركتُ‭ ‬أن‭ ‬المئة‭ ‬ألف‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬لعبة‭ ‬الحياة‭ ‬موجودة‭ ‬فى‭ ‬جيبي،‭ ‬وصمّمت‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أباشر‭ ‬اللعبة‭ ‬من‭ ‬بدايتها،‭ ‬سوف‭ ‬أختبر‭ ‬عذاباتـها‭ ‬مرة‭ ‬ثانية،‭ ‬وأرتعش‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬لعبثها‭. ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬سيتحسن‭ ‬أدائى‭ ‬فى‭ ‬اللعبة،‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬سأتعلّم‭ ‬الضحك‮»‬‭‬.

معرض‭ ‬فرانكفورت‭ ‬للكتاب‭ ‬2021‭:‬ دورة‭ ‬أهدأ  ‬أبهجت‭ ‬كثيرين‭!‬
إد‭ ‬ناوتكا

رغم‭ ‬أنّ‭ ‬دورة‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬كانت‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬عن‭ ‬اعتبارها‭ ‬دورة‭ ‬عاديّة‭

‬إلا‭ ‬أنّ‭ ‬الذين‭ ‬حضروا‭ ‬عبّروا‭ ‬عن‭ ‬فرحتهم‭ ‬بإعادة‭ ‬الاتّصال‭ ‬مع‭ ‬ناشرين‭ ‬ووكلاء‭ ‬آخرين

بعد‭ ‬انقطاع‭ ‬لمدّة‭ ‬عام‭ ‬نتيجة‭ ‬وباء‭ ‬الفيروس‭ ‬التاجي،‭ ‬عاد‭ ‬معرض‭ ‬فرانكفورت‭ ‬للكتاب‭ ‬للانعقاد‭ ‬فى‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬20‭ ‬إلى‭ ‬22‭ ‬أكتوبر‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬حدث‭ ‬هجين؛‭ ‬حيثُ‭ ‬ضمّ‭ ‬خليطًا‭ ‬من‭ ‬الفعاليات‭ ‬عن‭ ‬بُعد‭ ‬والعروض‭ ‬المُباشرة‭ ‬وصالات‭ ‬المعارض‭ ‬ومركزًا‭ ‬للوكلاء‭ . ‬لكن‭ ‬عدد‭ ‬المُشاركين‭ ‬مِمَن‭ ‬حضروا‭ ‬المعرض‭ ‬بأنفسهم‭ ‬تقلّص‭ ‬بشكلٍ‭ ‬ملحوظ‭ ‬عن‭ ‬الأعوام‭ ‬السّابقة؛‭ ‬إذْ‭ ‬اقتصرت‭ ‬الطاقة‭ ‬الاستيعابيّة‭ ‬على‭ ‬استقبال‭ ‬خمسة‭ ‬وعشرين‭ ‬ألفًا‭ ‬يوميًّا‭ ‬بما‭ ‬يتلاءم‭ ‬مع‭ ‬التباعد‭ ‬الاجتماعي‭. ‬وإجمالًا،‭ ‬حضر‭ ‬هذه‭ ‬الدورة‭ ‬ستة‭ ‬وثلاثون‭ ‬ألف‭ ‬وكيل‭ ‬تجارى‭ ‬من‭ ‬مائة‭ ‬وخمس‭ ‬دولة،‭ ‬وأزيد‭ ‬من‭ ‬سبعة‭ ‬وثلاثين‭ ‬ألفًا‭ ‬وخمسمائة‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬خمس‭ ‬وثمانين‭ ‬دولة،‭ ‬وشاركت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ألفين‭ ‬وثلاث‭ ‬عشرة‭ ‬شركة‭ ‬من‭ ‬ثمانين‭ ‬دولة‭ ‬باعتبارها‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬مركز ‭‬‮«‬الأدب‭ ‬والوكلاء»؛‭ ‬حيثُ‭ ‬استأجرت‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬إمّا‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬محطات‭ ‬عمل‭ ‬المعرض‭ ‬الجديدة،‭ ‬أو‭ ‬مقصورة‭. ‬وإذا‭ ‬شئنا‭ ‬أن‭ ‬نُقارن،‭ ‬فقد‭ ‬اجتذب‭ ‬معرض‭ ‬العام‭ ‬2019‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬ألف‭ ‬زائر،‭ ‬وسبعة‭ ‬آلاف‭ ‬وخمسمائة‭ ‬عارض‭.‬

وفضّل‭ ‬أغلب‭ ‬كُبرى‭ ‬دور‭ ‬النشر؛‭ ‬لا‭ ‬سيّما‭ ‬بالولايات‭ ‬المُتحدة‭ ‬والمملكة‭ ‬المُتحدة،‭ ‬عدم‭ ‬الحضور‭ ‬فأفسحوا‭ ‬بذلك‭ ‬مجالًا‭ ‬لدور‭ ‬النشر‭ ‬الصغيرة‭ ‬والمتوسطة‭ ‬كى‭ ‬يحظوا‭ ‬بفرصة‭ ‬أكبر‭ ‬للظهور‭ ‬والتفاعل‭ ‬مع‭ ‬حيز‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬من‭ ‬شركاء‭ ‬العمل‭ ‬المُحتملين‭.    ‬

وقد‭ ‬أجملت ‭ ‬‮«جورجينا‭ ‬سيجارا»؛‭ ‬صاحبة‭ ‬دار ‭ ‬‮«مطبوعات‭ ‬جيمسر‮»‬‭ ‬Gemser Publications‭ ‬وهى‭ ‬دار‭ ‬مُتخصصة‭ ‬فى‭ ‬طباعة‭ ‬كُتب‭ ‬الأطفال‭

‬والتغليف‭ ‬مقرّها‭ ‬برشلونة،‭ ‬نزلت‭ ‬فى‭ ‬أحد‭ ‬أجنحة‭ ‬صالة‭ ‬رقم‭ ‬4‭.‬1،‭ ‬ما‭ ‬قال‭ ‬أغلب‭ ‬الناشرين‭ ‬الذين‭ ‬شملهم‭ ‬التقرير‭ ‬أنّهم‭ ‬أحسّوا‭ ‬به‭ ‬حيال‭ ‬المعرض‭ ‬عندما‭ ‬قالت: ‬‮«‬ساورنا‭ ‬قلقٌ‭ ‬فى‭ ‬البداية،‭ ‬لكن‭ ‬لكم‭ ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬رائعة‭ ‬هذا‭ ‬العام‭. ‬بلى،‭ ‬كانت‭ ‬الصالات‭ ‬خاوية‭ ‬إذا‭ ‬قارنّاها‭ ‬بالمعارض‭ ‬الأخرى،‭ ‬لكنّا‭ ‬كُنّا‭ ‬نشهد‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬زائرين‭ ‬يُقبلون‭ ‬عبر‭ ‬الممرات‭. ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬فى‭ ‬السّابق‭ ‬أن‭ ‬نُحدد‭ ‬مُسبقًا‭ ‬مواعيد‭ ‬كثيرة،‭ ‬أمّا‭ ‬هذه‭ ‬المرّة‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬علينا‭ ‬إجراء‭ ‬إلا‭ ‬القليل‭ ‬منها؛‭ ‬لذلك‭ ‬تمكّنا‭ ‬من‭ ‬لقاء‭ ‬الروّاد‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ترتيب‭ ‬مسبق‭ ‬وأن‭ ‬نحظى‭ ‬بحوارات‭ ‬أطول‭. ‬ولشد‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬جاءوا‭ ‬متعطشين‭ ‬للعمل،‭ ‬ونظن‭ ‬أنّ‭ ‬مجيئنا‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬سيسفر‭ ‬عنه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الإصدارات‭. ‬وعمومًا،‭ ‬تغمرنا‭ ‬سعادة‭ ‬كبيرة‭.‬‮»‬‭‬
أمّا ‭‬‮‬«مايكل‭ ‬ز‭. ‬ وايز»؛‭ ‬وهو‭ ‬مؤسس‭ ‬مُشارك‭ ‬لدار ‭‬‮«‬نيوفيسل‭ ‬برس‮»‬‭ ‬المُتخصصة‭ ‬فى‭ ‬ترجمة‭ ‬الأدب‭ ‬مقرّها‭ ‬مدينة‭ ‬نيويورك،‭ ‬وواحد‭ ‬ممن‭ ‬حضروا‭ ‬المعرض،‭ ‬فيقول‭:‬‮‬ «أفادت‭ ‬دار‭‬‮ «‬نيوفيسل‭ ‬برس‮»‬‭‬ من‭ ‬كونى‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬حفنة‭ ‬أمريكيين‭ ‬حضروا‭ ‬معرض‭ ‬فرانكفورت‭ ‬للكتاب‭ ‬هذا‭ ‬العام؛‭ ‬حيثُ‭ ‬حظيت‭ ‬باستقبال‭ ‬دافئ‭. ‬بلى،‭ ‬المعرض‭ ‬أهدأ‭ ‬من‭ ‬المعتاد‭ ‬بشكل‭ ‬ملحوظ‭ ‬رغم‭ ‬وجود‭ ‬خمسة‭ ‬وثلاثين‭ ‬لقاءً‭ ‬موزّعة‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام؛‭ ‬وكنت‭ ‬أحظى‭ ‬عادة‭ ‬بخمسين‭ ‬لقاءً،‭ ‬لكن‭ ‬الأجواء‭ ‬كانت‭ ‬مُثيرة‭ ‬بالقدر‭ ‬الكافي‭. ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬المجيء‭ ‬إلى‭ ‬فرانكفورت‭ ‬سنويًّا‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬2013،‭ ‬ودورة‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬غير‭ ‬مألوفة،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فلشد‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬التواجد‭ ‬هُنا‭ ‬مُثمرًا‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬لا‭ ‬يُصدّق‭.‬‮»‬

وكانت ‭‬‮«‬كيت‭ ‬ويلسون»؛‭ ‬وهى‭ ‬المدير‭ ‬العام‭ ‬لدار‭ ‬النشر‭ ‬الإنجليزيّة‭ ‬المُتخصصة‭ ‬فى‭ ‬كُتب‭ ‬الأطفال‭‬‮ «‬نوزى‭ ‬كرو‮»‬،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬عدد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬النّاشرين‭ ‬الذين‭ ‬جاءوا‭ ‬إلى‭ ‬المعرض‭ ‬من‭ ‬المملكة‭ ‬المُتحدة،‭ ‬وتصف‭ ‬تجربتها‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬قائلة‭: ‬‮‬ «رغم‭ ‬أنّ‭ ‬دورة‭ ‬2021‭ ‬من‭ ‬معرض‭ ‬فرانكفورت‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬بنفس‭ ‬حيوية‭ ‬وازدحام‭ ‬دورة‭ ‬2019‭ ‬وما‭ ‬سبقها،‭ ‬إلا‭ ‬أننا‭ ‬سُعداء‭ ‬بتواجدنا‭ ‬هُنا،‭ ‬وانخراطنا‭ ‬ثقافيًّا‭ ‬وتُجاريًّا‭ ‬مع‭ ‬دور‭ ‬نشر‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أرجاء‭ ‬العالم‭. ‬وقد‭ ‬ملأنا‭ ‬يومين‭ ‬كاملين‭ ‬بالمواعيد‭ ‬وتعارفنا‭ ‬مع‭ ‬عشرين‭ ‬شخصًا‭ ‬جديدًا‭ ‬بين‭ ‬روّاد‭ ‬كيفما‭ ‬اتّفق‭ ‬ووكلاء‭.‬‮»‬

ورغم‭ ‬أنّ‭ ‬دورة‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬كانت‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬عن‭ ‬اعتبارها‭ ‬دورة‭ ‬عاديّة،‭ ‬إلا‭ ‬أنّ‭ ‬الذين‭ ‬حضروا‭ ‬عبّروا‭ ‬عن‭ ‬فرحتهم‭ ‬بإعادة‭ ‬الاتّصال‭ ‬مع‭ ‬ناشرين‭ ‬ووكلاء‭ ‬آخرين؛‭ ‬وعن‭ ‬ذلك‭ ‬يقول ‭‬‮«‬يورجن‭ ‬بوس‮» ‬‭‬مُدير‭ ‬المعرض‭: ‬‮«‬أظنُّ‭ ‬أنّنا؛‭ ‬قبل‭ ‬العام‭ ‬2020‭ ‬وهذا‭ ‬العام،‭ ‬كُنّا‭ ‬نعتبر‭ ‬انعقاد‭ ‬معرض‭ ‬فرانكفورت‭ ‬للكتاب‭ ‬أمرًا‭ ‬واقعًا‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬النقاش‭. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬أصبح‭ ‬رسالة‭ ‬تذكّرنا‭ ‬بمدى‭ ‬قيمة‭ ‬أن‭ ‬نلتقى‭ ‬وجهًا‭ ‬لوجه،‭ ‬وقدر‭ ‬أهمية‭ ‬تلك‭ ‬اللقاءات‭ ‬العابرة‭ ‬والنقاشات‭ ‬العرضية‭ ‬بالنسبة‭ ‬لصناعتنا‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭.‬‮»‬

وقد‭ ‬شدد‭ ‬‮«‬بوس‮»‬‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬أحد‭ ‬الدروس‭ ‬المستفادة‭ ‬خلال‭ ‬العامين‭ ‬الاثنين‭ ‬الماضيين‭ ‬هو‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬الجودة‭ ‬لا‭ ‬الكميّة،‭ ‬وأضاف‭: ‬‮«‬نُحقق‭ ‬تلك‭ ‬الفكرة‭ ‬هُنا‭ ‬فى‭ ‬المعرض‭ ‬وخلال‭ ‬فعالياتنا‭ ‬التى‭ ‬نعقدها‭ ‬عن‭ ‬بُعد‭.‬‮»‬‭ ‬كما‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬حضور‭ ‬المقاصير‭ ‬الجماعية‭ ‬من‭ ‬أزيد‭ ‬من‭ ‬ثمانين‭ ‬دولة‭ ‬شاركت‭ ‬هذا‭ ‬العام،‭ ‬واصفًا‭ ‬إياه‭ ‬بـ‭: ‬‮«‬النموذج‭ ‬الفعّال‭ ‬بالنسبة‭ ‬لدور‭ ‬نشر‭ ‬كثيرة‮»‬،‭ ‬وألمح‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬تجميع‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬التى‭ ‬تجيء‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬الدولة؛‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لكل‭ ‬منها‭ ‬مقصورة‭ ‬منفردة،‭ ‬يُفضى‭ ‬إلى‭ ‬تعاملات‭ ‬تجارية‭ ‬أكثر‭ ‬تلقائيّة‭.    ‬
وفى‭ ‬القلب‭ ‬من‭ ‬معرض‭ ‬الكتاب،‭ ‬يبرز‭ ‬‮«‬مركز‭ ‬الحقوق‭ ‬ووكلاء‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبيّة‮»‬‭ ‬الذى‭ ‬امتلأ‭ ‬بربع‭ ‬طاقته‭ ‬الاستيعابيّة‭ ‬فقط،‭ ‬وعنه‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬بوس‮»‬‭ ‬إنّ‭ ‬المعرض‭ ‬يدرس‭ ‬طرائق‭ ‬إنعاش‭ ‬المركز‭ ‬الذى‭ ‬خسر‭ ‬عملاء‭ ‬عديدين،‭ ‬تأقلم‭ ‬أغلبهم‭ ‬مع‭ ‬استعمال‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬عن‭ ‬بُعد‭ ‬لإبرام‭ ‬الصفقات،‭ ‬ونبّه‭ ‬إلى‭ ‬أنّهم‭:‬‮‬ «يدرسون‭ ‬السماح‭ ‬لدور‭ ‬النشر‭ ‬بحجز‭ ‬طاولات‭ ‬فى‭ ‬المركز‭ ‬من‭ ‬الآن‭ ‬فصاعدًا،‭ ‬وهو‭ ‬أمرٌ‭ ‬لطالما‭ ‬رغبوا‭ ‬به‭.‬‮»‬‭‬
هذه‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬طرائق‭ ‬عديدة‭ ‬قال ‭‬‮«‬بوس‮»‬‭‬ أنّ‭ ‬المعرض‭ ‬ربّما‭ ‬يتطوّر‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬فى‭ ‬الأعوام‭ ‬القادمة؛‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬تجميع‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬الدوليّة‭ ‬داخل‭ ‬أجنحة‭ ‬جماعية،‭ ‬وإتاحة‭ ‬أفضل‭ ‬الخيارات‭ ‬لدور‭ ‬النشر‭- ‬التى‭ ‬قد‭ ‬تضم‭ ‬مقصورة‭ ‬أو‭ ‬استئجار‭ ‬محطة‭ ‬عمل‭ ‬أو‭ ‬حجز‭ ‬طاولة‭ ‬داخل‭ ‬‮«‬مركز‭ ‬الحقوق‭ ‬ووكلاء‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبيّة‮»‬‭.‬
ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬يقول‭‬‮ «‬بوس‮»‬‭‬ أنّ‭ ‬ناشرى‭ ‬الكُتب‭ ‬الألمانية‭ ‬يتطلعون‭ ‬إلى‭ ‬توسيع‭ ‬مقاصيرهم‭ ‬ودمجها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استضافة‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬فعاليات‭ ‬الكُتّاب،‭ ‬وأضاف‭ ‬أنّه‭ ‬مع‭ ‬الحدّ‭ ‬من‭ ‬جولات‭ ‬المؤلفين‭ ‬والمناسبات‭ ‬العامة‭ ‬بسبب‭ ‬الفيروس‭ ‬التّاجي: ‭‬‮«‬يرى‭ ‬الناشرون‭ ‬الألمان‭ ‬أنّ‭ ‬المعرض‭ ‬فرصة‭ ‬لمزيد‭ ‬من‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬العملاء‭.‬‮»‬
وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬بضعة‭ ‬برامج‭ ‬اُستحدثت‭ ‬خلال‭ ‬العامين‭ ‬2019‭ ‬و2020،‭ ‬برامج‭ ‬محوريّة‭ ‬فى‭ ‬فعاليات‭ ‬معرض‭ ‬فرانكفورت‭ ‬للكتاب،‭ ‬ومنها‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الكُتب‭ ‬الصوتيّة‭- ‬أو‭ ‬‮«‬المحور‭ ‬الرائج‭ ‬بالمعرض‮»‬‭‬ بحسب‭ ‬وصف ‭ ‬‮«‬بوس‮». ‬‭‬وسيحتفظ‭ ‬المعرض‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك‭ ‬بمنصاته‭ ‬الرقمية‭ ‬التى‭ ‬تشمل‭ ‬بثّ‭ ‬الفعاليات‭ ‬عن‭ ‬بُعد‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬المُحترف‭ ‬الخاص‭ ‬المُقام‭ ‬فى‭ ‬ساحة‭ ‬‮«‬فيستهول‮»‬،‭ ‬ومنصّة‭ ‬فرانكفورت‭ ‬الرقميّة‭ ‬للحقوق‭.    ‬
يقول ‭‬‮«‬بوس‮»‬‭‬: «أنّ‭: ‬‮التفاعل‭ ‬مع‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعى‭ ‬أصبح‭ ‬أمرًا‭ ‬مُعتادًا‮»‬،‭ ‬وأشار‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬ما‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬المعرض‭ ‬أصبح‭ ‬ساحة‭ ‬مفعمة‭ ‬بالحياة‭ ‬تُثرى‭ ‬النقاشات‭ ‬الثقافية‭ ‬والسياسيّة‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭.

 


أمّا‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمعرض‭ ‬نفسه‭ ‬فقد‭ ‬أوضح‭ ‬‮«‬بوس‮»‬‭ ‬أنّ‭ ‬تلك‭ ‬الدورة‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬هادئة‮»‬‭ ‬فى‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر،‭ ‬لكن‭: ‬‮«‬الأمور‭ ‬انتعشت‭ ‬حقًّا‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬عاود‭ ‬مشهد‭ ‬الاحتفال‭ ‬فى‭ ‬‮«‬فرانكفورتر‭ ‬هوف»؛‭ ‬وهو‭ ‬الفندق‭ ‬الذى‭ ‬يحتشد‭ ‬فى‭ ‬أروقته‭ ‬الناشرون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الشرب‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬الظهور‭. ‬وعن‭ ‬ذلك‭ ‬يقول‭‬‮«‬بوس‮«‬‭ :‬‮»‬عجزت‭ ‬عن‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬طاولتى‭ ‬المُعتادة‭ ‬فى‭ ‬مطعم‭ ‬الفندق‭.‬‮»‬‭‬
وردًّا‭ ‬على‭ ‬سؤالى‭ ‬حول‭ ‬أبرز‭ ‬أحداث‭ ‬الأسبوع،‭ ‬أجاب ‭‬‮«‬بوس‮»‬‭‬ أنّ‭ ‬المعرض‭ ‬أتاح‭ ‬الفرصة‭ ‬للتواصل‭ ‬مع‭ ‬الناشرين‭ ‬الشباب‭ ‬المُشاركين‭ ‬فى‭ ‬برنامج‭ ‬زمالة‭ ‬معرض‭ ‬فرانكفورت‭ ‬للكتاب،‭ ‬وتابع‭: ‬‮‬ «لم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬سهلًا،‭ ‬على‭ ‬أنّنا‭ ‬استقدمنا‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الناشرين‭ ‬من‭ ‬أفريقيا‭- ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬موزمبيق‭ ‬والكاميرون‭

‬ورواندا‭- ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬ناشرين‭ ‬آخرين‭ ‬من‭ ‬نيبال‭ ‬وكازاخستان‭. ‬ولكم‭ ‬اعترتنى‭ ‬الدهشة‭ ‬أمام‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬من‭ ‬الاحترافية‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أولئك‭ ‬الشباب‭ ‬بالفعل؛‭ ‬فكلّهم‭ ‬كانوا‭ ‬يتقنون‭ ‬الإنجليزيّة‭ ‬وعلى‭ ‬دراية‭ ‬بما‭ ‬يجرى‭ ‬فى‭ ‬العالم‭. ‬ولشد‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أمرٌ‭ ‬مبشِّر‭ ‬بالخير‭ ‬أن‭ ‬نشهد‭ ‬بزوغ‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬النّاشرين‭.‬‮»‬

وكانت‭ ‬كندا‭ ‬الدّولة‭ ‬ضيف‭ ‬شرف‭ ‬المعرض‭ ‬هذا‭ ‬العام،‭ ‬وكان‭ ‬لها‭ ‬جناحان‭ ‬كبيران،‭ ‬أحدهما‭ ‬للكتب‭ ‬الفرنسيّة،‭ ‬والآخر‭ ‬للإنجليزيّة‭.‬

 كتب : ممدوح فرّاج النّابى 
رجعة أبى العلاء استعادة المعرى فى رحلة متخيّلة

أبو العلاء المعري(٣٦٣ هـ - ٤٤٩ هـ) (٩٧٣ -١٠٥٧ م) رجل عبقرى الذهن كما ردّد السابقون ويؤكّد اللاحقون وهذه صفة لا ينازعه فيها أحد من أقرانه من الشعراء فى عصره أو العصور اللاحقة عليه. 
وقد كان موضع بحث ودرس فى القديم والحديث فاعتنى بدرسه الدكتور طه حسين (١٨٨٩ - ١٩٧٣) إذْ خصّص له العديد من الدراسات والكتب التى تتبَّع فيها الشّاعر وشعره وأدبه وبالمثل فعل تلاميذ الدكتور على نحو ما فعلت الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) (١٩١٣ - ١٩٩٨) فتعقّبتِ الرجل ودرستْ فلسفته فى الحياة دراسة مميّزة فى أطروحتها التى قدمتها للحصول على الماجستير عام ١٩٤١ تحت إشراف أستاذها العميد بعنوان «الحياة الإنسانيّة عند أبى العلاء: لم خلقنا؟ وكيف نحيا؟ وإلى أين المصير؟»، ثمّ واصلت أبحاثها عنه فى الدكتوراه، فأوقفتها على «تحقيق وشرح رسالة الغفران».

استعادة المعرى

كما أَوْلاه الكاتب الكبير عبّاس محمود العقاد (١٨٨٩ - ١٩٦٤) عناية خاصّة فخصّه بالعديد من الدراسات التى تناولتْ آثارَه والموضوعات التى اهتمَّ بها فى شعره ونثره فتناول الخيال فى رسالة الغفران وتأمّل فى معنى الحياة لديه فى ضوء رسالة الغفران كما تطرّق لظواهر متعدّدة تجلّت فى كتاباته كالتشاؤم والسّخرية وكذلك عَرض لفلسفته (مذهب النشوء واشتراكيته والجبر عنده  وكَراهته للبشر ورأيه فى المرأة وغيرها من موضوعاتأبرزت فلسفته الحياتيّة إلى جانب هذا، قدّم مراجعات عن الكتب التى كُتبتْ عنه (أى المعري) وناقش أفكارَها وبيّن ضلالَها أيضًاوعلاوة هذا وذلك فإنه خصّه بكتاب منفرد سعى من خلاله إلى تمثُّله فى شخصيته 
ورأيه استنادًا إلى شعره ومواقفه.عنوان الكتاب «رَجْعَة أبى العلاء» وقد صدر فى عام ١٩٣٩، وأعيدت طباعته مرات محدودة، إلا أنه يكاد يكون مجهولاً بالنسبة للأجيال الحاليّة، والكتاب – فى المُجمل - بمثابة استعادة لشخصية المعرى عبر التخييل.

وقد سبق العقاد فى هذا الباب مصطفى لطفى المنفلوطي، إذْ بعثَ المعرى إلى الحياة الدنيا فى قصة بعنوان «البعث» ضمَّنها كتاب «النظرات»، وهى قصة خياليّة، غرضها تمثيل أبى العلاء المعرى من خلال أخلاقه وآرائه، وإن كان لم يكتب منها غير الأيّام الثلاثة التى حلّ فيها الشيخ ضيفًا عليه فى منزله. عمد المنفلوطى فى قصته إلى تذييل النّص بكلام أبى العلاء عند المناسبات، كتمييز بين الحقائق التاريخيّة والتصوُّرات الخياليّة، وكأنّه يضع حدًّا فاصلاً بين ما تصوّره وما هو حقيقى تاريخي، لكن الغالب على القصة هو التخييل منذ بعث المعرى بعد موته، وحكيه له عن تفاصيل الحساب وشفاعة الرسول له وجولته معه فى إحدى القرى.
يروى المنفلوطى فى القصة أنّه ذات ليلة ظلماء أرَّقَ مضجعه همٌّ نزل به فظل يُساهر الكوكب حتى سئما بعضهما بعضًا 
وبينما هو على هذه الحالة فإذا بطارق يدق الباب دقًا ضعيفًا ما كاد يتبيَّنه لولا هدوء الليل وسكونه وما إن فتح الباب فإذا برجلٍ رثّ الثياب ممسكًا بعصاه قد بلغ الثمانين أو زاد عنها محدودب الظهر قصير القامة أسمر اللون أبيض اللحيّة وسيع العينين، فأطرق الرجل وقال بصوت خفيف: «غريبٌ حائرٌ ضلّ به سبيله فى هذه الرقعة السّوداء، وأعوزه المأوى يطلب كريمًا يُعتمدُ عليه ومضجعًا يأوى إليه»، فسكت المنفلوطى هنيهة ثم رحب بالشيخ وقال: “لقد حللت بالمنزل أنتَ صاحبه وولى الأمرِ فيه”، ثمّ قدَّم المنفلوطى يده للشيخ كى يتوكّأ عليها ويتحامل مشيًّا إلى مضجعه.
ومن شدة فصاحة الشَّيْخ الغريب يُعجب به المنفلوطي، ويحلّ عليه ضيفًا لثلاثة أيّام، وبعد أنْ يستريح الضيف ويأخذ واجبه من الطَّعام والشَّراب، يلتقى الاثنان، فيسأله الشَّيْخ أولاً عن المكان الذى هبط إليه والسنة التى فيها، فيخبره المنفلوطى أنه هبط بالقاهرة المعزيّة، وأنه فى السنة التاسعة والعشرين بعد الثلثمائة والألف،ثم يحكى له الشّيخ / المعرى عن أحوال النَّاس عندما رأوه، بأن أوصدوا الباب أمامه، وانصرفوا عنه، وقد خاطبوه بلحن أعجمى لا يعرفه.
 
عندئذ يلفت المنفلوطى ضيفه أنه قد أعاد بذكائه عهد أبى العلاء فيستفسر منه عن كنهة هذا المدعو أبى العلاء ورأى الناس فيه 
وهل يُؤْثِر أنْ يكون فى عصره أو أنْ يكون فى عصرك؟ وما إن يُبدى المنفلوطى توقه لهذه الأمنية حتى يفصح الشيخ عن هويته ويقول له:  «قد بلغك الله طلبتك» فيدخل المنفلوطى فى حَيرة من أمره عندها يأخذ المعرى كل وسيلة لطمأنته فيسأله هل يؤمن بالبعث ويحكى له عمّا حدث معه من حساب عسير وكيف تشفّع له الرسول بعد أن كاد يدخل فى زمرة المفسدين الذين تنكّروا لإرادة الله وأغفلوا حكمته فى خلق النوع البشري.

فيُبْعث المعرى على غير الصُّورة التى كان عليها قبل رحيله؛ مُبْصرًا بعد شفاعة له الرسول الكريم قائلاً: «فاسألك بقلمك النّورانى الذى تمحو به فى لوحك ما تشاء وتثبت أن تقى جسمه الذى طهّره فى الحياة الدنيا بالزهد فى شهواتها ولذائذها 
والصّبر على آلامها وأهوالها من عذاب النّار وأن تجعل عذاب قلبه فداءً لعذاب جسمه، فعاقبه بإرجاعه إلى تلك الدار التى كانت جحيمه ومستقر عذابه وحسبه من العقاب أن يلقى فيها آخر ما لقى فيها أولا إنك بعبادك لطيف خبير» (النظرات: الأعمال الكاملة، دار الجيل، بيروت – لبنان، ص ٦٨٧)

وبعد أـن قَبِلَ الله شفاعة نبيه قضى أن يعود إلى الدَّار الأولى ليقضى فيها من الأيّام بعد ما قضى من السنين وبذلك يكون ما حكاه هو مُجمل اليوم الأوّل له فى هذه الدنيا وفى اليوم الثانى يبدأ الشيخ تنقيده لأوضاع الناس فى هذا الزمن متسلحًا بفلسفتة فى الحياة، التى مات عليها؛ فينتقد ما قُدِم له من دجاجات للطعام، ناكرًا على الإنسان قسوته على الحيوان ويتحدث بصوت الحيوان الذى أرهق الإنسان روحه من أجل لذة طعامه فيتمثّل صوت الدجاجات الذبيحات مستصرخًا “أنتَ لا تملك أن تعطينى الحياة فلا تملك أن تسلبنى إيّاها” 
وبعدها يتوجه إلى مضيفه لائمًا عاتبًا: “هيا صاحب الدجاجات! حدثنى عنك ألم يكن لك فى جميع ما تُنبت الأرض مِن بقلها، وقثائها، وفومها وعدسها، وبصلها منادح لإكرامى والقيام بحقي...؟! وبعد أن أخذه الإعياء والتعب فى الحديث يتوجه إليه بنى آدم جمعاء بأن يَدَعُوا ما خلق الله من حيوانات وبهائم وطير ترعى فى ملكوتها 
وأن يُجنِّبُوها فخاخهموأن يرحموها كى يرحموا أنفسهم وأن يعصموا دماءها كى يعصم الله دماءكم، فحسب قوله «أنتم إلى الرّحمة محتاجون وإلى الله راغبون».

وفى اليوم الثالث من مقامه يفارق غرفته ويتجه إلى الحديقة ويجلس فيها ينظر أزهارها ويبسم للعصافير التى تنتقل بين أنجمها وأشجارها ويصغى إلى سرّ الحديث بين حصبائها ومائها ثم يصبحه المنفلوطى فى رحلة إلى ضاحية البلد ليرفه عن نفسه من الحزن 
ويسره منظر الطبيعة بل يدفعه إلى الإفصاح عن جزء من فلسفته حول الحقيقة فهو يرى أن الناس جميعهم يطلبون الحقيقة وينشدونها فى صفحات التاريخ، والحقيقة غير ذلك، فهى موجودة لكن لا أحد يصل إليها – ومن ثمّ - فعلى الناس أن يلتمسوها «فى الأودية الفيحاء تحت القبة الزرقاء بين الظل والماء»  عندئذ يراها الإنسان عارية الجسم ويسمع صوتها واضح النبرات من غير تكلُّف أو خداع وبعدها يتطرُّق إلى المساواة بين البشر وتحقيق الاشتراكيّة عندما هلّ عليهما فلاح مع ابنيه يشكو عجزه عن إكرامهما، فيدخل معه المعرى فى حوار عمّن يملك الأرض، وماذا يأخذ نظير عمله وفلاحته، فتهزه قصة الفلاح الذى ماتت زوجته، وهو منسلخ عن حياته لإرضاء سيده، فيتأسّى لحال الفلاح المسكين من الظلم الذى وقع عليه وبعدها ترك مضيفه إلى مخدعه وهو يردد أبياتًا من الشعر يفضّل فيها صخرة على البشر، فيكفى أنها لا تظلم ولا تكذب.

هكذا أعاد / أو بعث المنفلوطى المعرى ليريه أن الإنسان ما زال فى جهالته وأن قسوته على غيره من الكائنات أكثر 
وأكثر بل وتتمادى من أجل تحقيق متعته الشخصيّة وأن فلسفته التى ظلّ طيلة حياته يأتنس بها لا وجود لها ولا أثر لها بين من يدّعون أنهم من أنصاره وشيعته وأن الظُّلم هو المهيمن 
ومستشرٍ بصور مختلفة، ومن ثمّ– كأنه يريد أن يقول – فإن حياته السّابقة –كرهين المحسبين - التى أختارها لهى الأصوب والحق فيكفى أنه ألزم نفسه بما لا يُلزم كى يحفظ سريرتها ولا يُسْقطها فى فخاخ الحياة من قسوةٍ وكَذبٍ وظُلمٍ.
هكذا استعاد المنفلوطى المعرى فى صورة تمثليّة رائعة اعتمد فيها الخيال من أولها إلى آخرها 
ومع سبق المنفلوطى للعقاد فإنه يختلف عنه فى شكل الاستعادة وأسباب الاستعادة، وأيضًا فى أماكن الرحلة التى تجوّل فيها مع المعري، فالعقاد صحب المعرى إلى أماكن مختلفة فى الشرق والغرب تتباين فى السياسات والثقافات، ليظهر مدى التقارب والاختلاف.

ليست أهمية كتاب العقاد «رجعة أبى العلاء» فى أن كاتبه العقاد أو حتى أنه عن الشاعر الكبير «أبى العلاء المعري»؛الأهمية الحقيقية للكتاب – من وجهة نظرى المحدودة - أنه ليس دراسة علميّة بالمعنى الحرفى للكلمة 
من حيث دراسة الشاعر وحياته وشعره، أو دراسة حياته من شعره، أو حتى الالتزام بمنهج نقدى على نحو ما فعل مع أبى نواس ودَرَسَهُ دراسة نفسيّة وإنما فى الإفراط فى الخيال والسياحة الفكرية إلى جانب السياحة المكانية فهو رحلة متخيّلة قادها العقاد 
وصحب فيها المعرى إلى عصره وتجوّل معه فى أنحاء العالم وأخذ رأيه فى كثير ممّا رأى عامدًا إلى المقارنة بين ما كان 
وما كائن، على غرار الرِّحلة التى قاد فيها أبو العلاء ابن القارح متجوِّلاً بين الجنّة والنار ملتقيُّا بالشعراء والأدباء واللغويين فالعقاد راح ينطقه بالرأى فى شؤون زمانه (أى زمن العقاد) بالقياس على المعهود من كلامه والمقابلة بين المعروف من آرائه وهو فى كل هذا يستشهد بشعره ويتمثّل بقوله 
ويصطنع لغته ويجرى على طريقته.
بمعنى آخر يمكن اعتبار الكتاب رحلة فى فكر وفلسفة المعري أشبه بمحاولة للاستئناس ببصيرته وحكمته فى أحوالنا ومعاشنا 
ولم لا! والمعرى عند العقاد – كما ذكر فى كتاب مطالعات بين الكتب والحياة – رجل تكشّفتْ له ضلالات الحياة وتقشعت عن بصيرته غشاوة أباطيلها»

المعرى العصرى

الأهمية الأخرى للكتاب تتمثّل فى أن العقاد أعاد المعرى إلى الحياة من جديد عودة كاملة (على عكس المنفلوطى الذى كانت إعادته للمعرى غير مكتملة فحضرت معه طبيعته الساخطة والمتبرمة على الحياة بل كانت الموجه الأساسى له فى الانتقادات التى ذكرها حول ما شاهده من أحوال وما استمع إليه من أقوال)؛ وكأنها عودة إلى الحياة التى اعتزلها العقاد 
وحبس نفسه عنها، واعتبرها “فتنة وغرورًا ولا تجد فيها ما تحمده وتُقْبل عليه” فجعل من المعرى 
وهو الكائن الفرديّ فى رأيه والفرديّ فى معيشته كائنًا اجتماعيًّا لا يستطيع أن ينعزل أو يستقل بحياته الأدبيّة عن الناس، أو يغفل عمّا يدور حوله، وبتعبير طه حسين يكون «صدى لحياتهم و- فى المقابل - كانوا صدى لإنتاجه ومرآة لما يجدون من لذة وألم ومن نعيم وبؤس».

الشيء الذى يُحسب للعقاد أنه احتكم إلى حكمة شيخ المعرة وهى الحكمة المستمدة من منهجه فى التفكير ومبدأه الأصيل فى التأكيد على قيمة العقل والتفكير فالعقل عنده هو الأساس الأوّل للمعرفة وفى اللزوميات العقل هو «المرشد الهادي وهو المخلِّص من الحَيْرة والضّلال وهو سبيل الحق وطريق المعرفة».
فكما يقول:

 إذا تفكرتَ فكرًا لا يمازجه
 فساد عقل صحيح، هانَ ما صعبا.
 تفكّر لقد حار هذا الدليل 
 وما يكشف النهج غـير الفكر.
وقد أسرف المعرى فى تمجيد العقل، وبلغ من اطمئنانه إليه وتمجيده له، أن جعله «أفضل نصير وخير مشير، وأعلن إمامته، وجعله نورًا وهاديًّا، ونبيًّا يأتى بالغيب» (بنت الشاطئ، الحياة الإنسانية عند المعري، ص ١١)، فعلى حدِّ قوله:

 كَذِبَ الناسُ لا إمام سِوى العقلِ 
 مُشيرًا فى صُبْحه والمَساء.
فطيلة الرحلة التخييليّة كان العقل هو الهادئ والموجّه لكل الأحكام التى أعلنها العقاد على لسان المعري، فمع كسر العقاد لعادات المعرى والخروج على غير ما ألف وعاش، فصار حقًّا أن يوصف بـ«المعرى العصري» إلّا أنّه عجز عن تخليّه واحتكامه للعقل المتشدّد والمفرط فى تشدّده، وهذا واضح فى مسألة المرأة، فتصلّب رأيّه لفكره القديم، الرافض للمرأة، والتى يرى أنها ألعوبة ملهية، وحيّة مؤذيّة، وآفة اللّب وفتنة الحلم، وعن حاجتها للعلم، فحسبهن منه ما يصلح للمنزل من نسج وغزل وغناء ولا حاجة بهن إلى قراءة وكتابة، فكما يقول:
 ولا تَحْمدْ حِسَانَكَإنْ توافَتْ 
 بِأَيدٍ للسُّطُورِ مُقَوِّمَـاتِ
 فَحَمْلُ مَغازِلِ النِّسْوانِ أَوْلَى 
 بِهِنَّ مِن اليَراعِ مُقَلَّماتِ
التقاطع بين «رسالة الغفران» للمعري، و«رجعة أبى العلاء» للعقاد، ليس مبعثهالتخييل الذى هو الركيزة الأساسيّة للنصيْن، إذا تغاضينا عن نفى العقاد للتخييل عن رسالة الغفران واعتبارها «كتاب أدب وتاريخ وثمرة من ثمار الدرس والإطلاع ليست بالبدعة الفنية ولا بالتخييل المبتكّر... [والمعرى فى نظره] إما مؤديًّا لأخبار من سبق ناقلاً لأحاديثهم أو معلِّقًا برأيه على تلك الأخبار المؤادة والأحاديث المنقولة، وليس فى كل هذا عمل كبير للتخييل والاختراع» (راجع، مطالعات فى الكتب والحياة، ص ص: 78، 79)، أو حتى فى تمثُّلهما للفضاء الرّحلى (العلوي- المعر) و(الأرضى – العقاد) وفقط، وإنما التقاطع أيضًا بسبب دوافع الرحلة، فالمعرى لم ينشئ كتابه من تلقاء نفسه، وإنما كردّ على رسالة من ابن القارح تتضمن إلى جانب مواضيع مختلفة، حديثًا عن عدد من الزنادقة والمبتدعين. 
أمّا سبّب تأليف العقاد لكتابه، فيرجع - كما ذكر فى المقدمة – إلى إعلان عودة أبى العلاء إلى الحياة (كرهًا) من جديد، كما أشارت الصحف حيث «الحكومة (السورية) فرغت من مراجعة رسم التابوت الذى أزمعت إقامته فى المعرة على قبر أبى العلاء، وأنها تعدّ العدة للاحتفال بانقضاء ألف سنة هجرية على وفاته، أو على ميلاده كما هو الأصوب، فالمعرى كارهُ الحياة يُعاد طوعًا أو كرهًا إلى الحياة كرة أخرى» .
باعث العودة الإجبارية للمعرى من قبل الحكومة، هو ما دَفع العقاد لأن يعيد هو الآخر المعرى إلى الحياة، ولكن مع الفارق؛ حيث الحكومة تسعى إلى الاحتفال بمرور ألف سنة هجرية، أما العقاد فيسعى إلى الاستئناس بحكمة ورأى العقاد فى المتغيرات التى حدثت بعد رحيله، فكما يقول: “خطر لى هذا الخاطر، فأحببت أن أتخيّل “رهن المحبسين” يجوس بيننا خلال الديار، ويتمرس بأحوال الأمم فى عالمنا الحاضر، فماذا هو قائل؟ وماذا هو فاعل؟”، وكأنه يعمد إلى استنطاق المعري، ومعرفة رأيه فيما يشاهد من أحوال العصر، فحسب رأى العقاد «ولا شك أننا واجدون فى كلامه حكمًا مكشوفًا أو ملفوفًا على جميع تلك الأحوال، فأمّا ما يختلف من شؤون زماننا وزمانه فهل يستطاع قياسه والنفاذ إلى رأى أبى العلاء فيه وفاقًا لذلك القياس؟ وهل فى مقدورنا نحن أبناء هذا الزمن أن ندعو الحكيم إلى الجهر برأيه فيه؟»
ويقرُّ العقاد - فى النهاية - بأنّ المعرى بعد بعثه وطوافه بالعالم مع بعض تلاميذه، «قد بلغ غاية المطاف، وسئم المضيفين والأضياف، وأحب أن يثوب إلى داره وأن يقر فى قراره».
إحدى سمات الكتاب - مع العلميّة المتناثرة فيه-أنّه يورد الكثير من أشعار المعرى التى قالها فى مناسبات مختلفة، مستشهدًا بها على مواقفه وآرائه فى الكثير من الأمور الحياتية، كالحُكّام والمرأة، والدين وموقفه من الحياة والموت، وغيرها من مسائل تَعْرِض لفلسفة المعرى فى إيجاز شديد وبليغ، إلا أن الطابع التخييلى هو ما يغلب على جوهر الرحلة ومسارها. 
ويمكننا القول إن هذه رحلة يُدفع إليها أبو العلاء دفعًا، يدفعه العقاد إليها، فيُغادر علىإثرها زمانه ومكانه إلى زمن العقاد، فيلتقى أشخاصًا متعددى المشارب والاتجاهات (أدباء، فلاسفة، سياسيين، وغيرهم)،وأماكن مختلفة (السويد والدنمارك والنرويج وإسبانيا وإنجلترا والصين وأمريكا) بعيدة ومختلفة كل الاختلاف عن وطنه المعرّة الذى تغنّى به.والرحلة فى الأصل رحلتان: الأولى فكريّة؛ رحلة إلى أشعار المعرى وفلسفته الحياتية؛ حيث استقرأ أشعاره واستنبط آراءه من خلال ما قاله فى شعره، والرحلة الثانية، أرضيّة سياحيّة، أشبه بالرحلة التى قاد فيها المعرى ابن القارح إلى الجنّة والنّار. 
عبقرية المعرى
يستهل العقاد كتابه بفصل عن عبقرية المعري، أو ما وصفه بـ«السّمت والوقار» وهو ما يعرف فى الوقت الحاضر «بأدب البيئة وأصول اللياقة”، وقد أرجع العقاد هذه الخصلة للرجل لأسباب كثيرة منها: التربية فى بيت العلم والوجاهة، والسّليقة العربيّة، وفقد البصر، والكبرياء، وعزة النفس، وَوَهن البنيّة، وضعف الخوالج الجسديّة ضعفًا أتاح له أن يكبح نوازع اللّحم والدم، ويقمع دوافع الشهوات»، ثم يتبع هذا الفصل بفصل بعنوان «عالم السّريرة» ويدخل فيه إلى سريرته متسائلاً: «هل كان من المستطاع تغيير هذه الخصلة؛ أى خصلة السّمت والوقار؟ ويواصل تساؤلاته إذا حدث ما يرجوه، قائلاً: «وماذا كان المعرى صانعًا لو أنها تغيّرت بعض التغيير أو كل التغيير. ويرى أنها «لو تغيّرت لغيّرت معيشته كلها، أو غيّرت مذهبه فى الحياة»، وبعدها يفرض على المعرى فروضًا كثيرة، فيلبسه لبوس قاضى المعرّة، أو أن يظهره فى مظهر النواسى (أى الشاعر أبو نواس)، أو يجعله على نهج الخيام (أى الشّاعر عمر الخيام) وطريقته، فهو يجمع بين النواسيّة والخياميّة فى نمط واحد، ومع هذا فانتهى – فى الأخير – إلى حقيقته الكائنة «فأبو العلاء هو أبو العلاء».
وبعد استعراض صفات العبقرية لديه، وانتسابه إلى هذه الطبيعة، أرجعه إلى الحياة، ليبدأ رحلته الأرضيّة، وهنا يظهر صوت العقاد المتخفّى فى عباءة المعرى. 
فمنذ لحظة قرار الحكومة باستعادة الرفات، يبدأ العقاد لُعبة التخييل، فيعيد المعرى إلى الحياة، وعبر أشعاره يدخله فى حوارات جدليّة مع مندوبى الحكومة الذين يحملون قرارها إلى شيخ المعرة، ويبلغونه أنهم سيبنون تابوتًا على قبره، وأنهم سيدعون علماء المشرق والمغرب إلى موطنه للاحتفال بذكرى ميلاده، فيستعيده عبر أقوال من شعره، فيصيح فيهم أتبنون لى تابوتًا. أما قرأتهم أو سمعتم قولي:
  إن التوابيت أجداث مكرّرة 
 فجنّب القوم سجنًا فى التوابيت
ومع قوة حجّته فى رفض العودة، إلا أنهم – وهم أهل سياسة وقد حذقوا أساليبها، يحتالون عليه بالكلام الناعم بأن ما سيفعلون هو من باب الكرامة والتشريف.
فيجب الشيخ:
 لا تكرموا جسدى إذا ما حلّ بي
 ريب المنون فلا فضيلة للجسد
ومرة ثانية:
 أأرغب فى الصيت بين الأنام،
  وكم خمل النابه الصيّت
 وحسب الفتى أنه مائت 
وهل يعرف الشرف المــــــيت 
هكذا يتمثّل أو يتخيّل العقاد حديثًا بين شيخ المعرة وبعثة الحكومة الذين يسوقون الحجج والأدلة على أهمية التكريم والتشريف، فهو تارة خالد بينهم، وتارة لأنهم يرفضون أن يثنى عليه الغرباء وأبناء الوطن سكوت، وتارة ثالثة لأنهم يستنكرون أن يمدح الناس من مِلَل الأرض حكماءهم وشعراءهم ولا نمحدك ونشيد بمناقبك وسجاياك.
مواجهات المعرى 
يخرج به من بلاد الديكتاتوريات إلى بلاد الحريات بلاد الشمال، فينتقد العقاد (فى صوت المعري) ما يراه من ظُلم وغبن للشعوب من قبل الحكّام الديكتاتورين. ومن ثمّ نراه منذ الاستهلال يتساءل فى استنكار: وهل فى مقدورنا نحن أبناء هذا الزمن أن ندعو الحكيم إلى الجهر برأيه فيه»؟.
ومن الأشياء الطريفة ما يقوم به التلميذ من عقد مقارنة بين المعرى والفيلسوف شوبنهاور، عارضًا لأوجه الاتفاق بين الاثنين فى أمور كثيرة مثل التشاؤم، وحدَبِهما على الوالدَين، ورحمتهما بالحيوان الأعزل، مرورًا بفلسفتهما الخاصّة وآرائهما فى المرأة والموت، والإرادة والتفكير، وتقديرهما – معًا – لأهل الهند، والزمان وغيرها من مسائل تشابهت فيها وجهات نظر الرجليْن.
ولئن كان التشابه هو السِّمة الغالبة بين الرجليْن، إلا أن هذا لا يمنع من وجود بعض الاختلافات فى مسائل بعينها، مثل موقف شوبنهاور من التواضع واعتباره “ذلة مزيفة يلتمس بها المرء غفرانًا لفضائله” فى حين أن المعرى قد تلفّع بالتواضع كثيرًا «لاتقاء الشّر والملاحاة».
ثمّ يصطحبنا مع أبى العلاء فى رحلته إلى بلاد الإنجليز وإقامته بين مجامع العلم والأدب والرواية وأهل السياسة، حيث شاهد إحدى الأزمات السياسيّة التى أقالت وزير الخارجية من منصبه، وهو الأمر الذى انعكس على طبيعة الحوار بينه وبين التلميذ، إذ يرى التلميذ أن البرلمان هو أساس نظام الحكم والاعتدال، إلا أنّ المعرى لا يرى ذلك، وإنما يرد هذا النظام الذى أعجبه إلى الأمّة، فالأمّة التى تنجب البرلمان تعرف الحكم الصالح بغير برلمان، فالأمّة هى المرجع والأساس وما عدا ذلك– بتعبيره- «فهو صور وأشكال يأخذها أناس وينبذها أناس». كما يصطحبه التلميذ ليتلقى زمرة من السياسيين مثل تشرشل وإيدن، ويظهر إعجاب المعرى باشتغالهم بالأدب إلى جانب السياسة فعنده «التفرغ إلى عمل واحد كان ما كان سبيل إلى العنت وضيق النظر وقلة السماحة، ومن تعددت مطالبه كان خليقًا أن يتسع أفقه للخصومة والخلاف، وأن يعود وهو أدنى إلى المودة والانصاف».
ويكشف لنا التلميذ عن مذهب الشيخ الذى يختلف عن مذاهب العصريين، فهو عقليًّا تارة، وتارة يميل إلى الفطرة والبداهة قبل التفكير، وتارة ثالثة لا هذا ولا ذاك، فيلخص رأيه عندما يرى الحيرة على تلميذه، فيشرح موضحًا: «فاعلم إذن إننا نتبع العقل فيما هو للعقل من رأى وتفكير وتجربة ومشاهدة، وإننا نتبع الفطرة فيما هو للفطرة من ذوق وطمأنينة وتسليم، وإننا لا نطلب من الفطرة أن تصبح عقلاً، ولا من العقل أن يصبح فطرة، وإنما نستشير كليهما حيث يشير»، وبالمثل يعرض لمذهبه فهو لا من الجبريين ولا من القدريين حسب قوله:
 وبصير الأقوام مثلى أعمى 
  فهلموا فى حندس نتصادم
ومن عالم السياسة إلى عالم الأدب، يأخذ التلميذ أستاذه فى سياحة مهولة، يعرفه بدانتى الذى عقد الكثيرون بينهما أوجه مشابهة ومقاربة، فيعرض له التلميذ ما تردّد من زعم بعض الأدباء بأنه تلميذ له وقد اقتبس منه روايته المقدسة (أى الكوميديا الإلهية)، ثم يسرد له جوانبًا من سيرة خليفة دانتى الشاعر جبريل دنزيو، الذى وفاته المنية والمعرى فى رحلته إلى بلاد الإنجليز، وأوجه الاتفاق والاختلاف بينه وبين أستاذه، فالأستاذ كان عذريًّا فى هواه متدينًا فى شعره صارمًا فى حياته «أما التلميذ فهو على عكس هذا “مذهبه فى الحبّ إشباع الشهوات واستنفاد متعة الحياة، ومذهبه فى الدين مذهب أهل العصر من الشّك والإباحة، وسجيته أقرب إلى العربدة منها إلى الصّرامة، وإلى الضحك الثائر اقرب منها إلى العبوس الرصين».
يبدو المعرى فى رحلته تارة مندهشًا وطورًا معجبًا بما يشاهد ويرى، وتارة ثالثة نراه يتخذها كمراجعة لأقواله وآرائه، فينتقد موقفه إزاء قضايا كان له فيها موقف رجعيّ، مثل موقفه من البنات، وما إن يذهب إلى بلاد الأندلس حتى يكاد أن يتغيّر رأيه بعدما رأى الفتيات، فأعجبه قيامهن بأدوار قصرها من قبل على الذكور، فيراهن «مدافعات يوم حرب، ومتغشمات فى غارة» وهنا نرى أن المعرى يستجيب لطبيعة العصر، وبدأت نفسه تنازعه فى الإقلاع عن رأيه السابق، وكاد أن يفعل، لكن نفسه العربيّة تأبى عليه أن يلين أو يرجع، فيجفل ويعود إلى طبيعته، ويعتبر أن سبب الآفة لا أن النساء أصبحن كالرجال، وإنما للعكس، أى أن الرجال أصبحوا كالنساء، - ومن ثم – «فلا حرج إذن من المساواة».
لكن المهم هو ليس عدوله عن رأيه، وإنما رحابة صدره للاعتراف بما جدّ واستحدث حتى ولو لم يأخذ به، كما نراه يمقت الحرب، ويستنكر الإصرار على التمسُّك بها فى كلّ وقت وزمان، فهى عنده «استنفذت الرجال، وجارت على النساء»
يحدث تبادل للأدوار بين الأستاذ والتلميذ فيحلّ التلميذ محلّ الأستاذ، فيشرح له ما غفل عنه، ويستفيض فى إخباره بما لا علم له من عند الفلاسفة المحدثين وآرائهم فى المرأة وغيرها، والأستاذ لا يقعد فى موقع التلميذ الملول، وإنما يأخذ ويستنبط ويقارن ما طرحه التلميذ بما يعرفه سابقًا.
كما نراه يعترف بعدم معرفته وإطلاعه بما كتب أفلاطون بشأن المرأة، عندما يذكره التلميذ المصاحب له فى الرحلة،يستسلم لشغف المعرفة ويطلبمنه أن يطلعه على ما قال أفلاطون، فترجم له التلميذ كلمة من قوانين أفلاطون يقول فيها: «على البنات أن يتعلمّن صناعة الحرب بأجمعها، وعلى النساء أن يعالجن الرياضة ونظام الجيوش واستخدام السلاح ليستطعن – بين أسباب شتى – أن يحرسن ديارهن وأطفالهن، حين يندب الرجال للحروب فى أرض بعيدة... إلخ»

 

وبعد هذه الرحلة والسياحة فى بلاد الشمال، ينتقلان إلى الغرب حيث أمريكا وهناك يحكى له التلاميذ عن أعجايب السياسة وكيف حاكمها استطاع أن يعالح العطب الذى كان فيها مثلما عالج عطب نفسه، ونهض بها، وما إن شاهدا (الأستاذ والتلميذ) عيد استقلالها ومظاهر البذخ فى الاحتفال، حتى كان رأى التلميذ قاسيًّا فهى عنده أمة تحب المال ولا تعمل إلا للمال ولكن الأستاذ لم يجارِ التلميذ فيما قال. وبعدها ارتحلا إلى أرض الصين وشهدا ما حاق بها من فتن وصراعات والمجاعة، إلا أنها مع ما تشهده من أحداث وأهوال، كانت بالنسبة له أقرب إلى راحة البال والإقبال على شهود الأحوال.
ونطالع شيئًا من المقارنة بين طبائع البلاد التى زارها، فيقارن بين أرض نيبون وأرض الصين، وكذلك يقارن بين زهد الهند وزهد نجد، فالأول زهد السّآمة من الوفرة والإغراق والابتذال، أما زهد الثانى فهو زهد الأنفة فى وجه الضنك والضررورة.

 


ولكن التلميذ يستفز الأستاذ بالأسئلة حول هذه الاختراعات المدهشة كالكهرباء وآلات البخار والسفن وغيرها، بعدما لم بجد أثرًا للدهشة على الأستاذ، لنكتشف أن الأستاذ لا يرى فى هذه الاختراعات عجبًا، ولا يراها فتحًا، فعنده فتحًا لو أنه سخر الآلات ثم أطلق نفسه من العقال، أو لو أنه ملك نفسه يوم ملك آلات الأرض والهواء، ولكنه سخر الآلات المصنوعة ليصبح شبيهًا بها، ثم ازداد فى التسخير ليزداد فى الشبه – فالخلاصة – أنه أسير ما صنع، ورهين ما ابتدع».
حالة عدم الرضى على ما رأى تشى بأن الأستاذ يميل إلى القديم، فالقدماء مالوا إلى الحيوان، فى حين إنسان العصر الحديث مال إلى الجماد، وحسب قوله “كل قريب إليّ ما يروّض».
من الأشياء التى أُخذت على العقاد فى الكِتاب، أنّه أظهر شخصيته لا شخصية المعري، وأبدى رأيه هو لا رأى شيخه فى الحياة، أى أن العقاد تخفّى فى قناع المعري، وأجرى ما أراد قوله على لسانه، فأبدى استياءه من الشيوعيّة، فى مقابل ميله الشّديد للاشتراكيّة وأظهر إعجابه بالإنجليز، فالرأى الذى خالف فيه المعرى التلميذ حول البرلمان، هو رأى العقاد الذى يقطع بأن “نوع الحكم لا يهم ما دام المحكمون على قسط وافر من الحاسّة السياسيّة عارفين بحقوقهم مقتدرين على أخذ الولاة باحترامها” فعنده أن المبدأ القائل بأنّ الحكم من الأمة للأمة هو أصلح المبادئ، فهو المبدأ الذى يعطى المحكومين فرصة بعد فرصة لاختيار الأفضل من السّاسة الأكفاء من القادة والولاة ورؤساء الدواوين.
وبالمثل الرأى الذى يقطعه فى المرأة لا يختلف عن رأى المعرى وشوبنهاور، فهو كاره للمرأة ولا يثق فيما تقوم به من أفعال،ففى المرأة تتجسّد شهوة الحياة والجنس، فكما يقول:”إن المرأة خلقت رسول الجسد وحارس النسل، فهى تعرف كيف تؤدى رسالتها وتقوم بحراستها».
فى الأخير، أودُّ التنويه بأن مؤسسة هنداوى أعادت طباعة الكتاب من جديد عام 2014، بتغيير طفيف فى العنوان، إلا أنه أخلّ بفكرة العقاد ذاتها، وهى الفكرة التى عنّفه عليها الدكتور طه حسين فى مقالة له عن الكتاب نشرها فى مجلة الثقافة، ثم ضمها إلى كتابه «فصول فى النقد والأدب» تحت عنوان «مع أدبائنا المعاصرين» فالمؤسسة نشرته بعنوان «أبو العلاء» وهو ما يُفهم منه على أنه سيرة غيرية للشاعر الكبير، أو تناوُّل لحياته من خلال أشعاره، على نحو ما فعل أحمد تيمور باشا فى كتابه «أبو العلاء المعري» (1940)، حيث درس نسبه وأصله وشعره، ومعتقده، فى حين أن الفكرة الأساسيّة التى اعتمدها العقاد لكتابه وهى - ما لم تَرُقْ لطه حسين وعاب عليه الإفراط فى الخيال- هى أخذ المعرى فى رحلة متخيّلة من زمانه إلى زمان الكاتب، ومعرفة رؤيته بالمستجدات التى حلّت، ومقارنتها بما كان الوضع عليه قديمًا.

أبو العلاء المعري(٣٦٣ هـ - ٤٤٩ هـ) (٩٧٣ -١٠٥٧ م) رجل عبقرى الذهن كما ردّد السابقون، ويؤكّد اللاحقون، وهذه صفة لا ينازعه فيها أحد من أقرانه من الشعراء فى عصره أو العصور اللاحقة عليه. وقد كان موضع بحث ودرس فى القديم والحديث، فاعتنى بدرسه الدكتور طه حسين (١٨٨٩ - ١٩٧٣) إذْ خصّص له العديد من الدراسات والكتب، التى تتبَّع فيها الشّاعر وشعره وأدبه، وبالمثل فعل تلاميذ الدكتور على نحو ما فعلت الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) (١٩١٣ - ١٩٩٨) فتعقّبتِ الرجل ودرستْ فلسفته فى الحياة دراسة مميّزة فى أطروحتها التى قدمتها للحصول على الماجستير عام ١٩٤١ تحت إشراف أستاذها العميد بعنوان «الحياة الإنسانيّة عند أبى العلاء: لم خلقنا؟ وكيف نحيا؟ وإلى أين المصير؟»، ثمّ واصلت أبحاثها عنه فى الدكتوراه، فأوقفتها على «تحقيق وشرح رسالة الغفران».


استعادة المعرى


كما أَوْلاه الكاتب الكبير عبّاس محمود العقاد (١٨٨٩ - ١٩٦٤) عناية خاصّة، فخصّه بالعديد من الدراسات التى تناولتْ آثارَه والموضوعات التى اهتمَّ بها فى شعره ونثره، فتناول الخيال فى رسالة الغفران، وتأمّل فى معنى الحياة لديه فى ضوء رسالة الغفران، كما تطرّق لظواهر متعدّدة تجلّت فى كتاباته كالتشاؤم والسّخرية، وكذلك عَرض لفلسفته (مذهب النشوء)، واشتراكيته، والجبر عنده، وكَراهته للبشر، ورأيه فى المرأة وغيرها من موضوعاتأبرزت فلسفته الحياتيّة، إلى جانب هذا، قدّم مراجعات عن الكتب التى كُتبتْ عنه (أى المعري)، وناقش أفكارَها وبيّن ضلالَها أيضًا،وعلاوة هذا وذلك، فإنه خصّه بكتاب منفرد، سعى من خلاله إلى تمثُّله فى شخصيته ورأيه استنادًا إلى شعره ومواقفه.عنوان الكتاب «رَجْعَة أبى العلاء» وقد صدر فى عام ١٩٣٩، وأعيدت طباعته مرات محدودة، إلا أنه يكاد يكون مجهولاً بالنسبة للأجيال الحاليّة، والكتاب – فى المُجمل - بمثابة استعادة لشخصية المعرى

عبر التخييل.


وقد سبق العقاد فى هذا الباب مصطفى لطفى المنفلوطي، إذْ بعثَ المعرى إلى الحياة الدنيا فى قصة بعنوان «البعث» ضمَّنها كتاب «النظرات»، وهى قصة خياليّة، غرضها تمثيل أبى العلاء المعرى من خلال أخلاقه وآرائه، وإن كان لم يكتب منها غير الأيّام الثلاثة التى حلّ فيها الشيخ ضيفًا عليه فى منزله. عمد المنفلوطى فى قصته إلى تذييل النّص بكلام أبى العلاء عند المناسبات، كتمييز بين الحقائق التاريخيّة والتصوُّرات الخياليّة، وكأنّه يضع حدًّا فاصلاً بين ما تصوّره وما هو حقيقى تاريخي، لكن الغالب على القصة هو التخييل منذ بعث المعرى بعد موته، وحكيه له عن تفاصيل الحساب، وشفاعة الرسول له، وجولته معه فى إحدى القرى.
يروى المنفلوطى فى القصة أنّه ذات ليلة ظلماء أرَّقَ مضجعه همٌّ نزل به، فظل يُساهر الكوكب حتى سئما بعضهما بعضًا، وبينما هو على هذه الحالة، فإذا بطارق يدق الباب دقًا ضعيفًا، ما كاد يتبيَّنه لولا هدوء الليل وسكونه،وما إن فتح الباب فإذا برجلٍ رثّ الثياب ممسكًا بعصاه قد بلغ الثمانين أو زاد عنها، محدودب الظهر، قصير القامة، أسمر اللون،أبيض اللحيّة، وسيع العينين، فأطرق الرجل وقال بصوت خفيف: «غريبٌ حائرٌ ضلّ به سبيله فى هذه الرقعة السّوداء، وأعوزه المأوى يطلب كريمًا يُعتمدُ عليه ومضجعًا يأوى إليه»، فسكت المنفلوطى هنيهة ثم رحب بالشيخ وقال: “لقد حللت بالمنزل أنتَ صاحبه وولى الأمرِ فيه”، ثمّ قدَّم المنفلوطى يده للشيخ كى يتوكّأ عليها ويتحامل مشيًّا إلى مضجعه.

ومن شدة فصاحة الشَّيْخ الغريب يُعجب به المنفلوطي، ويحلّ عليه ضيفًا لثلاثة أيّام، وبعد أنْ يستريح الضيف ويأخذ واجبه من الطَّعام والشَّراب، يلتقى الاثنان، فيسأله الشَّيْخ أولاً عن المكان الذى هبط إليه والسنة التى فيها، فيخبره المنفلوطى أنه هبط بالقاهرة المعزيّة، وأنه فى السنة التاسعة والعشرين بعد الثلثمائة والألف،ثم يحكى له الشّيخ / المعرى عن أحوال النَّاس عندما رأوه، بأن أوصدوا الباب أمامه، وانصرفوا عنه، وقد خاطبوه بلحن أعجمى لا يعرفه. 
عندئذ يلفت المنفلوطى ضيفه أنه قد أعاد بذكائه عهد أبى العلاء، فيستفسر منه عن كنهة هذا المدعو أبى العلاء، ورأى الناس فيه، وهل يُؤْثِر أنْ يكون فى عصره أو أنْ يكون فى عصرك؟ وما إن يُبدى المنفلوطى توقه لهذه الأمنية، حتى يفصح الشيخ عن هويته، ويقول له:  «قد بلغك الله طلبتك»، فيدخل المنفلوطى فى حَيرة من أمره، عندها يأخذ المعرى كل وسيلة لطمأنته، فيسأله هل يؤمن بالبعث، ويحكى له عمّا حدث معه من حساب عسير، وكيف تشفّع له الرسول بعد أن كاد يدخل فى زمرة المفسدين الذين تنكّروا لإرادة الله، وأغفلوا حكمته فى خلق النوع البشري.
فيُبْعث المعرى على غير الصُّورة التى كان عليها قبل رحيله؛ مُبْصرًا بعد شفاعة له الرسول الكريم، قائلاً: «فاسألك بقلمك النّورانى الذى تمحو به فى لوحك ما تشاء وتثبت، أن تقى جسمه الذى طهّره فى الحياة الدنيا بالزهد فى شهواتها ولذائذها والصّبر على آلامها وأهوالها من عذاب النّار، وأن تجعل عذاب قلبه فداءً لعذاب جسمه، فعاقبه بإرجاعه إلى تلك الدار التى كانت جحيمه ومستقر عذابه وحسبه من العقاب أن يلقى فيها آخر ما لقى فيها أولا، إنك بعبادك لطيف خبير» (النظرات: الأعمال الكاملة، دار الجيل، بيروت – لبنان، ص ٦٨٧)
وبعد أـن قَبِلَ الله شفاعة نبيه قضى أن يعود إلى الدَّار الأولى ليقضى فيها من الأيّام بعد ما قضى من السنين، وبذلك يكون ما حكاه هو مُجمل اليوم الأوّل له فى هذه الدنيا، وفى اليوم الثانى يبدأ الشيخ تنقيده لأوضاع الناس فى هذا الزمن، متسلحًا بفلسفتة فى الحياة، التى مات عليها؛ فينتقد ما قُدِم له من دجاجات للطعام، ناكرًا على الإنسان قسوته على الحيوان، ويتحدث بصوت الحيوان الذى أرهق الإنسان روحه من أجل لذة طعامه، فيتمثّل صوت الدجاجات الذبيحات مستصرخًا “أنتَ لا تملك أن تعطينى الحياة، فلا تملك أن تسلبنى إيّاها”، وبعدها يتوجه إلى مضيفه لائمًا عاتبًا: “هيا صاحب الدجاجات! حدثنى عنك ألم يكن لك فى جميع ما تُنبت الأرض مِن بقلها، وقثائها، وفومها وعدسها، وبصلها منادح لإكرامى والقيام بحقي...؟! وبعد أن أخذه الإعياء والتعب فى الحديث، يتوجه إليه بنى آدم جمعاء، بأن يَدَعُوا ما خلق الله من حيوانات وبهائم وطير ترعى فى ملكوتها، وأن يُجنِّبُوها فخاخهم، وأن يرحموها كى يرحموا أنفسهم، وأن يعصموا دماءها كى يعصم الله دماءكم، فحسب قوله «أنتم إلى الرّحمة محتاجون، وإلى الله راغبون».
وفى اليوم الثالث من مقامه، يفارق غرفته ويتجه إلى الحديقة ويجلس فيها ينظر أزهارها ويبسم للعصافير التى تنتقل بين أنجمها وأشجارها، ويصغى إلى سرّ الحديث بين حصبائها ومائها، ثم يصبحه المنفلوطى فى رحلة إلى ضاحية البلد ليرفه عن نفسه من الحزن، ويسره منظر الطبيعة بل يدفعه إلى الإفصاح عن جزء من فلسفته حول الحقيقة، فهو يرى أن الناس جميعهم يطلبون الحقيقة، وينشدونها فى صفحات التاريخ، والحقيقة غير ذلك، فهى موجودة لكن لا أحد يصل إليها – ومن ثمّ - فعلى الناس أن يلتمسوها «فى الأودية الفيحاء تحت القبة الزرقاء بين الظل والماء» ، عندئذ يراها الإنسان عارية الجسم ويسمع صوتها واضح النبرات من غير تكلُّف أو خداع، وبعدها يتطرُّق إلى المساواة بين البشر، وتحقيق الاشتراكيّة عندما هلّ عليهما فلاح مع ابنيه يشكو عجزه عن إكرامهما، فيدخل معه المعرى فى حوار عمّن يملك الأرض، وماذا يأخذ نظير عمله وفلاحته، فتهزه قصة الفلاح الذى ماتت زوجته، وهو منسلخ عن حياته لإرضاء سيده، فيتأسّى لحال الفلاح المسكين من الظلم الذى وقع عليه، وبعدها ترك مضيفه إلى مخدعه وهو يردد أبياتًا من الشعر يفضّل فيها صخرة على البشر، فيكفى أنها لا تظلم ولا تكذب.
هكذا أعاد / أو بعث المنفلوطى المعرى ليريه أن الإنسان ما زال فى جهالته، وأن قسوته على غيره من الكائنات أكثر وأكثر بل وتتمادى من أجل تحقيق متعته الشخصيّة، وأن فلسفته التى ظلّ طيلة حياته يأتنس بها لا وجود لها ولا أثر لها بين من يدّعون أنهم من أنصاره وشيعته، وأن الظُّلم هو المهيمن، ومستشرٍ بصور مختلفة، ومن ثمّ– كأنه يريد أن يقول – فإن حياته السّابقة –كرهين المحسبين - التى أختارها لهى الأصوب والحق، فيكفى أنه ألزم نفسه بما لا يُلزم، كى يحفظ سريرتها ولا يُسْقطها فى فخاخ الحياة من قسوةٍ وكَذبٍ وظُلمٍ.
هكذا استعاد المنفلوطى المعرى فى صورة تمثليّة رائعة، اعتمد فيها الخيال من أولها إلى آخرها، ومع سبق المنفلوطى للعقاد فإنه يختلف عنه فى شكل الاستعادة وأسباب الاستعادة، وأيضًا فى أماكن الرحلة التى تجوّل فيها مع المعري، فالعقاد صحب المعرى إلى أماكن مختلفة فى الشرق والغرب، تتباين فى السياسات والثقافات، ليظهر مدى التقارب والاختلاف.
ليست أهمية كتاب العقاد «رجعة أبى العلاء» فى أن كاتبه العقاد، أو حتى أنه عن الشاعر الكبير «أبى العلاء المعري»؛الأهمية الحقيقية للكتاب – من وجهة نظرى المحدودة - أنه ليس دراسة علميّة بالمعنى الحرفى للكلمة، من حيث دراسة الشاعر وحياته وشعره، أو دراسة حياته من شعره، أو حتى الالتزام بمنهج نقدى على نحو ما فعل مع أبى نواس ودَرَسَهُ دراسة نفسيّة، وإنما فى الإفراط فى الخيال، والسياحة الفكرية إلى جانب السياحة المكانية، فهو رحلة متخيّلة قادها العقاد وصحب فيها المعرى إلى عصره، وتجوّل معه فى أنحاء العالم وأخذ رأيه فى كثير ممّا رأى، عامدًا إلى المقارنة بين ما كان وما كائن، على غرار الرِّحلة التى قاد فيها أبو العلاء ابن القارح متجوِّلاً بين الجنّة والنار، ملتقيُّا بالشعراء والأدباء واللغويين، فالعقاد راح ينطقه بالرأى فى شؤون زمانه (أى زمن العقاد) بالقياس على المعهود من كلامه، والمقابلة بين المعروف من آرائه، وهو فى كل هذا يستشهد بشعره، ويتمثّل بقوله، ويصطنع لغته ويجرى على طريقته.
بمعنى آخر يمكن اعتبار الكتاب رحلة فى فكر وفلسفة المعري،أشبه بمحاولة للاستئناس ببصيرته وحكمته فى أحوالنا ومعاشنا، ولم لا! والمعرى عند العقاد – كما ذكر فى كتاب مطالعات بين الكتب والحياة – رجل تكشّفتْ له ضلالات الحياة، وتقشعت عن بصيرته غشاوة أباطيلها».


المعرى العصرى


الأهمية الأخرى للكتاب تتمثّل فى أن العقاد أعاد المعرى إلى الحياة من جديد عودة كاملة (على عكس المنفلوطى الذى كانت إعادته للمعرى غير مكتملة، فحضرت معه طبيعته الساخطة والمتبرمة على الحياة،بل كانت الموجه الأساسى له فى الانتقادات التى ذكرها حول ما شاهده من أحوال، وما استمع إليه من أقوال)؛ وكأنها عودة إلى الحياة التى اعتزلها العقاد وحبس نفسه عنها، واعتبرها “فتنة وغرورًا، ولا تجد فيها ما تحمده وتُقْبل عليه”، فجعل من المعرى وهو الكائن الفرديّ فى رأيه والفرديّ فى معيشته، كائنًا اجتماعيًّا، لا يستطيع أن ينعزل أو يستقل بحياته الأدبيّة عن الناس، أو يغفل عمّا يدور حوله، وبتعبير طه حسين يكون «صدى لحياتهم و- فى المقابل - كانوا صدى لإنتاجه، ومرآة لما يجدون من لذة وألم، ومن نعيم وبؤس».

 


الشيء الذى يُحسب للعقاد أنه احتكم إلى حكمة شيخ المعرة، وهى الحكمة المستمدة من منهجه فى التفكير، ومبدأه الأصيل فى التأكيد على قيمة العقل والتفكير، فالعقل عنده هو الأساس الأوّل للمعرفة، وفى اللزوميات العقل هو «المرشد الهادي، وهو المخلِّص من الحَيْرة والضّلال، وهو سبيل الحق وطريق المعرفة».
فكما يقول:
 إذا تفكرتَ فكرًا لا يمازجه
 فساد عقل صحيح، هانَ ما صعبا.
 تفكّر لقد حار هذا الدليل 
 وما يكشف النهج غـير الفكر.
وقد أسرف المعرى فى تمجيد العقل، وبلغ من اطمئنانه إليه وتمجيده له، أن جعله «أفضل نصير وخير مشير، وأعلن إمامته، وجعله نورًا وهاديًّا، ونبيًّا يأتى بالغيب» (بنت الشاطئ، الحياة الإنسانية عند المعري، ص ١١)، فعلى حدِّ قوله:
 كَذِبَ الناسُ لا إمام سِوى العقلِ 
 مُشيرًا فى صُبْحه والمَساء.

 

 

 

 


فطيلة الرحلة التخييليّة كان العقل هو الهادئ والموجّه لكل الأحكام التى أعلنها العقاد على لسان المعري، فمع كسر العقاد لعادات المعرى والخروج على غير ما ألف وعاش، فصار حقًّا أن يوصف بـ«المعرى العصري» إلّا أنّه عجز عن تخليّه واحتكامه للعقل المتشدّد والمفرط فى تشدّده، وهذا واضح فى مسألة المرأة، فتصلّب رأيّه لفكره القديم، الرافض للمرأة، والتى يرى أنها ألعوبة ملهية، وحيّة مؤذيّة، وآفة اللّب وفتنة الحلم، وعن حاجتها للعلم، فحسبهن منه ما يصلح للمنزل من نسج وغزل وغناء ولا حاجة بهن إلى قراءة وكتابة، فكما يقول:
 ولا تَحْمدْ حِسَانَكَإنْ توافَتْ 
 بِأَيدٍ للسُّطُورِ مُقَوِّمَـاتِ
 فَحَمْلُ مَغازِلِ النِّسْوانِ أَوْلَى 
 بِهِنَّ مِن اليَراعِ مُقَلَّماتِ
التقاطع بين «رسالة الغفران» للمعري، و«رجعة أبى العلاء» للعقاد، ليس مبعثهالتخييل الذى هو الركيزة الأساسيّة للنصيْن، إذا تغاضينا عن نفى العقاد للتخييل عن رسالة الغفران واعتبارها «كتاب أدب وتاريخ وثمرة من ثمار الدرس والإطلاع ليست بالبدعة الفنية ولا بالتخييل المبتكّر... [والمعرى فى نظره] إما مؤديًّا لأخبار من سبق ناقلاً لأحاديثهم أو معلِّقًا برأيه على تلك الأخبار المؤادة والأحاديث المنقولة، وليس فى كل هذا عمل كبير للتخييل والاختراع» (راجع، مطالعات فى الكتب والحياة، ص ص: 78، 79)، أو حتى فى تمثُّلهما للفضاء الرّحلى (العلوي- المعر) و(الأرضى – العقاد) وفقط، وإنما التقاطع أيضًا بسبب دوافع الرحلة، فالمعرى لم ينشئ كتابه من تلقاء نفسه، وإنما كردّ على رسالة من ابن القارح تتضمن إلى جانب مواضيع مختلفة، حديثًا عن عدد من الزنادقة والمبتدعين. 
أمّا سبّب تأليف العقاد لكتابه، فيرجع - كما ذكر فى المقدمة – إلى إعلان عودة أبى العلاء إلى الحياة (كرهًا) من جديد، كما أشارت الصحف حيث «الحكومة (السورية) فرغت من مراجعة رسم التابوت الذى أزمعت إقامته فى المعرة على قبر أبى العلاء، وأنها تعدّ العدة للاحتفال بانقضاء ألف سنة هجرية على وفاته، أو على ميلاده كما هو الأصوب، فالمعرى كارهُ الحياة يُعاد طوعًا أو كرهًا إلى الحياة كرة أخرى» .
باعث العودة الإجبارية للمعرى من قبل الحكومة، هو ما دَفع العقاد لأن يعيد هو الآخر المعرى إلى الحياة، ولكن مع الفارق؛ حيث الحكومة تسعى إلى الاحتفال بمرور ألف سنة هجرية، أما العقاد فيسعى إلى الاستئناس بحكمة ورأى العقاد فى المتغيرات التى حدثت بعد رحيله، فكما يقول: “خطر لى هذا الخاطر، فأحببت أن أتخيّل “رهن المحبسين” يجوس بيننا خلال الديار، ويتمرس بأحوال الأمم فى عالمنا الحاضر، فماذا هو قائل؟ وماذا هو فاعل؟”، وكأنه يعمد إلى استنطاق المعري، ومعرفة رأيه فيما يشاهد من أحوال العصر، فحسب رأى العقاد «ولا شك أننا واجدون فى كلامه حكمًا مكشوفًا أو ملفوفًا على جميع تلك الأحوال، فأمّا ما يختلف من شؤون زماننا وزمانه فهل يستطاع قياسه والنفاذ إلى رأى أبى العلاء فيه وفاقًا لذلك القياس؟ وهل فى مقدورنا نحن أبناء هذا الزمن أن ندعو الحكيم إلى الجهر برأيه فيه؟»

 

 


ويقرُّ العقاد - فى النهاية - بأنّ المعرى بعد بعثه وطوافه بالعالم مع بعض تلاميذه، «قد بلغ غاية المطاف، وسئم المضيفين والأضياف، وأحب أن يثوب إلى داره وأن يقر فى قراره».
إحدى سمات الكتاب - مع العلميّة المتناثرة فيه-أنّه يورد الكثير من أشعار المعرى التى قالها فى مناسبات مختلفة، مستشهدًا بها على مواقفه وآرائه فى الكثير من الأمور الحياتية، كالحُكّام والمرأة، والدين وموقفه من الحياة والموت، وغيرها من مسائل تَعْرِض لفلسفة المعرى فى إيجاز شديد وبليغ، إلا أن الطابع التخييلى هو ما يغلب على جوهر الرحلة ومسارها. 
ويمكننا القول إن هذه رحلة يُدفع إليها أبو العلاء دفعًا، يدفعه العقاد إليها، فيُغادر علىإثرها زمانه ومكانه إلى زمن العقاد، فيلتقى أشخاصًا متعددى المشارب والاتجاهات (أدباء، فلاسفة، سياسيين، وغيرهم)،وأماكن مختلفة (السويد والدنمارك والنرويج وإسبانيا وإنجلترا والصين وأمريكا) بعيدة ومختلفة كل الاختلاف عن وطنه المعرّة الذى تغنّى به.والرحلة فى الأصل رحلتان: الأولى فكريّة؛ رحلة إلى أشعار المعرى وفلسفته الحياتية؛ حيث استقرأ أشعاره واستنبط آراءه من خلال ما قاله فى شعره، والرحلة الثانية، أرضيّة سياحيّة، أشبه بالرحلة التى قاد فيها المعرى ابن القارح إلى الجنّة والنّار. 


عبقرية المعرى


يستهل العقاد كتابه بفصل عن عبقرية المعري، أو ما وصفه بـ«السّمت والوقار» وهو ما يعرف فى الوقت الحاضر «بأدب البيئة وأصول اللياقة”، وقد أرجع العقاد هذه الخصلة للرجل لأسباب كثيرة منها: التربية فى بيت العلم والوجاهة، والسّليقة العربيّة، وفقد البصر، والكبرياء، وعزة النفس، وَوَهن البنيّة، وضعف الخوالج الجسديّة ضعفًا أتاح له أن يكبح نوازع اللّحم والدم، ويقمع دوافع الشهوات»، ثم يتبع هذا الفصل بفصل بعنوان «عالم السّريرة» ويدخل فيه إلى سريرته متسائلاً: «هل كان من المستطاع تغيير هذه الخصلة؛ أى خصلة السّمت والوقار؟ ويواصل تساؤلاته إذا حدث ما يرجوه، قائلاً: «وماذا كان المعرى صانعًا لو أنها تغيّرت بعض التغيير أو كل التغيير. ويرى أنها «لو تغيّرت لغيّرت معيشته كلها، أو غيّرت مذهبه فى الحياة»، وبعدها يفرض على المعرى فروضًا كثيرة، فيلبسه لبوس قاضى المعرّة، أو أن يظهره فى مظهر النواسى (أى الشاعر أبو نواس)، أو يجعله على نهج الخيام (أى الشّاعر عمر الخيام) وطريقته، فهو يجمع بين النواسيّة والخياميّة فى نمط واحد، ومع هذا فانتهى – فى الأخير – إلى حقيقته الكائنة «فأبو العلاء هو أبو العلاء».
وبعد استعراض صفات العبقرية لديه، وانتسابه إلى هذه الطبيعة، أرجعه إلى الحياة، ليبدأ رحلته الأرضيّة، وهنا يظهر صوت العقاد المتخفّى فى عباءة المعرى. 
فمنذ لحظة قرار الحكومة باستعادة الرفات، يبدأ العقاد لُعبة التخييل، فيعيد المعرى إلى الحياة، وعبر أشعاره يدخله فى حوارات جدليّة مع مندوبى الحكومة الذين يحملون قرارها إلى شيخ المعرة، ويبلغونه أنهم سيبنون تابوتًا على قبره، وأنهم سيدعون علماء المشرق والمغرب إلى موطنه للاحتفال بذكرى ميلاده، فيستعيده عبر أقوال من شعره، فيصيح فيهم أتبنون لى تابوتًا. أما قرأتهم أو سمعتم قولي:
  إن التوابيت أجداث مكرّرة 
 فجنّب القوم سجنًا فى التوابيت
ومع قوة حجّته فى رفض العودة، إلا أنهم – وهم أهل سياسة وقد حذقوا أساليبها، يحتالون عليه بالكلام الناعم بأن ما سيفعلون هو من باب الكرامة والتشريف.
فيجب الشيخ:
 لا تكرموا جسدى إذا ما حلّ بي
 ريب المنون فلا فضيلة للجسد
ومرة ثانية:
 أأرغب فى الصيت بين الأنام،
  وكم خمل النابه الصيّت
 وحسب الفتى أنه مائت 
وهل يعرف الشرف المــــــيت 
هكذا يتمثّل أو يتخيّل العقاد حديثًا بين شيخ المعرة وبعثة الحكومة الذين يسوقون الحجج والأدلة على أهمية التكريم والتشريف، فهو تارة خالد بينهم، وتارة لأنهم يرفضون أن يثنى عليه الغرباء وأبناء الوطن سكوت، وتارة ثالثة لأنهم يستنكرون أن يمدح الناس من مِلَل الأرض حكماءهم وشعراءهم ولا نمحدك ونشيد بمناقبك وسجاياك.
مواجهات المعرى 
يخرج به من بلاد الديكتاتوريات إلى بلاد الحريات بلاد الشمال، فينتقد العقاد (فى صوت المعري) ما يراه من ظُلم وغبن للشعوب من قبل الحكّام الديكتاتورين. ومن ثمّ نراه منذ الاستهلال يتساءل فى استنكار: وهل فى مقدورنا نحن أبناء هذا الزمن أن ندعو الحكيم إلى الجهر برأيه فيه»؟.
ومن الأشياء الطريفة ما يقوم به التلميذ من عقد مقارنة بين المعرى والفيلسوف شوبنهاور، عارضًا لأوجه الاتفاق بين الاثنين فى أمور كثيرة مثل التشاؤم، وحدَبِهما على الوالدَين، ورحمتهما بالحيوان الأعزل، مرورًا بفلسفتهما الخاصّة وآرائهما فى المرأة والموت، والإرادة والتفكير، وتقديرهما – معًا – لأهل الهند، والزمان وغيرها من مسائل تشابهت فيها وجهات نظر الرجليْن.

 

ولئن كان التشابه هو السِّمة الغالبة بين الرجليْن، إلا أن هذا لا يمنع من وجود بعض الاختلافات فى مسائل بعينها، مثل موقف شوبنهاور من التواضع واعتباره “ذلة مزيفة يلتمس بها المرء غفرانًا لفضائله” فى حين أن المعرى قد تلفّع بالتواضع كثيرًا «لاتقاء الشّر والملاحاة».
ثمّ يصطحبنا مع أبى العلاء فى رحلته إلى بلاد الإنجليز وإقامته بين مجامع العلم والأدب والرواية وأهل السياسة، حيث شاهد إحدى الأزمات السياسيّة التى أقالت وزير الخارجية من منصبه، وهو الأمر الذى انعكس على طبيعة الحوار بينه وبين التلميذ، إذ يرى التلميذ أن البرلمان هو أساس نظام الحكم والاعتدال، إلا أنّ المعرى لا يرى ذلك، وإنما يرد هذا النظام الذى أعجبه إلى الأمّة، فالأمّة التى تنجب البرلمان تعرف الحكم الصالح بغير برلمان، فالأمّة هى المرجع والأساس وما عدا ذلك– بتعبيره- «فهو صور وأشكال يأخذها أناس وينبذها أناس». كما يصطحبه التلميذ ليتلقى زمرة من السياسيين مثل تشرشل وإيدن، ويظهر إعجاب المعرى باشتغالهم بالأدب إلى جانب السياسة فعنده «التفرغ إلى عمل واحد كان ما كان سبيل إلى العنت وضيق النظر وقلة السماحة، ومن تعددت مطالبه كان خليقًا أن يتسع أفقه للخصومة والخلاف، وأن يعود وهو أدنى إلى المودة والانصاف».
ويكشف لنا التلميذ عن مذهب الشيخ الذى يختلف عن مذاهب العصريين، فهو عقليًّا تارة، وتارة يميل إلى الفطرة والبداهة قبل التفكير، وتارة ثالثة لا هذا ولا ذاك، فيلخص رأيه عندما يرى الحيرة على تلميذه، فيشرح موضحًا: «فاعلم إذن إننا نتبع العقل فيما هو للعقل من رأى وتفكير وتجربة ومشاهدة، وإننا نتبع الفطرة فيما هو للفطرة من ذوق وطمأنينة وتسليم، وإننا لا نطلب من الفطرة أن تصبح عقلاً، ولا من العقل أن يصبح فطرة، وإنما نستشير كليهما حيث يشير»، وبالمثل يعرض لمذهبه فهو لا من الجبريين ولا من القدريين حسب قوله:
 وبصير الأقوام مثلى أعمى 
  فهلموا فى حندس نتصادم
ومن عالم السياسة إلى عالم الأدب، يأخذ التلميذ أستاذه فى سياحة مهولة، يعرفه بدانتى الذى عقد الكثيرون بينهما أوجه مشابهة ومقاربة، فيعرض له التلميذ ما تردّد من زعم بعض الأدباء بأنه تلميذ له وقد اقتبس منه روايته المقدسة (أى الكوميديا الإلهية)، ثم يسرد له جوانبًا من سيرة خليفة دانتى الشاعر جبريل دنزيو، الذى وفاته المنية والمعرى فى رحلته إلى بلاد الإنجليز، وأوجه الاتفاق والاختلاف بينه وبين أستاذه، فالأستاذ كان عذريًّا فى هواه متدينًا فى شعره صارمًا فى حياته «أما التلميذ فهو على عكس هذا “مذهبه فى الحبّ إشباع الشهوات واستنفاد متعة الحياة، ومذهبه فى الدين مذهب أهل العصر من الشّك والإباحة، وسجيته أقرب إلى العربدة منها إلى الصّرامة، وإلى الضحك الثائر اقرب منها إلى العبوس الرصين».
يبدو المعرى فى رحلته تارة مندهشًا وطورًا معجبًا بما يشاهد ويرى، وتارة ثالثة نراه يتخذها كمراجعة لأقواله وآرائه، فينتقد موقفه إزاء قضايا كان له فيها موقف رجعيّ، مثل موقفه من البنات، وما إن يذهب إلى بلاد الأندلس حتى يكاد أن يتغيّر رأيه بعدما رأى الفتيات، فأعجبه قيامهن بأدوار قصرها من قبل على الذكور، فيراهن «مدافعات يوم حرب، ومتغشمات فى غارة» وهنا نرى أن المعرى يستجيب لطبيعة العصر، وبدأت نفسه تنازعه فى الإقلاع عن رأيه السابق، وكاد أن يفعل، لكن نفسه العربيّة تأبى عليه أن يلين أو يرجع، فيجفل ويعود إلى طبيعته، ويعتبر أن سبب الآفة لا أن النساء أصبحن كالرجال، وإنما للعكس، أى أن الرجال أصبحوا كالنساء، - ومن ثم – «فلا حرج إذن من المساواة».

 

 


لكن المهم هو ليس عدوله عن رأيه، وإنما رحابة صدره للاعتراف بما جدّ واستحدث حتى ولو لم يأخذ به، كما نراه يمقت الحرب، ويستنكر الإصرار على التمسُّك بها فى كلّ وقت وزمان، فهى عنده «استنفذت الرجال، وجارت على النساء»
يحدث تبادل للأدوار بين الأستاذ والتلميذ فيحلّ التلميذ محلّ الأستاذ، فيشرح له ما غفل عنه، ويستفيض فى إخباره بما لا علم له من عند الفلاسفة المحدثين وآرائهم فى المرأة وغيرها، والأستاذ لا يقعد فى موقع التلميذ الملول، وإنما يأخذ ويستنبط ويقارن ما طرحه التلميذ بما يعرفه سابقًا.
كما نراه يعترف بعدم معرفته وإطلاعه بما كتب أفلاطون بشأن المرأة، عندما يذكره التلميذ المصاحب له فى الرحلة،يستسلم لشغف المعرفة ويطلبمنه أن يطلعه على ما قال أفلاطون، فترجم له التلميذ كلمة من قوانين أفلاطون يقول فيها: «على البنات أن يتعلمّن صناعة الحرب بأجمعها، وعلى النساء أن يعالجن الرياضة ونظام الجيوش واستخدام السلاح ليستطعن – بين أسباب شتى – أن يحرسن ديارهن وأطفالهن، حين يندب الرجال للحروب فى أرض بعيدة... إلخ»
وبعد هذه الرحلة والسياحة فى بلاد الشمال، ينتقلان إلى الغرب حيث أمريكا وهناك يحكى له التلاميذ عن أعجايب السياسة وكيف حاكمها استطاع أن يعالح العطب الذى كان فيها مثلما عالج عطب نفسه، ونهض بها، وما إن شاهدا (الأستاذ والتلميذ) عيد استقلالها ومظاهر البذخ فى الاحتفال، حتى كان رأى التلميذ قاسيًّا فهى عنده أمة تحب المال ولا تعمل إلا للمال ولكن الأستاذ لم يجارِ التلميذ فيما قال. وبعدها ارتحلا إلى أرض الصين وشهدا ما حاق بها من فتن وصراعات والمجاعة، إلا أنها مع ما تشهده من أحداث وأهوال، كانت بالنسبة له أقرب إلى راحة البال والإقبال على شهود الأحوال.
ونطالع شيئًا من المقارنة بين طبائع البلاد التى زارها، فيقارن بين أرض نيبون وأرض الصين، وكذلك يقارن بين زهد الهند وزهد نجد، فالأول زهد السّآمة من الوفرة والإغراق والابتذال، أما زهد الثانى فهو زهد الأنفة فى وجه الضنك والضررورة.
ولكن التلميذ يستفز الأستاذ بالأسئلة حول هذه الاختراعات المدهشة كالكهرباء وآلات البخار والسفن وغيرها، بعدما لم بجد أثرًا للدهشة على الأستاذ، لنكتشف أن الأستاذ لا يرى فى هذه الاختراعات عجبًا، ولا يراها فتحًا، فعنده فتحًا لو أنه سخر الآلات ثم أطلق نفسه من العقال، أو لو أنه ملك نفسه يوم ملك آلات الأرض والهواء، ولكنه سخر الآلات المصنوعة ليصبح شبيهًا بها، ثم ازداد فى التسخير ليزداد فى الشبه – فالخلاصة – أنه أسير ما صنع، ورهين ما ابتدع».
حالة عدم الرضى على ما رأى تشى بأن الأستاذ يميل إلى القديم، فالقدماء مالوا إلى الحيوان، فى حين إنسان العصر الحديث مال إلى الجماد، وحسب قوله “كل قريب إليّ ما يروّض».

 

 

 

 


من الأشياء التى أُخذت على العقاد فى الكِتاب، أنّه أظهر شخصيته لا شخصية المعري، وأبدى رأيه هو لا رأى شيخه فى الحياة، أى أن العقاد تخفّى فى قناع المعري، وأجرى ما أراد قوله على لسانه، فأبدى استياءه من الشيوعيّة، فى مقابل ميله الشّديد للاشتراكيّة وأظهر إعجابه بالإنجليز، فالرأى الذى خالف فيه المعرى التلميذ حول البرلمان، هو رأى العقاد الذى يقطع بأن “نوع الحكم لا يهم ما دام المحكمون على قسط وافر من الحاسّة السياسيّة عارفين بحقوقهم مقتدرين على أخذ الولاة باحترامها” فعنده أن المبدأ القائل بأنّ الحكم من الأمة للأمة هو أصلح المبادئ، فهو المبدأ الذى يعطى المحكومين فرصة بعد فرصة لاختيار الأفضل من السّاسة الأكفاء من القادة والولاة ورؤساء الدواوين.
وبالمثل الرأى الذى يقطعه فى المرأة لا يختلف عن رأى المعرى وشوبنهاور، فهو كاره للمرأة ولا يثق فيما تقوم به من أفعال،ففى المرأة تتجسّد شهوة الحياة والجنس، فكما يقول:”إن المرأة خلقت رسول الجسد وحارس النسل، فهى تعرف كيف تؤدى رسالتها وتقوم بحراستها».
فى الأخير، أودُّ التنويه بأن مؤسسة هنداوى أعادت طباعة الكتاب من جديد عام 2014، بتغيير طفيف فى العنوان، إلا أنه أخلّ بفكرة العقاد ذاتها، وهى الفكرة التى عنّفه عليها الدكتور طه حسين فى مقالة له عن الكتاب نشرها فى مجلة الثقافة، ثم ضمها إلى كتابه «فصول فى النقد والأدب» تحت عنوان «مع أدبائنا المعاصرين» فالمؤسسة نشرته بعنوان «أبو العلاء» وهو ما يُفهم منه على أنه سيرة غيرية للشاعر الكبير، أو تناوُّل لحياته من خلال أشعاره، على نحو ما فعل أحمد تيمور باشا فى كتابه «أبو العلاء المعري» (1940)، حيث درس نسبه وأصله وشعره، ومعتقده، فى حين أن الفكرة الأساسيّة التى اعتمدها العقاد لكتابه وهى - ما لم تَرُقْ لطه حسين وعاب عليه الإفراط فى الخيال- هى أخذ المعرى فى رحلة متخيّلة من زمانه إلى زمان الكاتب، ومعرفة رؤيته بالمستجدات التى حلّت، ومقارنتها بما كان الوضع عليه قديمًا.

أقرا ايضا | إنفوجراف| في ذكرى وفاة عميد الأدب العربي.. معلومات لا تعرفها عن طه حسين
 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة