ابوبا مات الآن.. أرجوكم ادعوا له. هذه الجملة كتبها أحد الأصدقاء في صفحته علي «الفيسبوك». جملة غريبة فعلا استوقفتني كما يستوقفني الكثير مما أقرؤه أو أطالعه علي ذلك الموقع الشهير.
تخيلت المشهد للحظة فارتجفت : أبي يرقد أمامي بعدما أسلم الروح. مشاعر الحزن العميق والأسي الشديد تداهمني. أمي وأخواتي يبكون بحرقة، تمزقهم مشاعر الفراق.وفجأة وسط هذا المشهد المهيب،ابحث عن موبايلي، أفتحه بإهتمام لأكتب تلك الجملة العجيبة : أبويا مات الآن.. أرجوكم ادعوا له.
هل تاهت هيبة الموت واختفي جلال لحظة الفراق إلي هذه الدرجة؟ هل طغت رغبة العيش في ذلك العالم المصطنع علي ما عداها حتي لو كان الإنفصال والجور علي فرصتنا الأخيرة للانفراد بحبيب فارق الحياة لتوه ؟هل هان علينا التفريط في تلك الثواني الغالية التي نودعه فيها إلي الأبد ؟ أإلي هذا الحد انتزعت جاذبية العالم الافتراضي إحساسنا الطبيعي كبشر بالعالم الواقعي ؟
لا يعني ذلك أنني معادية للفيسبوك،أو ضد التكنولوجيا والتطور، فالعكس هو الصحيح.لدي حساب علي الفيسبوك وكذلك تويتر وعندي بريد إلكتروني (Email). استخدم التكنولوجيا في عملي الصحفي والأدبي.وأباشر من خلاله الإتصالات والإيميلات الخاصة بجمعيتي «رعاية أطفال السجينات».إذن أنا لست عدوة للتكنولوجيا بل صديقة لها، و مستفيدة منها، وهذا هو بيت القصيد. كيف نضحك علي التكنولوجيا،و لا ندعها تضحك علينا ؟
المشكلة صعبة، أعرف ذلك فمسألة الإتاحة الدائمة لشئ مسل وجذاب تسهل إدمانه وتصعب الشفاء منه. والشركات التي تعمل في مجال التكنولوجيا علي مستوي العالم تدرك ذلك جيدا، وتعمل بكل جهدها لتجعل تطبيقاتها وبرامجها جزءا من حياتنا، كما تتفنن في اكتساح أوقاتنا بكل ما هو مثير ومبهر. والهدف هو «عش حياتك علي النت» كما يقول إعلان إحدي شركات المحمول الشهيرة.
الشئ الذي يشغلني ويسلمني إلي حالة من الحيرة والقلق هو تأثير منتجات التكنولوجيا - العديدة والغزيرة والمتدفقة علينا ليلا ونهارا دون توقف - علي كوننا بشر نحس.. نحب. نغضب.. نحزن. نتأمل.. نبدع.
الكلام والصور واللينكات التي يضعها الناس علي الفيسبوك وغيرها من مواقع التواصل الإجتماعي تحتاج إلي دراسات إجتماعية ونفسية معمقة في تحليل المضمون.دراسات تحلل فكر وتوجهات شريحة كبيرة جدا من مجتمعنا تشمل معظم المراحل العمرية تقريبا. فالأطفال بداية من خمس سنوات والكبار حتي السبعين وأحيانا الثمانين موجودون علي الفيسبوك،يعيشون جزءا كبيرا من حيواتهم داخل هذا العالم الإفتراضي.إذا تأملت ما يضعه هؤلاء علي حساباتهم الشخصية في الفيسبوك سوف تفاجأ بأشياء وتصدمك حقائق وتضحكك مفارقات لا تخطر لك علي بال.