إعادة تدوير المخلفات
منتجات إبداعية من مخلفات «عزبة الزبالين».. الأيدى الناعمة تحول القبح إلى جمال
السبت، 13 نوفمبر 2021 - 10:54 ص
علا نافع
رغم حياتهن بين أكوام القمامة واستنشاقهن هواءها الملوث، فإنهن خلقن منها إبداعات وابتكارات أوصلتهن إلى العالمية وأصبحن حديث الصحف الأمريكية والكندية.. سيدات "جمعية حماية البيئة" فى عزبة الزبالين بمنطقة المقطم نجحن فى تحويل القبح إلى جمال، حيث صنعن أعمالاً فنية من الورق المعاد تدويره وأضفن عليه لمساتهن الرائعة من رسوم وألوان زاهية، وحولن بواقى قماش المصانع إلى سجاجيد ومفارش يدوية يتهافت عليها زوار الجمعية.
ولم تكتفِ هؤلاء السيدات بذلك، بل حولن علب المياه الغازية (الكانز) وأغطيتها إلى حقائب يدوية ولوحات حائط وأحزمة ملابس، وصلت منتجاتهن إلى العالمية، حيث تتلقفها دول أمريكا وكندا وهولندا، واحتفوا بها فى صحفهم وقنواتهم التلفزيونية.
أكثر من 200 سيدة وفتاة من العزبة والأحياء المجاورة يعملن فى أنشطة الجمعية تجمعهن راية المحبة والإخلاص فى العمل، خاصة أن أغلبهن يعول أُسرة بعد وفاة الزوج أو الطلاق.. ومنذ تأسيس الجمعية فى ثمانينيات القرن الماضى اهتمت القائمات عليها بمحو أمية العاملات وجعلن ذلك شرط الانضمام إلى الجمعية، وبالفعل انخفضت نسبة الأمية فى صفوف سيدات العزبة وتحولت ابتكاراتهن إلى مشروعات اقتصادية، كما افتتحت الجمعية مركزاً تعليمياً بأسعار مخفضة لأطفال العزبة ودار حضانة ممتد عملها حتى انتهاء ساعات عمل العاملات بالجمعية.
"آخرساعة" زارت الجمعية ورصدت عن قرب المنتجات الجمالية المصنوعة من القمامة، وكيف تقوم العاملات بتحويل أكوام الزبالة إلى أشغال يدوية تحت إشراف العديد من خبراء وحماة البيئة وعلى رأسهن الدكتورة ليلى إسكندر وزيرة البيئة السابقة، ليتم وضعها فى معارض الجمعية بسوق الفسطاط ومدينة نصر فضلاً عن معرضى "تراثنا" و"ديارنا".
تلال من القمامة وروائح مختلطة تزكم الأنوف ما بين بقايا الطعام وزجاجات البلاستيك العطنة.. أجولة كبيرة تضم حصيلة ما جمعه عمال النظافة والنباشون طوال اليوم.. تنتشر بين الشوارع الضيقة لتنبئ بهوية المكان.. إنها "عزبة الزبالين" أو "حى الزرايب"، أو شارع الدير، وجميعها أسماء اختلف عليها زائرو المنطقة، وقد سميت هكذا لأن كل سكانها يعملون فى جمع وتدوير القمامة، فمنذ نعومة أظفارهم يخرجون مع آبائهم أو أمهاتهم لجمعها فهى وحدها مصدر رزقهم.
جمعية حماية البيئة
ووسط تلك الأكوام يقف مقر جمعية حماية البيئة عالياً بلافتته الخضراء الكبرى كأنها تدعو السيدات للدخول والانضمام لها، وعلى مدخلها يقف عم أبانوب كأنه حارس الجنة يوزع ابتساماته البشوشة على الزوار والعمال، يرتبط بصداقة قوية مع الأطفال الذين يأتون للمركز التعليمى بالجمعية أو هؤلاء من أطفال الروضة، يلقى على أمهاتهن التحيات ففى الحى الجميع أسرة كبيرة واحدة، تتصدر اللوحة التذكارية لإحياء ذكرى الدكتورة مارى أسعد صاحبة فكرة إنشاء الجمعية بوابة مركز الأطفال لعلهم يتذكرونها بالدعاء والرحمة بعد أن نجحت فى تغيير أحوال عزبتهم الصغيرة وأوصلتها للعالمية.
يحد الجمعية من اليمين دير الأنبا سمعان، الذى يعد تحفة فنية منحوتة فى قلب جبل المقطم، ما بين البوابة الرئيسية ومبنى الورق مسافة كبيرة تشعر عند قطعها كأنك تتسلق جبلاً عالياً، لكنك لن تشعر بذلك فابتسامات العاملات تحيط بك من كل الجوانب، وفور دخولك تصطدم قدماك بأكوام من الورق والزجاجات البلاستيكية وأغطية "الكانز" موضوعة بعناية تمهيداً لفرزها حسب اللون والحجم.
إبداعات الورق
المبنى يضم طابقين مقسمين لأكثر من غرفة لتدوير الورق من خلال ماكينة كبيرة تعمل على فرم الورق الأبيض وخلطه بالماء تمهيداً لتحويله لعجينة ذائبة، تقف عليها فتاتان تتناوبان على العملية التى لا تستغرق سوى دقائق معدودة قبل وضع العجينة فى قوالب مختلفة.
تقول مارى المشهورة بـ"أم بولس": تعتمد عملية تدوير الورق على الورق الأبيض الذى يأتى إلينا على شكل تبرعات من المدارس والجامعات ويتم فصل ورق المجلات والصحف عن ورق الكشاكيل والكراريس، إذ يستخدم الورق الملون فى عمل منمنمات جمالية يتم تزيين الحقائب بها أو صنع أكسسورات يدوية من خلال تقطيعها كمثلثات ولفها بطريقة محددة لتعطيها الصلابة، مشيرة إلى أن العملية بسيطة للغاية ولا تحتاج سوى التدريب عليها.
وعن الورق الأبيض تقول: يتم استخدامه فى عمل الكروت البيضاء وعلب الهدايا وقمنا أخيراً بإدخال أوراق البصل والورد لإضفاء ألوان مميزة على الكارت وشكل مختلف ونقوم بتقطيع الورق الأبيض بشكل متساو ثم وضعه فى ماكينة الفرم وخلطه بالمياه ليصبح عجينة تنقل بعد ذلك إلى ألواح خشبية يتم صب العجين بداخلها ووضعها فى الهواء الطلق يوما على الأقل ليصبح لوحا كاملا يدخل بعد ذلك فى استخدامات مختلفة، مؤكدة أن أسعار المنتجات مختلفة ولا تزيد على 50 جنيهاً.
حقائب ولوحات
وعلى مقربة من مارى تجلس ميرى حيث تعمل فى فصل أغطية علب "الكانز" والاسبريسو بحسب لونها كى تدخل فى صناعة الحقائب اليدوية وأحزمة الملابس، ولا تكف ميرى عن مداعبة زميلاتها وإطلاق القفشات الخفيفة، فذاك ما يهون عليهن العمل والحياة ككل بحسب كلامها، تمسك قلمها الرصاص وتبدأ فى خط ما تخيلته من شكل الحقيبة على الورق تمهيدا لتنفيذها، فالجمعية تحفزهن على الابتكار والتخيل بحب ودعم.
تقول ميرى: انضممت للجمعية قبل 15 سنة لمحو أميتى وتعلم حرفة أكسب منها قوت يومى، ومنذ اليوم الأول فيها عشقت عملى وزميلاتى والخبيرات اللاتى كن يحرصن على تدريبنا من آن لآخر ومنهن الدكتورة ليلى إسكندر وزيرة البيئة السابقة، وبدأت فى رسم أشكال تخيلية لحقائب اليد وتنفيذها وسط تحفيز كل الموجودين وقد غمرتنى السعادة بعدما عرفت أن هذه المنتجات يتم تصديرها لأمريكا وأوروبا وهناك يتسابقون على شرائها.
رغم عدد ساعات العمل الطويلة بالجمعية لا يساورها القلق عن طفليها (جورج وسعيد) فهما يحرصان على الانضمام لمركز الأطفال التعليمى بالجمعية لمذاكرة دروسهما بتشجيع من ميرى التى تحلم باستكمالهما تعليمهما.
قماش متعدد الأغراض
وفى الطابق الثانى من المبنى توجد غرفة السجاد والنول اليدوى، والتى تحتضن أكثر من نول، وتتناثر قصاصات القماش المختلفة ألوانها على الأرض، وهناك لوحات فنية مرسومة بعناية موضوعة أمام النول كى يتم تنفيذها، وفى مواجهة النول يقف سيد أحد المدربين الذين قدموا للجمعية لتدريب الفتيات على نمط جديد من السجاد بدلا من الشكل التقليدى.
تستمع إليه نعمة باهتمام وتركيز ولا تكف عن توجيه سؤال إليه من آن لآخر، فقد شارفت على إنهاء السجادة التى تغزلها منذ يومين وترغب فى بدء العمل على واحدة أخرى.
تقول نعمة: أتيت إلى الجمعية عندما كنت فى الثالثة عشرة من عمرى بهدف محو أميتى، فأغلبنا فى العزبة يجهل القراءة والكتابة أو متسرب من التعليم لضيق الأحوال المادية وبالفعل نجحت فى ذلك وتعلمت غزل السجاد من بقايا قماش المصانع خلال ثلاثة أشهر وأصبحت أغزل سجاجيد مختلفة الأحجام فى مدة قصيرة ولم أكتفِ بذلك فصنعت ستائر وحقائب يد ومفارش ذات نقوش زاهية.
وتضيف: فى بعض الأوقات كنت أعمل من المنزل، فالجمعية تسلمنا النول والقماش وفى نهاية الشهر يتم محاسبتنا على كمية الإنتاج ليصبح هذا العمل مصدر رزقنا بدلا من البقاء بالمنزل دون فائدة.
أما الحاجة زينب إحدى المدربات فتقول: عانت منطقة منشية ناصر فى الثمانينيات من انعدام الخدمات الحيوية كالمدارس، مما جعل أكثر من ربع سكانها أميين لا يفقهون القراءة والكتابة خاصة منطقة الزرايب والأحياء المجاورة وعندما أنشئت الجمعية كان هدفها الأول محو أمية النساء والأطفال وقد انضممت لها ومحوت أميتى، إذ كان شرط العمل وقبض الراتب الشهرى هو كتابة اسمى كاملاً وقراءته.
وتتابع: كانت تأتى إلينا مشرفات وخبيرات فى مجال البيئة مثل الدكتورة ليلى إسكندر وغيرها، وكن يقمن بتدريبنا على مجال إعادة تدوير كافة الأغراض القديمة وبعد نجاح التجربة سافرت بعض عاملات الجمعية لأوروبا للتحدث عن نجاحهن فى مؤتمرات دولية، وهذا بالطبع خير دليل على كفاح المرأة وتحديها للصعاب.
معارض متعددة
يقول بخيت رزق المسئول الإعلامى للجمعية: أنشئت الجمعية كمنظمة غير حكومية فى 1984 بجهود من الدكتورة مارى أسعد والسيدة يسرية لوزة وكان الهدف الأول محو أمية السيدات وتقليل الزواج المبكر داخل العزبة والتى تعد من أفقر مناطق مصر وقد انضم إليها أكثر من ستين خبيراً فى مجالات الصحة والبيئة والتكنولوجيا ومؤخراً اتسع نشاطها ليضم مجالات التنمية الاجتماعية وتمويل المشروعات متناهية الصغر وباتت تحتضن أكثر من 300 عاملة وموظف، مشيراً إلى أن أغلب العاملات معيلات.
يتابع: نجحت الجمعية فى إعادة تدوير معظم الهالك من أوراق مجلات وصحف وزجاج مكسور فضلاً عن قماش المصانع والكرافتات القديمة، فصنعنا منها مفارش وأغطية ووسائد مريحة كذلك أغطية "الكانز" و"الاسبريسو"، وهذا جعلنا حديث الصحف العالمية، خاصة بعد أن أصبحنا نصدِّر لأوروبا وأمريكا وكندا.
وعن معارض المنتجات يقول: توجد معارضنا الدائمة فى سوق الفسطاط بمصر القديمة ومدينة نصر، ونحرص على التواجد فى معرضى "تراثنا" و"ديارنا" بخلاف معارضنا الدولية بأمريكا وكندا وهولندا، ومن المقرر عرضنا فى إنجلترا الأيام المقبلة.