الحـــــاجّة
الحـــــاجّة


الحـــــاجّة

أخبار الأدب

الأحد، 14 نوفمبر 2021 - 06:21 م

كتب - أحمد أبو درويش

منذ عملت ذاكرتى على تصوير مشاهد الحياة الأولى سجلت داخل عقلى صورة «الحاجّة»و«الحاجّة» هى ليست امرأة من البشر لكنها مجرد قدرة سمن!
يروون عندنا فى البيت حكاية الحاجة 

وهى حكاية شبيهة بحكايات التراث الشعبى يتناقلها الأبناء عن الآباء والذين بدورهم نقلوها أو شاهدوها عياناً فى حياة جدى. فالحاجة كانت قدرة السمن التى اشترتها إحدى عماتى من العتبة فى إحدى الروايات وفى رواية أخرى اشتراها جدى بنفسه فى إحدى المرات التى زار فيها العتبة بعد مرحلة خموله فى العشرية الأخيرة التى سبقت وفاته 

وذلك كى تصاحبه فى رحلة الحج ولهذا اكتسبت اسمها.
أنا لم أر جدّى وكنت المولود الأول بعد وفاته بشهور قليلة كنت أول فرحة العائلة بعد فجيعتها المزلزلة أو فى الحقيقة كنت الطفل المهمل الذى لم يجد من يفرح به كان الجميع كبر. جميع الأعمام تزوجوا والكل منشغل بحياته الشخصية حتى أبى وأمى كنت آخر فرحتهما التى أتت كخطأ غير مقصود نتج عنه آخر العنقود «دلوعة أمه».
أما عن جدى فكان تاجرًا يبيع المنتجات الغذائية 

ويبيع علف البهائم يكسب الكثير ويصرف الكثير ويشرب الكثير ويلبس الكثير ومع ذلك يمتلك الكثير يروون فى الحكايات التى تنضم لتراثنا العائلى أنه فى أيام الجمعة 

وفى أوقات خروجه عن البلدة تتحصل إحدى بنات أعمامى والتى أبناؤها من عمرى على جردل وضعت فيه ماء استحمامه لترميها فى الترعة فيعرف الغادى والرائح من أبناء المنطقة أن (الحاج مصطفى) سيغادر القرية أو يتجهز لصلاة الجمعة وذلك من رائحة المسك التى يفرط فى استخدامها، لم أكن سأصدق هذه الحكاية إلا حين سمعت لاحقة بها أنه يأخذ المسك
الخام ليطيب به رائحة العصا التى يتكئ عليها 

ويظل على حاله تلك قرابة الربع ساعة يأخذ من المسك ليدهن عصاه.
ذهبت «الحاجّة» إلى رحلة الحج مع جدى وعادت معه 

وكان من البديهى أن تنتقل «الحاجّة» لمطبخ أمى كون جدى وبعد خلافاته المتكررة والمعتادة مع جدتى قد ترك لها البيت واستقر فى بيت أبى والذى كان أوسط أبنائه لكنه الأول الذى استقل عنه وبنى بيتاً وحده لكن جدتى ومن باب «وراك وراك» حلت ببيتنا هى الأخرى فأصبح فى البيت غرفة لجدى وغرفة أخرى لجدتى 

وامتلأ البيت بالونس والحكايات وبعد رحيلهما امتلأ بمتعلقاتهما الشخصية والتى أصبحت تشكل ذكريات العائلة من صور فوتوغرافية وملابس ومتعلقات وعصى وكراسى متحركة وأسرة ودواليب 

وأصبحت هدفًا لكل زائرى البيت فهذا العم يريد سرير أبيه وهذه العمة تريد ملابس من رائحة أمها وعلى مرّ الزمان لم نتعامل مع الأمر على أنه عبء أبدًا بل منح البيت مزيدًا من الأصالة دونًا عن باقى بيوت الأعمام
كانت أمى لا تأخذ الأمر أبدًا على محمل من الفكاهة حين سألتها مندهشًا: «حاجة مين اللى اجيبهالك من المطبخ!»فترد: «قدرة السمنة يا مادا».
وللحاجّة شكل اسطوانى يتضاءل حجمه فى الأعلى عند فتحتها مصنوعة من المعدن فى لونه الرصاصى 

والذى لم يصدأ أبدا طيلة 20 عاماً رأيتها فيه. غطاؤها من المعدن ذاته تنفتح وتنغلق بالسحب والضغط. أما يدها فمعدنية على شكل دائرى أعلى القدرة 

ولها مسّاكة من الخشب
كانت أمى تخلط السمن البلدى الأصيل بسمنة المحلات ماركة «روابى»حتى لا يكون الأكل دسماً على معدة أبى لكنها تتفق مع أبى فى الرواية على أنهم قديمًا كانوا يأكلون بالسمن البلدى خالصًا دونما يدركهم تعب العصر الحديث بقولونه العصبى وآلام المعدة يحكون عن طبيخ جدتى - الشرهة فى الأكل - 

وكيف كان السمن يطفو كشربةٍ فوق حلة المحشى. يتمتم أبى: «الناس كان عندها صحة»
شاهدتنى أمى كثيرًا وأنا متلصص بداخل المطبخ أحضر «الحاجّة» 

وأخلع عنها الغطاء وأشم رائحة السمن القريبة من قلبى تضحك بصوت عالٍ لتكشف عن رؤيتها لى وتقول: «كنا بناكل السمنة البلدى فى العيش وكمان الزبدة الصفرا».
بعد الرحيل المفاجئ لأمى 

وقف أبى على جثمانها فى غرفتهما يبكى بكاءً مريراً لم أره يبكيه من قبل وحين انتهى أمر التكفين مسح دموعه وارتدى جلبابه وصمد كما يليق بالرجال فى أعرافنا 

ونزل للجموع أسفل المنزل ليتلقى العزاء وكأن فاجعة لم تهز قلبه 
أربع سنوات عشتها وحدى بعد موت أمى كانت فيها الحاجة ونيستى مع بضعة أشياء أخرى من متعلقات أمى أنظر إليها طويلاً. أميل عليها لأشم فيها رائحة يد أمى وأقول لها «تفتكرى أمى يا حاجّة!».

 (أكيد ربنا بيحبنى)

أنا صاحى مش أنا
بافتح للعصافير القفص ع الآخر
وللهدوم الدولاب
وللصور الألبوم
بافتح كمان الباب والشباك
وانُط بره البيت
بدون عد السلالم زى العادة
وبدون م ارمى السلام 
أعدى كنسمة هوا هربانة
كصوت عيل بيِحْبى وسط حرب م الكلام
مين حط لى غابة فى عينيا
مين رِكِبْ حُصانى الخشب فى الزحمة
وحبس الحواديت بلا تهمة
جايز عشان بتعيش ورجولها واصلة لبُكرة
جايز عشان بتسيب علامة فى الروح
جايز عشان ليها صدى صوت
وبترسِم ع الوشوش دهشة 
الحياة بلا وقت
وطَلِّة الخوف ع القلب
النظرة المجرمة
لأب طالع ع المعاش
بيبص ع السنين من أعلى حتة ف روحه
تفاصيل التفاصيل بتمر طابور
كأنه بيتفرج على فيلم وكان ناسى يعيش
كان راكب فى الأتوبيس
ساكن فى البيت أبو بلكونة حديد
ست الحُسن محبوسة فى برواز ع الحيط
والوردات فى الصالة لسه يا دوب بتفتَّح    
طول اليوم الوحدة بتتمشى
بترقص على نبضات قلبه
فى أوضة النوم بتأيِّل
فى المطبخ بِتْقَلّي
ع الكنبة القديمة بتسمع آخر الأخبار
وتشاركه فى فنجان القهوة
أكيد ربنا بيحبني.. 
سبع سموات من فوقي
وشموس وعرايس جنه
كنزى المدفون فى بطن الأرض
وسرى الصُغير المعروف للجميع 
شكلى وانا عيل طيب
وغُنايا فى الليلة الكبيرة 
الضحكة اللى بتلم الحزن وتسوقه لمصيره
المنديل الأبيض 
اللى دايماً بشاور بيه فى كل طريق
والغياب وسط اللعبة فى الشارع الطويل
بعد الصبر.. 
صيد اليوم كُله يرجع البحر
عشان كده هبقى أحلى واحد يعجِّز
وهو لِسَّه بيقول يا حياة.

 

أقرا ايضا | بعد مرور ٤٣ عامًا على الزفاف.. عريس يطالب بصور زفافه من الاستوديو 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة