وجوه القمر الأربعة
وجوه القمر الأربعة


وجوه القمر الأربعة

أخبار الأدب

الأحد، 14 نوفمبر 2021 - 07:10 م

كتب  - أوادى حفيظ
 

في قلب (المحيط الهندي) وعلى الجهة الجنوبيّة من خط الإستواء تقع جزر القمر شرقي خط غرينتش يسودها مناخ حرجي   وتغطيها المسطحات الاستوائية من أشجارٍ مثمرةٍ ونباتات نادرة فوّاحة وقمريون يغمسون أقدامهم في مياه المحيط..
كل شيء هنا له رائحة المحيط

1

كثمرة مانجو يانعة فوق شجرة مثمرة نضجَ قرارُ جعفر بأن يودِّع ولاية "صُور" على الساحل الشرقي لسلطنة عمان بعد أن قضى في ربوعها سنين صباه وبعضًا من سنوات شبابه 

وحتى أصبح بطلًا في قيادة السفن الشراعية ليعود إلى مدينة ميلاده "ميسامهولي" شمالي جزر القمر بعد أن بلغه نبأُ موت والده إثر إصابة قاتلة من سمكة "السيلاكانت" النادرة رغم أنه كان بحارًا ماهرًا وصيادًا قديمًا من أولئك الذين يرتبط مصدرُ رزقهم بالبحر المحيط، وتقودهم موجاته حتى تلامس أقدامهم الأرض القمرية.

انتقل جعفر فوق فرع من فروع الزمن ليعيش مع جدته "فطمة" أم والدته وشقيقته الكُبرى "موناعرفة" التي اختارت البقاء مع جدتها بعد وفاة الأم قبل أن تبلغ سن المراهقة وحتى أصبحت صاحبة دار العائلة بعد "زواجها الكبير"

عاد إلى داره الأولى ليكتنفه ظلّ العائلة الوارف الذي حُرِم منه لسنوات عديدة خلال فترة إقامته في صور بحثًا عن حياة جديدة لا علاقة لها بحياة الجزر وتقاليده وكان رفضه العودة وغيابه المتواصل سببًا في قطيعة بينه وبين أبيه الذي أراد دومًا أن يعود ابنه إلى أحضان عائلته ليسترد طبيعته القمرية الأصيلة 

ويتخذ مكانه كرجل ذي شأن داخل العائلة الكبيرة.
وما إن عاد جعفر إلى دار عائلته وتلاقت أنفاسه بجدران منزله حتى امتد حضوره إلى أركان الدار وأفرادها وتبدلت أحوال الجميع حتى إن نبرة نساء الدار قد تغيّرت تقديرًا لوجوده النبرة الصوتية التي تعتمد على نغمات السلم الموسيقي القمرية البدائية المتآلفةالتي لا تقرأ ولا تكتب تلك التي تُرقّي عواطف الإنسان القمري  

وتُنمّي إحساسه سواء بالبهجة والتفاؤل أو الجد والكآبة بنغمات بدائية بلا أُسس لحنيّة تصاحب إيقاعها بأوزان الشعر وقوافيه نبرة صوتية فيها ما يُشبه رقصَ الحروف فوق شفاه الناطقين. تنفتح الحناجرُ على مساحاتٍ صوتية متنوعة ومتماوجة مثل هبوب الرياح أو إيقاع آلة نفخ موسيقية ذات دبيب تشكّله حركة الحروف والكلمات والجمل أو كالقرع على قطعة من خشب البامبو.

ظلّ جعفر، يومًا بعد يوم، يتفقّد المساحات الخالية والبيوت القديمة حول دار كوكو  يسترجع ذكريات طفولته الأولى حيث ألعاب الصبا ومغامراته بين أقرانه ومحاكاته لأصوات الطيور واصطياد الثمار الساقطة من الأغصان يستعيد الروائح القديمة والأصوات المنزوية في كل ركن قديم يتشوّق لأن تتجسّد ذكريات الطفولة من جديد كما كانت مشرقة مفعمة بالعُنفوان.

اعتادت أختُه "موناعرفة" أن تجلس إلى جواره لتقصّ على مسامعه أخبار مدينتهم "ميسامهولي" وكيف تغيرت أوجه الحياة فيها بعد سفره 

وحين شرعت تحكي له عن خالهما الأصغر الذي تزوج "الزواج الكبير" كان هو شارد الذهن يفكّر في سرِّ قوة سمكة السيلاكنت التي تتنفّس بذنبها ذي الفصوص الثلاثة

ولونها الأزرق ذي البقع البيضاء الذي ينعكس عليه ضوء القمر فيضيء كقطعة بلّور تحت الماء! 
قالت موناعرفة إن الخال الأصغر سار على التقاليد القمرية فتزوج "الزواج الكبير" في سنٍّ متأخّرة بعد نحو شهرٍ من رجوعه من "تنانريفوا" في جزيرة مدغشقر فبدا أنه يحفظ تقاليد الزواج الكبير كأنه لم يغادر الجزيرة يومًا لذا ارتقى مقامَ الضيفِ  في بيت أنسابه، وصارتْ له مكانة وحظوة لديهم، يلبون له ما تشتهي نفسه في سعادة 

ورضا وصار -أخيرًا- رجلًا ذا شأنٍ بعدما أدرك المعنى والغاية من العادات بفضل عمله في المناطق البعيدة والتجارب التي خاضهاومعارفه المتنوعة بالجبال والبحار والأشجار الخضراء الظليلة المزهرة.

وظل جعفر يحاول أن يبدي اهتمامًا بما يسمع فقد كان يقظًا لمحاولات أخته المتواصلة أن تحبب إليه عاداتهم التي نسيها وتمرد عليها إذ كانت تعلم أن تمرده ونزوعه إلى خارج تخوم الجزر بعقله هو ما جعله في شقاق دائم بينه وبين أبيه. 
 

وبينما كانت تواصل حديثها بحماس كان الصمتُ يكتنفه، ويحتويه شروده، مستغرقًا في غيابه، كأنه يبحث عن لغة يستطيع من خلالها التواصل مع الطيور التي تحلق في الأفق فوق رأسه والنباتات التي تلقي بظلالها في كل مكان ويتأمّل المرتفعات الجبلية الشاهقة، المعشوشبة، كثيفة الخضرة، والعصافير التي تتنقّل بين أشجار المنغروف المتناثرة فوق الصخور البركانية داخل الغابة الاستوائية التي تتآلف مكوناتها في لوحة فنية متجانسة تثير في نفسه الأسئلة، وتراكمها إلى أسئلة أخرى لم تغادره منذ سنوات الطفولة!


وحين يخرج ليسير في الطرقات القديمة يتفرّس نساءَ الجزر بابتساماتهنّ وإشاراتهنّ ونظراتهنّ التي تعكس بهجتهنّ برجالهنّ الذين يكابدون مشاق الحياة ليصيروا ذوي شأن ومكانة. تلتقي عيناه بعيني جارته مونامينة عَرضًا فيغشاه عطرها الفوّاح 

ونظرتها اللامعة وضحكتها الصافية تدعوه إلى جنتها دون كلمة منها تظهر وتختفي كأنها حلم بعيد إلى أن يعود ذات يوم فيُفاجأ بوجودها في دارهم تتحدث مع موناعرفة حيث الصديقات المقربات فيبادلها التحية ويتحدث إليها فيقع في غرامها، وتصبح شمس نهاره وظله.
 
يتقاربان ويجد كلٌّ منهما في الآخر ضالة فؤاده. فحين تصمت الألسنةُ تتهامس القلوب بلغتها الملغزة. وسرعان ما أصبح كلٌّ منهما يقرأ من كتاب الآخر. سألته مونامينة بجرأة مراهقة بدائية:
 
 - ما سرّ صمتك الدائم؟
- إن ذُعر سمكة السيلا كانت يدفعها للاحتفاظ بالبيوض داخل جسدها حتى تنمو وتفقس قبل إخراجها مباشرة
لم تفهم مونامينة ما أراد قوله على وجه التحديد لكنها أدركت أنه مشغول الفكر بهذه السمكة دون أن تعرف السبب. قالت وكأنها تستذكر من كتاب استيعابها وإدراكها للأشياء والزمن:
 
-  هذه السلالة من الأسماك هي كائنات ليلية تختبئ في كهوف بعيدة تحت الماء نهارًا وتخرج من مكمنها ليلًا لتنطلق بحثًا عن غذائها من الأسماك الصغيرة والحبّار والأخطبوط ولديها طبقة كريستالية خلف قرنية العين التي تعكس الضوء تمامًا كالمرآة المصقولة ما يشكّل إضافة أخرى لقدراتها في مياه المحيط المعتدل.

2

في ظلال شجرة مانجو وارفة في حديقة منزل مونامينة، يجلسان تحت مظلة البهجة والطمأنينة، يقطفان من ثمر الشجرة صغير الحجم، ذي البذرة المكسوّة بلحم الثمر، بما تحويه من جنين نباتي يتم الاحتفاظ به ليُزْرع من جديد حين تتهيأ له ظروف النمو مرة أخرى، يتذوق جعفر ومونامينة من الثمر الشهي، دون خوف من التهاب تسبّبه حموضة الثمرة في بطانة جدار المعدة، تتلذذ مونامينة بمذاقه الطيب، وتقول:
-  هذه البذرة السمراءُ الطازجة تظل صالحة للزراعة، قبل أن تتحوّل إلى اللون الرماديّ عند تعرُّضها للبرودة، وعند زراعتها لا بدَّ من البحث عن منطقة خالية من تزاحم النباتات، كي لا تتسبب كثافة الأشجار في تظليل التربة ومنع الإضاءة اللازمة لحدوث الإزهار ونموّ الثمار، وكي لا تجف الأفرع الداخلية المظلّلة، فينخفض المحصولُ وتقلّ جودةُ الثمار.

وتضيف "مونامينة" بكثير من الاهتمام، كأنّها تلقي محاضرة متخصّصة بين مجموعة تلاميذ ينصتون جيدًا:
- يتكفّل المناخ  بريّ الأشجار بمياه الأمطار الاستوائية، بعد أن تتعهد الشمسُ بتجديد التربة وإعدادها، فتنبت الفسيلة شجيرة من الحبّةِ الخضراءِ التي تنتمي لفصيلة البطميّات، وتظل الشجرة تبني أوراقها عامًا بعد عام حتى تطرح ثمارها في العام الخامس، وبعد التلقيح والإخصاب، تنتج البذور بشكل طبيعي وتسقط الثمار الزائدة بعد نضجها، حين تنوء بحملها الأغصان الواهنة. ولا يملك القمريّون –حينئذ- إلا دعوة الله الجليل ألّا تتحوّل الشماريخ الزهرية إلى كتلة متزاحمة من الأزهار العقيمة التي لا تحمل ثمارًا.
 
اعتاد جعفر، منذ وقع في غرامها، أن ينصت لكل ما تقول، كان يتعرّف على الأشياء من خلالها، كانت تحكي بحميمية المنتمي إلى تراب الجزيرة، وحين تتحدث تدفع من يسمعها إلى الإنصات لما تقول.

شعر جعفر بـالنوّة  المبكّرة، فتحرّك نحو شجرة ليمون قريبة، وتناول ثمرة ناضجة وأزال قشرتها بأسنانه البيضاء بينما كان خياله تائهًا في الجبال الخضراء والبحار الزرقاء، يحاول أن يستكشف تيارات السطح المحيطية الأساسية، وتلك العلاقة بين العصارة التي تقطر من ثمرة الليمون وذلك الإحساس الداخلي التي يدفعه دفعًا حثيثًا نحو مونامينة والتفكير في
 "
الزواج الكبير".

تسأله مونامينة عن سرِّ حبّه لثمار الليمون، فيقول بحنين جارف:
- كنتُ في السابعة من عمري طفلًا نحيلًا يقف أمام شجرة ليمون في محاولة لاسترجاع كُرة صغيرة علقت بين الفروع المتشابكة كرةٌ مصنوعة يدويًّا من ورقة شجر "جوز الهند" ذات ملمس مُغرٍ ورائحة تتوغل في مسرى الروح تتغير بمرور الزمن حاولتُ تخليص الكرة من بين الفروع 

ولم أقنط من تكرار المحاولة حتى نجحت في استرجاعها وهنالك رأيت ليمونةً صفراءَ عالقة في طرف فرع خفي على ارتفاع يمكن أن تطاله يدي. تناولتُها 

وشرعتُ بفرك قشرتها طلوعًا ونزولًا على باطن اليد، حتى ظهر المِلحُ الخَشنُ الذي يشبه حبيبات مستحضرات التقشيرضربتِ الشمسُ عيني فمسحتُ عليها بكفّي الذي يحمل رحيق القشرة فتفاعل الحامض الذي يحوي زيتًا فعّالًا فانسالت الدموع من عيني حارقة ملتهبة. سرعان ما احتوتني الجدّةُ بين ذراعيها. فصرختُ بغضب طفولي: "ليمونة وحشة". احتضنتني جدتي مثل ليمونة تقي من حدّة الحساسية 

وقالت: "هذه نبتةٌ ذات ثمرة بيضاوية حامضة المذاق تنتمي إلى مجموعة حمضيات الفصيلة "السذابية"  وتحتوي على مطهّر رائع ثم سألتني: تتذكّر كيف قامت الليمونة بتنظيف اليدين بعد تناول السمك؟ تلعثمتُ وقلت: "أحبُّ الليمون الأخضر لا الأصفر؛ فقالت إنه الليمون الذي يستخدمونه في حالات الحُمّى وارتفاع الحرارة وتصحيح التوازن الهرموني وزيادة إدرار البول ومقاومة السموم، وطرد الديدان والغازات، والعفونة المعوية". 

وحين تسارعت ضربات قلبي وشعرتُ بتقلصات أسقتني عصير اللّيمون فتجرعته ونعستُ على سرير الأحبال ودائمًا ما كان هذا السرير يذكّرها بفضل ثمار الليمون، الذي استخدموه في ما مضى كدواءٍ من أوبئة الكوليرا والتيفوئيد في طفولتها. نقلتني من سرير الأحبال إلى داخل غرفة بها سرير ذو ناموسية بيضاء

ودعكتْ ليمونة فوق أثر الحبل الذي انطبع فوق ذراعي اليسرى أثناء نومي وترك علامة دامية انعكست صورتُها في حلمي فاستيقظت مفزوعًا وأنا أشعر بالمغص والرغبة في القيء، فأسقتني عصير ليمون مرة أخرى، لكي يطهّر الأمعاء ويمنع الإسهال". هكذا انطلقتُ بحثًا عن كُرتي اليدوية حول شجرة الليمون، 

وانشغلتُ بليمونةٍ صفراءَ تحوي لبًّا أكثرَ وأكبرَ، وكمّية عصيرٍ كبيرة جعلتها سهلة التقشير. تسلّمت الليمونة بالتقبيل والعضعضة، كطفل رضيع يستكشفُ لعبة غامضة. لكن الليمونة خلخلت سنًّا لبنيًّا، فسقط سريعًا دون أعراض ألم الأسنان المعتادة.

قالت مونامينة بنبرة ارتياح واضحة:
- الليمون (...)  هو أحد المهدّئات الطبيعية التي يمكن وضعها فوق الجروح لوقف النزيف فهي تُعجّل التئامها وتقيها من التلوث 

وتساعدها على الشفاء تغسل مواضعها وتطهرها وتنظّف مجاريها.  حين يُكتشف نقص في أحد إنزيمات الطفل البالغ يساعده الليمون على التكيّف. علّمنا الكبارُ أنّ كلّ أنواع الليمون تمنع الإصابة بسرطان المريء الذي يتسبب فيه شرب الكحول. 

 

ومن ثم، حرصوا دائمًا على الإقامة إلى جوار أشجار الليمون التي تتعدّد أنواعُهاوتنمو في درجات الحرارة المتفاوتة كل حسب نوعه، منها الموسمي، ومنها ما يطرح ثماره على مدار العام، الليمون هو الثمرة التي تشارك القمريين أفراحهم وأتراحهم، ودائمًا حاضرة في كل مناسباتهم.

ضحك جعفر ضحكة طفولية بريئة، قال:
 -في ولاية "صور" تعلّمتُ أنّ الضيافة هي متعةٌ استثنائية لكنها مؤقتةٌ واليوم علمتُ أنّها كحلم اصطياد سمكة "السيلاكانت" الكبيرة في المنام، تتفاوت التفسيرات من ضيافة لأخرى، مثل تفاوت تأثير درجة الحرارة على أشجار الليمون في أراضي المحيط.

تجيبه مونامينة بفطرة الإنسان القمري البدائي: 
 -أنا بنتُ العادات والتقاليد التي تحملها صدور النساء القمريات وعقولهن، وينقلنها للأبناء والأحفاد جيلًا بعد جيل، فحين تفتح "ست الدار"  

وهي تستتر خلف ناموسية سريرها الشفافة، "مرسوم السيرة الشفهية للعادات التي أجمع عليها القمريون"  منذ أجيال فإنها تروي تاريخًا مكنوزًا، وتعيد بعثه في من حولها من فتيات ينتظرن سماعها بشغف وبهجة، ويتركن لخيالهن العنان 
ويتوحدن مع حكاياتها وبهجة القمر الساطع وسحره. إنها الحكايات التي تلوّن أمامهن الطرق المتشابهة، فتساعدهن على الاختيار بقلب تنيره أضواء القمر المتسللة في غير ليالي الخسوف. إنهن يكتسبن نوعًا من الجمال الواقعي يمكنهنّ من  استخدام فنّ الظلّ والنور لتلوين بهجة الحياة. هكذا تغدق عليهن عينُ الجدة الحارسة نفحتها القمرية، فتغلق "مرسوم السيرة الشفهية"، لتربّت ظهورهن واحدة بعد أخرى لترسلهن في منامات بعيدة، يحلمن فيها بأسماك "السيلاكانت" 

وقوارب الصيد والأمواج المتلاطمة، ويستيقظن في الصباح الباكر بطاقات جديدة تجعل ممارسة العادات فريضة في وجدانهن.
تصدر قريبا عن دار صفصافة
وهى أول رواية تصدر بالعربية فى جزر القمر

أقرا ايضا | السفينة الشراعية «شباب عُمان» تتوج بجائزة الصداقة الدولية

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة